وجهة نظر

بقلم
حسن الجمني
السياحة بين الدّين والاقتصاد والبيئة - ج 1
 مقدمة:
  يبدو أنّه ما من صناعة في العالم لاقت من الرّواج مثلما لاقته صناعة السياحة خلال النصف الثاني من القرن الماضي، حيث بلغ الإنفاق السياحي في العالم في عام 1998 حوالي 445 مليار دولار، وأصبحت بعض الدول السياحية في العالم مثل: اليابان والهند والولايات الأمريكية المتحدة، وبعض الدول الأوروبية، تحقق دخلا كبيرا من السياحة. 
ونظرا لتطلّع بلدنا لأن يكون رائدا في مجال السياحة مثله مثل بقيّة بلدان البحر المتوسّط، سنعمل في هذه المقالة على بيان أبرز الجوانب المتعلّقة بالسِّياحة عامّة والسياحة البيئيّة خاصّة  من حيث التعريف بها وبمكوّناتها وأهميتها وتوضيح المقصود بالسائح البيئي ومسؤوليته. فما هي السياحة؟ وما هو موقعها من حياة الإنسان في الإسلام؟ وما علاقتها بالتنمية المستدامة؟
سنتناول في المقالة على جزءين الخلفيَّات الفكريّة الثقافية والفلسفيّة التي شجعت على تطوّر السِّياحة مع الإشارة إلى فوائدها على كلّ من الوطن والسّائح والمجتمع المحليّ معا، ونستعرض الآثار الإيجابية للصناعة السِّياحيّة عامّة والسياحة البيئية خاصة على البيئة والمجتمع مع إبراز العلاقة بين التغيرات الاجتماعية والاقتصادية والبيئية والسِّياحة خصوصاً في المواقع التي تعدّ حسّاسة لتلك التغيّرات. ونخصص الجزء الأول للحديث عن مفهوم السّياحة وأهميتها وتنوّعها وموقعها من حياة الإنسان في الإسلام.
I-1 - تعريف السياحة
 ورد في المعجم الوسيط: «السِّيَاحة: التنقل من بلد إلى بلد طلباً للتنزه أو الاستطلاع والكشف». وهناك العديد من التعاريف، تناولت موضوع السّياحة، بوصفه نشاطا، أو صناعة، منها تعريف الباحث هونزكيز(HUNZIKER)  كما  يلي:
«السياحة مجموع العلاقات والظواهر التي تترتّب على سفر، وعلى إقامة مؤقتة لشخص خارج مكان إقامته الاعتيادية، طالما أن هذه الإقامة المؤقتة لا تتحوّل إلى إقامة دائمة، وطالما لم ترتبط هذه الإقامة بنشاط يدرّ ربحا لهذا الأجنبي».
وبهذا يتبيّن القارئ أنّ السّياحة لغة واصطلاحا  تفيد ، في المحصّلة، مطلق الذهاب في الأرض للعبادة أو للتنزه أو الاستطلاع أو غير ذلك.
I-2- الأهمية الاجتماعية الحضارية للسياحة:
السياحة، من منظور اجتماعي وحضاري،  هي حركة دينامية ترتبط بالجوانب الثقافية والحضارية للإنسان الكائن  الحي الاجتماعي ؛ بمعنى أنّها رسالة حضاريّة وجسر للتواصل بين الثقافات والمعارف الإنسانية للأمم والشعوب.
وعلى الصّعيد البيئي تعتبر السّياحة عاملاً جاذباً للمواطن والسّائح الأجنبي لإشباع رغباته من حيث الترفيه والمعرفة بزيارة الأماكن الطبيعية المختلفة والتعرف على تضاريسها وعلى نباتاتها والحياة الفطرية فيها،  بالإضافة إلى زيارة المجتمعات المحلّية للتّعرف على ثقافتها وتقاليدها.
I-3- الأهمية الاقتصادية للسياحة:
وفّر قطاع السّياحة، عالميّا، خلال عام 2007، نحو 250 مليون موطن شغل، أي  ما نسبته 8 % من التشغيل العالمي، وذلك ما يعني توفير موطن شغل واحد من 12 يتأتى من السياحة؛ استنادا إلى بيانات منظّمة السّياحة العالميّة. كما سجّلت، خلال العام ذاته، عائدات بقيمة  800 مليار دولار . ويعتبر حوض البحر الأبيض المتوسّط الوجهة العالميّة الأولى للسّياح، بحيث تشير التّوقعات إلى إمكانية استقبال نحو 400 مليون سائح في غضون 2020.
