نقاط على الحروف

بقلم
محمد الغمقي
الاسهام الإسلامي الحضاري في الغرب حاضرا ومستقبلا (1) : إعادة التوازن للإنسان
 لتحقيق هدف إعادة التوازن للإنسان، يحتاج الأمر إلى تصحيح المفاهيم والتصورات حول العديد من القضايا التي حدث فيها اختلال توازن تسبّب في انحرافات سلوكية ودمار للإنسان وبيئته. 
(1) على المستوى العقائدي الإيماني
أهم باب يحتاج إلى تصحيح هو العلاقة بين الجانبين المادي والروحي، وإحداث توازن بينهما.   
(1-1) علاقة الإنسان بربه
أول الطريق في إصلاح علاقة الإنسان بربّه تكون  بتفنيد مقولة «أن الله قد مات» التي بشّر بها فلاسفة ما يسمى بعصر النهضة، وانتهت بتأليه الإنسان لنفسه وللعلم، وما ترتّب عنه من تداعيات على مستوى علاقة الإنسان بنفسه وبأخيه الإنسان وبالكون. وأهم مدخل للقيام بعملية إصلاح التصورات في هذا الباب يكون عن طريق الإقناع بعدم وجود تعارض بين الدّين والعلم.
(1-2) العلاقة بين العلم والإيمان
من أهمّ القضايا التي تحتاج إلى توقف هي تصحيح النظرة إلى العلاقة بين العلم والإيمان، وربط هذا الأمر بالمسألة الخُلقية (Ethique) بتصوّر يختلف عن الدعوة إلى «أخلاقية» بالمفهوم العلماني. ويمكن في هذا الصدد تقديم التصوّر الإسلامي ذي البعد الإنساني للمعرفة والعلم، من خلال مقاربات إسلامية للعلوم الإنسانية والعلوم الصحيحة، وتصحيح المسار الذي تسير فيه البشرية، وخاصة الغرب؛ في مجال سباق التسلّح، والتسيب الخلقي، وغياب الهدفية في الحياة، واختلال التوازن البيئي، وفرض نمط من السلوك والتفكير والتعامل باسم العولمة. 
(2) على المستوى الاجتماعي
وعلى المستوى الاجتماعي؛ ينتظرُ المثقفين المسلمين دورٌ كبير فيما يتعلقّ بموضوع الأسرة، والتعامل بين مختلف الأجيال، والعلاقة بين الرجل والمرأة، وهو موضوع بالغ الأهمية لما له من تأثير في بقاء المجتمع وسلامته. وليس خافياً على أحد ما وصلت إليه هذه العلاقات من انسداد وتأزّم بسبب غياب المرجعية الدينية أو فتورها، وطغيان المادية والفردية، وأزمة القيم، إلى حدّ أن الإنسان في الغرب لم يعد يشعر بالسعادة رغم ما يمتلك من أموال وثروات ووسائل ترفيهية وتقدّم عمراني، الأمر الذي يفسِّر ارتفاع نسبة الجريمة ولجوء عدد من الشباب في ريعان العمر إما إلى الإدمان على المخدرات والخمر هروباً من الواقع، أو إلى الانتحار لوضع حدّ لحياتهم التي لم يعد لها أي هدف، وهو ما يُعدّ خسارة كبرى لطاقات وموارد بشرية تمثلّ عدّة الغد للمجتمعات الغربية. 
(2-1) إعادة الأمل للنفوس
وانطلاقاً من أنّ الدين الإسلامي رحمة للعالمين؛ فإنّ الواجب الديني-الإنساني يقتضي المساهمة، قدر المستطاع، في إرجاع الثقة والأمل إلى نفوس الناس وخاصة إلى الشريحة الشبابية التي يتأثر بها أبناء المسلمين، في ظل اليأس السائد من المستقبل، والذي يقود المرء أحيانا إلى الانتحار، ذلك أنّ الخلفية التي يجب أن تصاحب المسلم الداعية وهو يرشد الناس إلى الخير؛ تُبنى على النظرة المشفقة على البشر وليس على رغبة في الانتقام والتشفّي. 
