الإنسان والكون

بقلم
أ.د.فوزي أحمد عبد السلام
إشكالية الإلحاد والعلوم الطبيعية - ج 2
 إشكالية الإلحاد والعلوم الطبيعية
تمثل العلوم الطبيعية بمنهجيتها القائمة علي الملاحظة، الفرضية، التجربة، الإستنتاج إنجيلا للملحدين المعاصرين، والفيزياء أهم آياته على الإطلاق، برغم ما في الكلمة من إشكال، فهم ملحدون فكيف يكون لهم إنجيل؟، وما أجمل عبارة عالم الفيزياء الشهير فيرنر هيزنبرج، صاحب «مبدأ عدم اليقين، أحد أعمدة فيزياء الكم» «أول جرعة من كأس العلوم الطبيعية تحوّلك إلى ملحد، لكنك ستجد الله عند اكتمال الكأس» وبالرّغم أنّي لم أجد هذه العبارة في كتاب محدّد يعزي إلى «فيرنر هيزنبرج» لكني وجدّتها منشورة في مواقع أجنبية كثيرة تعني باقتباسات من كلام هيزنبرج  بالإضافة إلي وجوده في [1] ونص العبارة بالإنجليزية هو:  
“The first gulp from the glass of natural sciences will turn you into an atheist, but at the bottom of the glass God is waiting for you.”  
تبدأ القصة في عام 1600م عندما حرقت محاكم التفتيش الراهب الدومينيكي الذي خلعه الفاتيكان جيوردانو برونو [2]  حيًّا في روما لأجل اعتقاده في بشرية المسيح، ومن أجل قوله بأنّ الله سيعفو عن الشّياطين في النّهاية، و لقوله بأنّ الكون بلا نهاية تنفخ فيه الحياة روح واحدة ، وأنّ الأرض التي نسكن فيها ليست مكانَ الحياة الوحيد، وكما يقول عدي الحربش في مدونته [3] بتصرف استمدّ جيوردانو برونو كلّ هذه التصورات من نظراته التأمّلية للنّجوم، كان يردّد وهو يرى ملايين النّجوم تتألقُ في السّماء: «لو أنّ للجمال صورةً مطلقة لكانت هذه! لا بدّ أنَّ وجهَ الله يطلُ عليها، ولا بدّ أن النورَ الذي تعكسهُ هو نورُه». 
كان ينادي «أنا لا أستطيع أن أتنكّر لتصوري الجمالي لإلهي، لا أستطيع أن أحيا تحت سماء و كون لا يعكسان تصوري لله». كيف أتصوّر أنّ الرّب غير نهائي القدرة الذي صنع هذا الكون اللاّنهائي والبديع، ومن ثمّ نصلبه بكل بساطة على الصليب؟. في هذه القصّة لا بدّ من تساؤل كيف أمكن لهذا الرّجل أن يصبر حتى النّفس الأخير؟ كيف أمكن أن يجتاز مراحل التّعذيب المختلفة، الواحدةَ تلوَ الأخرى، دون أن تحدّثَه نفسه ولو لمرةٍ واحدة  بتلك الفضيحة الهائلة؛ حين يصرخُ بأعلى صوته: «أطلقوني، لم أعد أحتمل! وها هو عقلي وقلبي اِمْلَؤُوه بما شئتم من الأفكار، لن أخالفكم بعد اليوم» يكاد يجزم المتأمل بأنّ هناكَ شيئاً ما يملأ كيانه! شيئاً ما يفصله عن العالم الخارجي، يتجاوز بشريته، ربّما هيَ فكرةٌ بالغة الجمال والكمال والجلال، ربّما هي نفس الفكرةِ التي يموت من أجلِها العظماء». 
 ومنذ ذلك الحين دخل اللاّهوت المسيحي والعقل العلمي الحُرّ في صراع وجود وعلى إثره اتّجه علماء الطبيعة والرّياضيات وفلاسفتهما إلى مخاصمة الدّين من جهة ومن جهة أخرى إلى استقلالية الطّبيعة والكون عن عالم الميتافيزيقيا (الغيب) استقلالا مطلقا ليصبح الإنسان تائها وسط جزر منفصلة بين الاضطهاد والإنكار، الاضطهاد الذي يمارسه رجال الدّين المسيحي حينها من جعل غير المقدّس مقدّسا مثل النّظرة الأرسطية للعالم والإنكار لكلّ ما هو مقدّس من قبل رجال العلم. هذا الموقف تولّدت عنه رؤية «تأسّست عليها العلمانية» سادت في الأوساط العلمية منذ ذلك العهد تقضي بأنّ العلم والدّين يسيران في مسارين متناقضين لا يلتقي أحدهما بالآخر، وقد تمّ ترجمة  العبارة الآتية «separating the church and the state» إلى عالمنا العربي والإسلامي بشكل لا يخلو من نيّة سيئة  أظنّها علمنة الإسلام من الدّاخل «فصل الدّين عن الدولة» لتعمّ أيّ دين يجب أن يفصل عن الدّولة، وتخصّ ديننا الإسلامي في المنطقة.