ومن فوائد السّياحة على المستوى الوطني نذكر:
- زيادة دخل العملات الصّعبة نتيجة الخدمات السياحية؛
- زيادة وتنمية الناتج القومي الإجمالي للدّولة.
- مداخيل فردية للأسر والأفراد؛
- السّياحة قطاع تصديري، يأتي المستهلك إليه دون اللّجوء إلى العمليات التّجارية الدّولية؛
- تعمل السّياحة على زيادة التنمية في مناطق الظّل التي لم تستغل سياحيّا، إذ تتّجه السّياحة إلى  تنمية المناطق التي تتمتّع بخصائص طبيعيّة متميّزة وخصائص مناخية فريدة والتي غالبا ما تكون محرومة من  مرافق العمران.
- تنشط السّياحة قطاع النقل.
- تعمل السّياحة على زيادة الإنتاج في جميع القطاعات الاقتصادية الوطنية، 
- تساهم السّياحة في توفير مواطن شغل إذ تعد السّياحة والسفر أكبر مصدرين للعمالة في العالم،  حسب تقارير المنظمة العالمية للسّياحة. 
 I-4-السّياحة نشاط ديني يحثّ عليه الإسلام:
   وردت آيات عديدة في مصحف القرآن الكريم تحثّ المسلمين على  القيام بنشاط السّياحة بالمفهوم الذي قدمناه لما فيه من  فرص للنظر في خلق اللّه في الطبيعة وفي قدرته تعالى في الخلق والإبداع  وجماله والنظر في ما كان من الأمم السابقة والحضارات السّابقة عبر التّاريخ. جاء في سورة العنكبوت « قُلْ سِيرُوا فِي الأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الخَلْق ثُمَّ اللّه يُنْشِئُ النَشْأَةَ الآخِرَةَ إِنَّ اللّه عَلَى كُلِّ شَيْء قَدِير» (الآية 20). وبما أنّ  النّشاط السّياحي يقوم على «السّير» الذي يأمر به المولى عزّ وجلّ في الآية المذكورة، ويقوم أيضا على« مجموع العلاقات والظواهر التي تترتّب على سفر» فهو نشاط تعبّدي يمتّن علاقة العبد بربّه ويردّ بالتالي الناشز عن عبادة ربه إلى ربط علاقة أفضل معه نتيجة تبيّنه قدرة اللّه. وجاء في  سورة الحج« أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَتَكون لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُون بِهَا فَإنّها لاَ تَعْمَى الأَبْصَار وَلكِن تَعْمَى القُلُوب  التِي فِي الصُّدُور»( الآية 46). 
فالسفر، حسب الآية، له آثار نفسيّة  إيجابيّة على الذّهن والضّمير والشّخصية بصفة عامّة ذلك أنّ المعرفة، ومنها المعرفة بأسرار الخلق التي أودعها اللّه على هذه الأرض، تعتمد على السّمع والبصر والعقل وكلّ الحواس التي تساعد على عمليات الإدراك الذّهني. وجاء في سورة الرّوم بالمصحف الشّريف « أوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْف كَانَ عَاقِبَة الذَينَ مِنْ قَبْلِهِم، كانُوا أَشَدّ مِنْهم قُوّة، وَأثَارُوا الأرْض وَعَمَرُوهَا أكْثَر مَمّا عَمَرُوهَا»( الآية 9) وفي ذلك علاقة واضحة للسفر، المكوّن الأساسي للنّشاط السّياحي، بالمعرفة التّاريخيّة بالأمم السّابقة وآثارها والمعرفة الاجتماعية والتعرّف على أسباب تكوّن الأمم وانحلالها ورقيّها وانحطاطها وعمرانها وخرابها. وقال تعالى في سورة الأنعام: «قُلْ سِيرُواْ فِي الأَرْضِ ثُمَّ انظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ »( الآية 11) 
وقال سبحانه في سورة النمل: « قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ » (الآية 69) . وقد فسّرها القاسمي، رحمه الله ، في كتابه « محاسن التأويل»  بالقول : «هم السائرون الذاهبون في الدّيار لأجل الوقوف على الآثار، توصّلا للعظة بها والاعتبار ولغيرها من الفوائد. ( 16/225 ). وقد مجّد المولى سبحانه السائحين صراحة في قوله تعالى في سورة التوبة:« التَّائِبُونَ الْعَابِدُونَ الْحَامِدُونَ السَّائِحُونَ الرَّاكِعُونَ السَّاجِدونَ الآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنكَرِ وَالْحَافِظُونَ لِحُدُودِ اللّهِ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ » (الآية 112).
