تدوينات

بقلم
محمد الصالح ضاوي
رسالة إلى نزار قباني
  نزار قباني قبل الموت، وفي مرضه الأخير، كما نقلت ذلك جريدة الثورة السورية بتاريخ 3/5/1998م يقول:

 

(السكنى في الجنة..
 والسكنى في دمشق.. شيء واحد..
الأولى تجري من تحتها الأنهار..
والثانية تجري من تحتها القصائد والأشعار).
ويبدو أن نزار قباني لا يرى إلا من تحت، كما عودنا في قصائده.. وإن ارتفع، فإنه لا يتجاوز النهود والحلمات... وربه الذي يدين له بالعبودية والخضوع ما هو إلا الشفتين.. وليس غير الشفتين.... كما قال في ديوانه: قصائد ص 135:
(قد كان ثغرك مرةً ربي، فأصبح خادمي..).
 نزار غادرنا وهو لا يرى من فوقه، ولا يرفع رأسه ولا يرمي ببصره، ليشاهد القنابل والرصاص والنيران، تنهمر على مدن الشام... أخوات دمشق... الجنة التي تمر من تحتها أنهار الشعر والقصائد.... ومن فوقها.. من سمائها الدنيا.. تنهمر عليها صنوف العذاب... لتجعل من عيشها نكدا.. ومن حياتها موتا.. ومن نعيمها جحيما...
نزار.. لو قدر له أن يكون حيا ويعيش مأساة سورية... هل يغير مجرى نهر الجنة، من تحت دمشق؟؟؟ أم هل يسلب عاصمة الشام، صفتها السرمدية؟؟
نزار تغنى قبل ذلك ببيروت، حين كانت وطنا للحب... في كل مكان... في كتابه (قصتي مع الشعر) يقول نزار قباني في ملحق الصور:
(قرري أنتِ إلى أين ؟
فإن الحب في بـيروت
مثل الله في كل مكان !..).
وحين فقدت بيروت سلمها وأمنها... تخلى عنها نزار وأضاعها وسط خريطة الجنة، ونسب ذلك إلى إلهه زورا وبهتانا.. فقال:
(الله يفتش في خارطة الجنة عن لبنان)
ما أصبرك يا أيتها الشام الأبية: تغتالين من الأحياء والأموات... والأحرار والعبيد.... من فوق ومن تحت... لله درّك يا مدينة الصبر والشموخ.... يغتالونك ألف مرة ومرّة... وتأبى على الموت... تتقاذفك قصائد الشعراء وكلمات الخطباء والكتاب... وتباعين وتشترين في سوق الفتاوى والصكوك... يقسمون شعبك إلى نصفين: نصف في يده الحديد .. ونصف بقوة صبره المجيد... حتى أصبحنا نشك في شعرك... في عقيدتك... في إيمانك... حين تقول في ديوانك (لا غالب إلا الحب) صفحـــــة 18:
أقول :
لا غالب إلاّ الشعب
للمرّة المليون
لا غالب إلاّ الشعب
فهو الذي يقدر الأقدار
وهو العليم، الواحد، القهار...
كذبت يا نزار... حين وصفت دمشق بغير صفتها... وروجت الأكاذيب والأوهام... حين اعتبرتها جنة تجري من تحتها الأنهار... أنهار القصائد والشعر... والحال أنها مدينة أرضية... تجري من تحتها أنهار الدماء والأشلاء... بقضاء وقدر قاهرها وواحدها....
خنتها يا نزار... وأنت لا تزال حيا بيننا.... حين رأيت الشرف العربي يذبح في عمان... بأيدي عربية... يومها تصورت أن الله قد ذبح.... وأن التاريخ رجع القهقرى، ولم تتعلم الدرس:
(حين رأيت الله.. في عمّان مذبوحاً..
على أيدي رجال البادية
غطيت وجهي بيدي..
وصحت : يا تاريخ !
هذي كربلاء الثانية..)
خنتنا حين بشرتنا بالحلم والريحان والبلسم والجنة والحور.. في زمن الأسود والفهود والدينصورات... خنتنا حين أبيت الشهادة للشعب.. واستسلمت لجسد امرأة... فوت علينا الإيمان واليقين... وأنت تعلم علم اليقين أن الجاسوس يطل من الباب... من كل الأبواب والثقوب...
ذهب الشاعر يوماً إلى الله..
ليشكو له ما يعانيه من أجهزة القمع..
نظر الله تحت كرسيه السماوي
وقال له: يا ولدي
هل أقفلت الباب جيداً ؟؟.
كيف ترنم ترنيمة الرّب في أرض غريبة؟؟؟ كيف تنثر قصيدة في أرض
جرداء؟؟ كيف تسيّر نهرا تحت أرض ظلماء...
خنتنا يا نزار حين تركتنا للأسد.. ليفترسنا.. بنهم... بشره... بحبّ.... بكره... بجدّ... بهزل.... بيقين... بإيمان... بكلّه... بجلّه... بطمّه وطميمه.... خنتنا حين تركت لنا قصائد النهود والحلمات والشفاه... حين بحثت عن وطن خارج الوطن...
(امنحيني وطناً في معطف الفرو الرمادي..
اصلبيني بين نهديك مسيحاً..
عمِّديني بمياه الورد.. وعطر البيلسان)
 آه منك يا نزار... عرفت الحق، وحدت عن طريقه... عرفت أنّ:
(كل العبادات في شرقنا العربي أفلست
كل أصنام القش والتبن تساقطت
 صارت البندقية خُلاصة المعبد
وخُلاصة كل العبادات)
لكنك ظللت في عنادك وهواك وغيك... تتبع سبيل الغواية والفتنة... وتجر وراءك جيلا من العرب والمتعربة... ماذا تقول لهم اليوم؟؟؟ ما عذرك اليوم؟؟ وما حجتك؟؟ هلا تنكرت لقصائدك الوردية الممتلئة شوكا؟؟؟ هلا اعتذرت لشباب الثورة.. الذين انخرطوا في الجهاد... بعد أن كتبت:
أقرأُ آياتٍ من القرآن فوق رأسه
مكتوبةً بأحرف كوفية
عن الجهاد في سبيل الله
والرسول
والشريعة الحنيفة
أقول في سريرتي:
تبارك الجهاد في النحور، والأثداء
والمعاصم الطرية..
يا أيها الدمشقي الذي احترف الهوى والفتنة والغواية... والخيانة والكذب.... دمشق.. ومن حولها العرب والأعراب.... أصبحت وطنا بلا نوافذ... هربت من تحتها القصائد والأشعار... جنة بلا أنهار... وطن للكفار والفجار... استباحوها بالحديد والنار...
(وطن بدون نوافذ..
هربت شوارعه.. مآذنه.. كنائسه..
وفر الله مذعوراً..
وفر جميع الأنبياء)
وا أسفي على دمشق.. على حماة.. على إدلب.. على حمص... على القرى والديار... أصبحت فريسة للأسد.. الشديد الجبار... والثوار مستبسلون... ونزار يبحث عن وطن ثان:
(أريد البحث عن وطن..
جديد غير مسكون
ورب لا يطاردني
وأرض لا تعاديني)
 خنتنا... وخنتنا... وخنتنا... لا رحم الله قصائد، كنت فيها الفارس المغوار...
-------
        - باحث في الاسلاميات والتصوف
        dhaoui66@gmail.com