«إننا أمام مرحلة جديدة من الصعود الإسلامي تبدو ملامحها الأولى من خلال مفارقة غريبة وهي أنّ فكرة المستقبل عند كل من العالم الإسلامي والغربي من خلال المسار الشعبي العام مختلفة؛ فالمخيلة الشعبية الغربية يستولي عليها اليأس والقنوط الشعبي وفقدان الأمل من المستقبل، أما في العالم  الإسلامي فنشاهد ولادة هاجس جماعي فاعل ومؤثر، يحيط بالمخيلة الإسلامية المعاصرة من التفاؤل والأمل بالمستقبل، لم يسبق له أن وجد بهذه الكفاءة والـتأثير، فهذه الحالة النفسية أو الدوافع الروحية الممتزجة بطاقة فكرية واقتصادية تخرج الإنسان من عبثية اللحظة القصيرة، وتتجاوز الخطط التنموية لتكون عقائد تصنع طريقتها لبلوغ مآربها».
(2-2) المرأة الإنسان
وبهذه النفسية؛ يكون الدخول من الباب نفسه الذي ينفذون منه عادة للتهجم على الإسلام، وهو موضوع المرأة، وذلك عبر شرح وتحليل وتفكيك وضع المرأة الغربية الذي لا تُحسد عليه، بهدف إجلاء حقيقة الفخّ الذي نُصب لها بتخطيط محكم حتى تتحوّل إلى بضاعة للإغراء، وإعادة الاعتبار للمرأة الإنسان التي كرّمها الله سبحانه وتعالى في جميع الأحوال، وهي بنت وزوجة وأمّ وعجوز. 
وإذا نجح المسلمون في توجيه الرأي العام الغربي نحو هذا الهدف الأخير فحسب؛ يكونون قد قدموا خدمة حضارية عظيمة للبشرية وللفكرة الإسلامية، ذلك أنّ تصحيح وضع المرأة يعني إنقاذ المجتمع بأسره، لأنه كما هو معلوم، تمثّل المرأة نصف كلّ مجتمع، ويتربّى النصف الآخر على يديها. وهذه المسألة من التحديات الكبرى التي تطرحها العولمة الثقافية ذات النمط الغربي (الأوروبي-الأمريكي) السائد؛ أمام العقول الإسلامية. 
ويرتبط بموضوع المرأة قضية التفكك الأسري الذي تعاني منه المجتمعات الغربية، وتقلّص قيمة قدسيّة الحياة الزوجية. وبدون شكّ؛ فإنّ الطرح الإسلامي الذي يؤمن بقدسية الحياة الزوجية المبنية على عنصري المودّة والرحمة، وما يعني ذلك من غرس قيم الحبّ والتواصل والاحترام في نفوس الأجيال الصاعدة؛ يمكنه أن يعالج أزمة القيم فيما يتعلق بالعلاقة بين الرجل والمرأة، وتقديم حلول لقضايا المجتمع المرتبطة أساساً بالمفهوم الشائع الخاطئ للحرية. ويبرز ذلك في معضلتين تعاني منهما المجتمعات الغربية والمجتمعات المقلّدة لنمط الحياة الغربية: 
(2-3) مخاطر الجريمة
المعضلة الأولى: ظاهرة تزايد الجريمة والعنف. وبحجة عدم التعدّي على حرّية الفرد ومراعاة الظروف القصوى النفسية وغيرها للمجرم؛ أصبح بإمكان هذا الأخير التعدي على حقوق المجتمع، لأنه يعلم أنّ العقاب الذي ينتظره لا يتجاوز السجن ولو لفترة طويلة. فانتشرت ظاهرة المجرمين الذين اعتادوا على الجريمة، لأنّهم اعتادوا على السجن. بل إنّ من المعضلات الاجتماعية في الغرب اليوم؛ قضية الاعتداء الجنسي على الفتيات والأطفال، المصحوب أحياناً بالقتل العمد الذي لا يمكن وضع حدّ له إلا بالحزم. وقد ارتفعت أصوات عديدة تطالب بإعدام مرتكبي هذه الجرائم، والجدل قائم حول مفهوم القصاص وعلاقته بحرية الفرد. 
والتصوّر الإسلامي واضح في هذه المسألة: (وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَوةٌ) (البقرة:179)، واعتبار ذلك شرطاً لاستقرار المجتمع وأمنه: (الَّذِى أَطْعَمَهُم مّن جُوعٍ وَءامَنَهُم مّنْ خوْفٍ) (قريش:4). والمسلمون بإمكانهم المساهمة في معالجة الانحراف الذي شاب مفهوم القصاص، عن طريق تصحيح مبدأ الحرية، المرتبط في جوهره بالمسألة العقائدية الإيمانية واستشعار الرقابة الدائمة من القوّة المتصرّفة في هذا الكون. 