تعزي هذه المقولة التأسيسية للفيلسوف الإنجليزي «جون لـوك»(1632-1704) [4] بذلك نشأ تيار عقلي صرف في الأوساط العلميّة كانت له السّيادة الفعليّة، لا يجد أيّة ضرورة لوجود قوّة غيبيّة تتدخّل في نظام الكون أو خلق الحياة. وقد عبّرت عن هذه الرّؤية إجابة عالم الفلك والرّياضيات والفيزياء الملحد «بيير لابلاس» للقائد العسكري الميكافيللي «نابليون بونابرت» حين سأله عن سبب غياب ذكر الله من كتابه الميكانيكا السماوية حيث قال لابلاس لنابليون: «يا سيدي إنني لم أجد لهذه الفرضيّة ضرورة لفهم نظام السماوات»  [5].
متلازمة استمرار تغيير النّظرة في للعلوم الطبيعية
مع نهاية القرن التّاسع عشر ظنّ الفيزيائيّون أنّهم توصّلوا إلى اكتشاف معظم قوانين الطبيعة وأنّهم قادرون على تفسير ظواهرها من خلال قوانين الحركة وقانون الجذب العام، تلك القوانين التي صاغها «إسحاق نيوتن» في كتابه «مبادئ الفلسفة الطبيعية» ومن خلال قوانين الانتقال الحراري و(الديناميكا الحرارية) التي اكتشفها «كارنو»، و«هلمهولتز»، و«كلفن»، و«كلازيوس»، و«بولتزمان» وغيرهم، وكذلك من خلال قوانين الإشعاع الكهرومغناطيسي التي أبدع توحيدها في نظرية واحدة الفيزيائي البريطاني «جيمس كلارك ماكسويل» بعد أن كان «فاراداي»، و«أمبير»، و«كولوم»، و«لنز»، و«هرتز» وغيرهم ـ قد اكتشفوا أصولها.
 بذلك بدت معضلات ظواهر الطّبيعة قابلة للفهم والتّفسير العقلي دون إشكال كبير، وعلى أسس منطقيّة وحسابات رياضيّة متّسقة مع ذاتها. ولم يتبقّ أمام الفيزيائيين إلاّ ملاحقة بعض التّفاصيل الدّقيقة هنا وهناك كقياس سرعة الأرض بالنّسبة إلى الأثير، ذلك الوسط الافتراضي الغريب الخواص الذي فرضت وجوده متطلّبات انتقال الموجات الكهرومغناطيسية عبر الفراغ الكوني؛ فالموجة لابدّ أن تنتقل خلال وسط يحملها، ولذلك لابدّ من وجود الأثير كوسط ناقل للموجة الكهرومغناطيسية. كما كانت هنالك معضلة صغيرة أخرى وهي ظاهرة شذوذ تصرّف الإشعاع الحراري عمليًّا، واختلاف نتائج التّجارب عن ما تقضي به النّظرية الكهرومغناطيسية.  
لكن المفاجأة جاءت مع بداية القرن العشرين، إذ لم تجد محاولات الفيزيائيين نجاحًا لفهم تلك التفاصيل الدّقيقة حول قضية الأثير، فالفيزياء التي يعرفونها غير قادرة على تقديم حلول ناجعة، وبقي الأمر مستغلقًا، ولم تنفع جهودهم لتوحيد قوانين الإشعاع الحراري في صيغة واحدة، حتى جاء «ألبرت آينشتين» بنظرية جذرية تقوم على مفاهيم مستحدثة وتصورات جديدة للتّعامل مع المكان والزّمان والحركة والطّاقة، فكانت نظرية النّسبية الخاصّة التي كان من نتائجها أن أصبحت قضية الأثير وقياس سرعة الأرض بالنّسبة إليه شيئًا من التّاريخ العلمي البائد. إذ تبيّن أنّ لا ضرورة لفرض وجود الأثير. بل هناك ضرورة لفرض أن تكون سرعة الضّوء في الفراغ ثابتة لا تعتمد على الحالة الحركية للمشاهد. 
وكما جاء «ماكس بلانك» بتصوّر جديد للتّعامل مع الإشعاع الحراري، فأصبحت الطّاقة وفق هذا التّصور تنبعث وتنقتل وتمتصّ على شكل رزم تسمّى كمات محدّدة ومنفصلة، بدلاً عن ما كان معتقدًا من أنّها تسري كتيار متصل. وسرعان ما وجدت هذه الأفكار توظيفًا في عالم الذّرات والجزيئات، وأمكن عن طريقها فهم بنية العالم الذري، وبالتّالي تفسير خواص الطّيف الإشعاعي المنبعث عند تسخين المواد، تلك الخواص التي لم تكن مفهومة تمامًا في السابق.