   هذه الآيات الكريمة ، وغيرها كثير،  تؤكّد  على أهمية وفائدة ، بل ضرورة، النشاط السّياحي بمعناه المعاصر. فهو أمر من اللّه جاء صريحا في قوله في سورة التوبة «فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ ۙ وَأَنَّ اللَّهَ مُخْزِي الْكَافِرِينَ » (الآية 9) وفق تفسير الطبري في الدعوات.
 I-5-دعاة السلفية الرافضون للسياحة خطر على الإسلام والمسلمين:
تدحض تلك الآيات القرآنيّة والفوائد التي سبق  بيانها ما ذهب إليه كثير من دعاة السّلفية المسلمين من رفض لهذا المعنى الذي قدّمناه للسّياحة. وهو رفض يتداولونه وينشرونه في مجالسهم «الدينية» وفي كتاباتهم وتسجيلاتهم على صفحات الفضاء الإلكتروني الاجتماعي (الفايس بوك والتويتر وغيرها). وهو أمر خطير جدّا لأنّه يؤدّي ببعض الشّباب إلى رفض السّياح الأجانب وتكفيرهم بينما هم يقومون، في الأصل، بنشاط يحثّ عليه الإسلام منذ زمن نبيّ اللّه ورسوله إبراهيم الخليل عليه الصّلاة والسلام حتى الآن. فرفض السّير في الأرض والدّعوة إلى رفضه جوهره حثّ على الإرهاب والعنف والتّكفير. ويؤسّس بعض الفقهاء رأيهم على مفهوم سلبي منتكس للسّياحة ورد في ما رواه ابن هانئ عن أحمد بن حنبل أنّه سُئل: «عن الرّجل يسيح أحب إليك أو المقيم في الأمصار؟ فقال : ما السّياحة من الإسلام في شيء ، ولا من فعل النّبيين ولا الصّالحين» ( تلبيس إبليس - 340 ) . ويذهبون إلى حدّ تحريم السّفر إلا إلى ثلاثة مساجد بناء على حديث ضعيف الإسناد رواه أبو هريرة عن النّبي صلّى الله عليه وسلّم ورد في صحيحي مسلم والبخاري قال فيه : «لَا تُشَدُّ الرِّحَالُ إِلَّا إِلَى ثَلَاثَةِ مَسَاجِدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَمَسْجِدِ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَسْجِدِ الْأَقْصَى » .رواه البخاري ( 1132 ) ومسلم ( 1397 ) .
   من ذلك نجد الشّيخ الفوزان يقول: «أمّا السّفر للسّياحة فإنّه لا يجوز؛ لأنّ المسلم ليس بحاجة إلى ذلك، ولا يعود عليه منه مصلحة تعادل أو ترجح على ما فيه من مضرّة وخطرعلى الدّين والعقيدة». (المنتقى من فتاوى الشيخ الفوزان - 2 / سؤال رقم 221)
 ومن عجيب ما يقرأ في « فتاوى اللجنة الدائمة « ( 26 / 224 )  ما يتعارض مع نصّ القرآن كما جاء في الآية التي تدعو المسلمين الى زيارة  الأماكن التي عاش فيها الكفار لرؤية آثار كفرهم فجاء في الفتوى :« أمّا زيارة آثار الأمم السّابقة وأماكنهم : فإنّ كانت أماكن عذاب، وقع فيها من الخسف أو المسخ أو الإهلاك لهم بسبب كفرهم بالله سبحانه، فلا يجوز حينئذ اتّخاذ هذه الأماكن للسّياحة والاستجمام». سئل علماء اللجنة الدائمة :يوجد في مدينة ( البدع ) بمنطقة تبوك آثار قديمة ومساكن منحوتة في الجبال ، ويذكر بعض الناس أن هذه مساكن قوم شعيب  عليه السلام  ، والسؤال : هل ثبت أن هذه هي مساكن قوم شعيب  عليه السلام  ، أم لم يثبت ذلك ؟ وما حكم زيارة تلك الآثار لمن كان قصده الفرجة والاطلاع ، ولمن كان قصده الاعتبار والاتعاظ ؟ . فأجابوا : اشتهر عند الإخباريين أن منازل « مَدْين»الذين بعث فيهم نبي الله شعيب عليه الصلاة والسلام هي في الجهة الشّمالية الغربية من جزيرة العرب، والتي تسمى الآن : ( البدع ) وما حولها، والله أعلم بحقيقة الحال، وإذا صحّ ذلك : فإنه لا يجوز زيارة هذه الأماكن لقصد الفرجة والاطلاع ؛ لأنّ النّبي صلى الله عليه وسلم لمّا مرّ بالحِجر ، وهي منازل ثمود، قال : ( لاَ تَدْخلُوا مَسَاكِن الذينَ ظَلموا أَنْفسَهم أَنْ يُصيبَكُم مَا أَصَابَهم إِلاَّ أَنْ تكُونوا بَاكِينَ)، ثم قنع رأسه وأسرع السّير حتى أجاز الوادي - رواه البخاري ( 3200 ) ومسلم ( 2980) - . قال ابن القيم رحمه الله  في أثناء ذكره للفوائد والأحكام المستنبطة من غزوة تبوك : ومنها : أنّ من مرَّ بديار المغضوب عليهم والمعذبين لا ينبغي له أن يدخلها ، ولا يقيم بها ، بل يسرع السّير ، ويتقنع بثوبه حتّى يجاوزها، ولا يدخل عليهم إلاّ باكياً معتبراً، ومن هذا إسراع النّبي صلى الله عليه وسلم السّير في وادي محسر بين منى ومزدلفة ، فإنّه المكان الذي أهلك الله فيه الفيل وأصحابه»(زاد المعاد 3 / 560 ) .
    فما نراه من انتشار الإرهاب الموجّه ضدّ السّياح في تونس (حادثتي باردو وسوسة 2015) وتركيا (12جانفي 2016) قد  تكون له صلة وثيقة بمثل هذه الفتاوى المخالفة للنّص القرآني المصدر الأول  للدّيانة الإسلامية والتي استبطنها العديد من شباب المسلمين المغرّر بهم.
  ويصل عبد الحليم توميات إلى حدّ تكفير من يفهم السّياحة المذكورة في القرآن بالمعنى المعاصر الذي ذكرناه، لذلك كتب في موقع له على الأنترنت (نبراس الحق) تحت عنوان مفهموم السّياحة في القرآن والسنّة: «حرَص المستدمرون على أن يَطْمِسوا كثيراً من الكلمات الإسلاميّة، والمصطلحات الشّرعيّة، الّتي تنسِف ما هم عليه من إلحاد، وتهدم ما يبنونه من وسائل الإفساد. فتراهم يأتون بكلمات ومصطلحات جديدة، أو يجرّدون بعض الكلمات الإسلامية من معانيها الحقيقية المفيدة، ويصرفونها إلى معاني أخرى إمّا أن تكون بعيدة كلّ البعد عن المعنى الشّرعيّ، أو تناقضه. ومن الكلمات القرآنيّة الشّرعيّة الّتي طُمِست معالمها، وضاعت معانيها هذا الزّمان: كلمة « السّياحة»، فصارت تدلّ على خلاف معناها، ويُجنَى منها نقيض مغزاها! وردت كلمة السّياحة في مواضع من القرآن الكريم، وسنّة النبيّ المصطفى الكريم صلّى الله عليه وسلّم، ولا تدلّ في موضع من تلك المواضع على ما علِق في أذهان النّاس اليوم، وإنّما كانت تعني طاعة الله تعالى، إمّا بالجهاد في سبيل الله جلّ وعلا أو الإكثار من ذكر الله تعالى، إمّا بالذّكر المطلق، أو بطلب العلم والثّبات على العبادة من صيام، وقيام، وهجرة إلى ربّ الأنام، ونحو ذلك.» 
فهذا الكاتب يرفض إعطاء السّياحة معنى السّير في الأرض ويربط السّياحة فقط بمعنى الصّيام والجهاد وهذا ما يعدّ تحريضا يسيئ للمسلمين في دينهم ودنياهم. فيحرمهم من معرفة خلق اللّه ومعرفة عاقبة الذين من قبلهم في ما له علاقة بعقيدتهم، ويحرمهم من منافع اقتصادية واجتماعية تتّصل بمعاشهم في الحياة الدنيا.
(يتبع)
----
- دكتور في علوم التربية، متفقد عام للتربية متقاعد
jemnihassen@yahoo.fr