(2-4) مخاطر الإباحية 
المعضلة الثانية: تتمثل في انتشار ظاهرة الإباحية والفوضى الجنسية، وفي الوقت نفسه العمل على تطبيع المجتمعات الغربية مع الشذوذ والزواج بين الشواذ، حيث لم يكتف هؤلاء بالمطالبة بحقوقهم والاعتراف بهم مثل المتزوجين العاديين؛ بل إنّهم ينظمون المظاهرات الاحتجاجية على محاكمة الشواذ في البلاد العربية – الإسلامية، مثلما حصل في مصر. ويبدو من خلال العديد من المؤشرات؛ أنّ التيار المحافظ السائد لدى الرأي العام الغربي مستاء من ظاهرة الشذوذ. 
ويمكن للمسلمين المقيمين في الغرب التحالف مع هذا التيار، بهدف غرس القيم التي تتفق والفطرة البشرية، والإقناع أنّ ظاهرة الشذوذ مرتبطة بالانحراف في فهم مبدأ الحرية وحدودها. ذلك أنّ التعريف المتداول هو أنّ حدود الحرية شعارها: «حريتك تقف عندما تبدأ حرية الآخرين». وهذا الشعار يتضمّن معنى مطاطياً قابلاً للتأويل، كلّ حسب هواه. 
وبناء عليه؛ ظهر في هذه المجتمعات من يدعو إلى الإباحية باسم الحرّية، فيقول: «أنا حرّ في بدني أتصرّف فيه كيف أشاء». فانتشرت الفوضى الجنسية، وظهرت أمراض جديدة مثل «السيدا» (بالفرنسية) / «الأيدز» (بالإنجليزية)، الأمر الذي يتطلّب تصحيحاً مفهومياً لمبدأ الحرية، وضبطاً للحقوق والواجبات والحدود، علماً بأنّ القوانين الوضعية نفسها تعطي الحق للدولة أو السلطة التي تمثلها للتدخّل من أجل منع الفرد من التصرّف بالشكل الذي يكون خطراً على نفسه وعلى المجموعة. 
 (3) على المستوى الثقافي
وعلى المستوى الثقافي؛ فإنّ المجتمعات الغربية تعطي أهمية كبيرة للناحية الفنية الجمالية والتعبير عنها بأساليب وفنون عدّة مثل المسرح والسينما والموسيقى والأدب، وفي غياب وضوح الرؤية والمرجعية الفكرية المحدّدة؛ اتسمت بعض المحتويات المقدّمة بسطحية في الموضوع وفي منهجية تقديمه عبر إثارة الغرائز الحيوانية أو العدوانية لدى الإنسان، مثل النعرات العرقية- العنصرية، وكراهية «الآخر»، واستعمال وسائل الصخب والتهريج للتعويض عن الخواء الروحي، وتفشت ظاهرة «النجومية» التي تتعلّق بها الأجيال الصاعدة إلى حدّ التقديس، خاصة في مجالي الرياضة والموسيقى. 
والباب مفتوح أمام المسلمين لتقديم بدائل في المجال الفنّي، تساهم في الارتقاء بوعي الإنسان، وترسيخ قيم الخير والاستقامة لدى الفرد والمجتمع. وليس بالضرورة أن تحمل كل هذه البدائل لافتة إسلامية، والأهمّ هو التعبير عن الفكرة الإسلامية والقيم الإنسانية التي تتضمّنها، والخروج من النّظرة الضيقة التي تحصر المجال الفني الجمالي في دائرة الحرام والحلال. 
فقد بقي الخلاف قائماً إلى يومنا بين المسلمين حول هذا الموضوع، واستغلت التيارات العلمانية الحاقدة على مشروع النهوض الإسلامي هذا الفراغ، فقامت بتسريب سمومها إلى الشباب، ووجدت الدعم من جهات غربية حريصة على انتشار هذا الصنف من الفنّ في صفوف أبناء المهاجرين، بل إنّ صداها وصل إلى البلاد الإسلامية. 
وما تزال المحاولات الفنية الإسلامية في حاجة إلى تطوير بترشيد فقهي تأصيلي، حتى تكون في مستوى تطلّعات الأجيال الجديدة التي تهوى الفنون بجميع أشكالها (القصة، الرواية، السينما، المسرح، الموسيقى..). 
وبفضل ما يملك المسلمون من تراث فني عريق، خاصة في المجال المعماري كما تشهد على ذلك الأندلس، والخط العربي الذي يجد اهتماماً عالمياً؛ يمكن أن تطوِّر الكفاءات المسلمة العطاء الفني الإسلامي ذي البعد الإنساني العالمي، من خلال استراتيجية واضحة تقوم على نظافة الغاية ونظافة الوسيلة. 