من المجسد إلى المجرد
جاءت نظريتي النّسبية والكم بمفاهيم جديدة غريبة على العقل، غريبة على الإحساس العام أو الشّائع، فمفهوم البُعد الرّابع واندماج الزّمان بالمكان في كيان رياضي وطبيعي واحد متّصل، ومفهوم الأمواج المادّية ودالّة الموجة والتّعامل الإجرائي مع المتغيّرات الفيزيائية ـ قد غيّر الصّورة العقليّة عن العالم. وهنا وعند هذه النّقطة التّاريخية بالذّات انتقل العلم من التّعامل مع المجسّد عبر المعمل والتّجارب المشاهدة إلى التّعامل مع المجرّد والتّجارب المثاليّة التي لا يمكن صياغتها في الواقع، فأصبح فهم الظّواهر الطّبيعية يقوم على ما يمكن تصوّره في الذّهن عبر بنيات العوالم المجرّدة التي تحكمها الرّياضيات بفروضها ونظرياتها الثّرية، والتي لها صيغ عقليّة قد ترهق التّصور الذّهني  جدّا في فهمها، وأوضح مثال على ذلك تصوّر الأبعاد الأكثر من ثلاثة، بل تكتفي بالتّعبير الرمزي الذي يستخدم لغة الإجراءات، والعوالم المتعدّدة الأبعاد تعبّر عن نفسها بالرّموز والحروف الصغيرة والكبيرة واللاّتينية والإغريقية والمائلة والمعوجة لتصوّر أحداث العوالم الذّرية وتحت الذّرية ممّا يمكن رؤيته وما لا يمكن رؤيته. يقول تعالى «فَلآ أُقْسِمُ بِمَا تُبْصِرُونَ * وَمَا لا تُبْصِرُونَ» (الحاقة  39 ـ 38). هنا يمكن أن نقول إنّ الفيزياء دخلت في كنف التّعامل مع الغيب بمفهوم الغير مشاهد فقط، أي ما أسميه أنا الغيب النّسبي، أمّا الغيب المطلق فما لا سبيل لتصوّره أصلا ولو بشكل مجرّد فقط.  وبالتّالي صار المجرّد النّسبي لازمًا لفهم المجسّد، وغدت النظريّات العلمية صورًا عقلية لنمذجة الطّبيعة، وغابت الحقيقة بمفهومها التّقليدي، فأصبحنا نتحدث عن (النموذج الأصح) بدلاً من الحديث عن (النموذج الصّحيح الوحيد)، إلاّ أنّ ما يميّز هذا الغيب الفيزيائي عن الغيب الدّيني هو احتكام الأول إلى التّجربة والقياس ممّا لا نجد له مثيلاً في حالة الغيب الدّيني. وبالتّالي يبقى التّصور الفيزيائي تصورًا عقليًّا قابلاً للفحص والتّحقق التجريبي مستقبلا بل وقابلاً للتّغير أيضًا. إلاّ أنّه يبقي لكلّ علم حتّى من العلوم الطبيعية مسلّماته والتي لا يمكن قياس صحّتها أو خطئها تجريبيّا في ظلّ عصرسيادة هذه المسلّمات، إلى أن يظلنا عصر جديد يبرهن على صحّة هذه المسلّمات وتصبح مبرهنات أو يمكن التّحقق من صحّتها تجريبيّا، ولكني أكاد أجزم من مسيرة العلم أنّ العلم الطبيعي في العصر الجديد سيكون له مسلّماته الجديدة، وبالتّالي نجد أنفسنا نتعامل مع غيب نسبي يغيب في زمن ويظهر في آخر وهو ما يضمن استمرار تدفّق العلم الطبيعي بخلاف الغيب المطلق الديني. 
الهوامش
[1] Hildebrand, Ulrich. 1988. «Das Universum - Hinweis auf Gott?», in Ethos (die Zeitschrift für die ganze Familie), No. 10, Oct. 72.200.216.231 16:59, 15 December 2015 (UTC).
[2]    ديورانت، ل وايريل ، قصة الحضارة ، جزء 29 :  بداية عصر العقل ؛ ترجمة: فؤاد أندراوس؛ مراجعة: علي أدهم (متاحة علي الرابط)
http://archive.org/download/Qsh-alhdarh/Qsh -alhdarh29.pdf 
[3] الحربش، عدي، في مدونته الإلكترونية شبكة المعلومات تحت الرابط 
 http://adialherbish.blogspot.com/2009/12/blog-post.html 
[4] Feldman, Noah (2005). Divided by God. Farrar, Straus and Giroux, pg. 29 («It took John Locke to translate the demand for liberty of conscience into a systematic argument for distinguishing the realm of government from the realm of religion.»)
 [5] الطائي، محمد باسل، النظرة العلمية المعاصرة للغيب، منشورة بالموقع الإلكتروني
http://www.eajaz.org/index.php/component/content/article/78-Twenty-number/654-Contemporary-scientific-view-of-Gibb
------
- أستاذ ديناميكا الفضاء  بكلية العلوم - جامعة القاهرة
أستاذ الرياضيات التطبيقية  بكلية العلوم - جامعة طيبة - المدينة المنورة  
f.a.abdelsalam@gmail.com