(4) على المستوى السياسي
أما على المستوى السياسي؛ فإنّ الملاحَظ هو تنامي ظاهرة زهد نسبة من الرأي العام الغربي في الحياة السياسية. البعض يفسّر هذه الظاهرة بتراجع مصداقية السياسيين لدى الشعوب الغربية، بعد أن ارتبط عالَم السياسة في نظرهم بالفساد والفضائح والتنافس على المناصب لتحقيق مصالح ذاتية. والبعض الآخر فسّرها بعدم الشعور بوجود فوارق كبرى بين التيارات السياسية بمختلف اتجاهاتها ( يمين ويسار ومحافظ وليبرالي ..) في السياسات المطبقة على أرض الواقع. فمهما كان الفريق الذي سيصل إلى السلطة، فإنه مطالب بتحقيق الحاجيات الضرورية لشعبه. وهذه الضمانات المتوفرة في البلاد الغربية من العوامل التي تزهّد الناخبين في الذهاب إلى صناديق الاقتراع  والإدلاء بأصواتهم لهذا الطرف أو ذاك. إلى حدّ أن بعض المحللين يتحدّث عن أزمة الديمقراطية على الطريقة الغربية.
ثمّ إنّ الواقع أثبت وجود العديد من الثغرات والسلبيات في تطبيق هذا النظام في البيئة التي نشأ فيها، خاصة في المسائل المتعلّقة بالتمثيل النسبي واحترام حقوق الإنسان والأقليات، والأخلاقية السياسية والنظام الحزبي، الأمر الذي يقود إلى التساؤل عن مدى صلاحية الديمقراطية على الطريقة الغربية في أن تكون النظام السياسي المثالي لكل البشر. فقد تكون صالحة للمجتمعات الغربية؛ ولكنّها ليست بالضرورة صالحة لمجتمعات أخرى؛ لأنّها ثمرة تفاعلات وصراعات وفلسفات من رحم المجتمع الغربي بخصوصياته. 
وبناء عليه؛ فإنّ الطرح الإسلامي يقدّم تصوّرات بإمكانها أن تُخرج الديمقراطية على الطريقة الغربية من السلبيات التي تتسبّب في إعاقة النشاط السياسي. فإنّ علاقة الحاكم بالرعية يحكمها في الإسلام مبدأ الشورى، ولا تخضع لأية علاقة بالمعنى الثيوقراطي، أي أنّ الحاكم ظل الله في الأرض، وغيرها من التصورات التي لا يقرّها الإسلام. والشورى ليست شعاراً يُرفع؛ وإنما مبدأ للتطبيق على أرض الواقع، بما يعنيه من حق الاختلاف في الرأي والمعارضة وواجب الالتزام برأي الجماعة أو الأغلبية، دون أن تُنتهك حقوق الأقلية. أما الشكل الذي تتم به الشورى؛ فليس فيه نص واضح، ومتروك للاجتهاد لترجيح ما يلائم كل عصر. 
ويحتاج مبدأ الشورى إلى مزيد من التوضيح والتعميق والتأصيل ليكون مقبولاً من المجتمعات الغربية. ولا يقتصر الأمر على التوضيح ومحاولة الترشيد النظري، بل المطلوب أن تبرز كفاءات سياسية من رحِم الجاليات المسلمة تكون قدوة في المجال السياسي بما تقدّمه من عطاء مقرون بالأخلاق الإسلامية.  
والمسلمون قادرون، من خلال مفكريهم وباحثيهم ومؤسساتهم؛ أن يدعموا ما يتماشى من القوانين الصادرة عن البرلمانات الغربية مع فلسفة الإسلام في احترام كيان الفرد وحفظ المجتمع وبثّ قيم الخير والعدل. ويُسجّل في حالات عديدة مصادقة نواب برلمان هذا البلد الغربي أو ذاك على قانون مثل منع شرب الخمر عند السياقة، أو منع ضرب النساء من طرف أزواجهن، والتحرّش الجنسي في العمل، أو احترام الخصوصيات الثقافية للأقليات، وغيرها من القوانين والإجراءات التي تخدم الفكرة الإسلامية بصورة غير مباشرة، وتلتقي مع التصوّر الإسلامي للكون والإنسان والحياة. 
ومما ييسّر هذا التفاعل؛ طبيعة هذا الدين وخصائصه، والتي من بينها الواقعية والشمولية والإنسانية. 
وفي المقابل؛ يمكن أن يشكل المسلمون عنصر ضغط لمنع الإجراءات والقوانين الوضعية عندما تكون خاضعة للأهواء ولموازين قوى سياسية وأيديولوجية، والتي تستهدف القيم الإنسانية، بالتعاون مع الأطراف الجادّة الدينية والمثقفة.
ثمّ إنّه يلاحظ تزايد دور المجتمع المدني في المجتمعات الغربية من جمعيات ومنظمات ونقابات تهتمّ بالشأن العام خارج المؤسسة السياسية الرسمية. والتراث السياسي الإسلامي يزخر بهذا الدور نفسه فيما يسمّى بـ»المجتمع الأهلي». 
كما أنّ العلاقات الدولية تحتكم في التصوّر الإسلامي إلى مبادئ وقيم ثابتة في إطار احترام التعددّ الثقافي والسياسي، وتقارب الشعوب وتعارفها: (يأَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَكُم مّن ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُواْ إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عَندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ) (الحجرات:13). 
(5) على المستوى الاقتصادي
أما على المستوى الاقتصادي؛ فيمكن الانطلاق مما توصل إليه الناقدون الغربيون أنفسهم من نقد للأبعاد الاقتصادية لكل من الاشتراكية والليبرالية، والنتائج المترتّبة على تطبيق مثل هذه المبادئ في الواقع. ومن بين السلبيات التي تم التركيز عليها انتشار العقلية الاحتكارية الربحية الجشعة، التي تكون تارة سمة السلطة المركزية ومؤسساتها في الاشتراكية، وأخرى سمة الشركات الرأسمالية الكبرى في الأنظمة الليبرالية. ولعل مرض «جنون البقر» صورة من هذه الصور البشعة لهذه العقلية، حيث ثبت علمياً أنّ السبب الرئيس لهذا المرض يعود إلى تقديم دقيق الحيوانات الميتة المطحون كطعام للبقر الذي يصاب فيما بعد بالجنون. 
ويكفي هذا المثال للدلالة على أنّ النجاح الاقتصادي لا يتوقف على حسن التخطيط والتسيير والإمكانات المادية والبشرية فحسب؛ وإنما هو مرهون أيضاً بالمنظومة الخلقية التي تُبنى عليها العملية الاقتصادية. 
وعلى الكفاءات الإسلامية المتخصصة في المجال الاقتصادي أن تبرهن على سموّ التصوّر الاقتصادي في الإسلام، الذي يأمر بالقسط والعدل دون أن يكون ذلك على حساب الملكية الفردية، اعتماداً على مبدأ «كل حسب جهده وبلائه وحاجته»، والتأكيد على قيمة العمل وكراهية العبد البطال، وعلى الروح التضامنية، من خلال اعتبار المال أمانة في أيدينا، للفقير والمحتاج حق فيها عن طريق الزكاة والصدقة، وهذا ما يقودنا إلى البعد الاجتماعي المهم.
(6) دعم الوعي البيئي
بفضل ما يمتلك الباحثون ذوو الالتزام الديني من تصوّرات وثقافة ذات طابع ديني؛ يمكنهم المساهمة بأقدار كبيرة في قضايا حيوية مثل الحفاظ على البيئة، وهذه قضية جدّ خطيرة، يدل على ذلك بروز أحزاب في البلاد الغربية تسمى بالخُضْر، تزداد شعبيتها يوماً بعد يوم في ظلّ الأخطار التي أصبحت تحدق بحياة الإنسان ومحيطه جرّاء انتشار العقلية الربحية القائمة على الاحتكار والأنانية. 
ويمكن للطرح الإسلامي، إذا حسًُن تقديمه؛ أن يساهم في دعم الوعي البيئي المتزايد لدى الرأي العام الغربي، بما يساهم في كبح جشع المؤسسات متعددة الجنسيات والأطراف المحتكرة للثروات الطبيعية. وقد أشار القرآن الكريم إلى ذلك في قوله تعالى: (ظهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أيدي النَّاسِ) (الروم:41)، بما يتماشى وفلسفة الإسلام للإنسان والكون والطبيعة، والتناغم بين الإنسان ومحيطه، بالنظر إلى وحدة الخَلق وتسخير الكون للإنسان، ذي المهمّة الاستخلافية في هذه الأرض، التي عليه تعميرها وليس تخريبها. 
  -----
- أستاذ الحضارة بالمعهد الأوروبي للعلوم الإنسانية بباريس 
gham_fr@yahoo.fr