قبل الوداع

بقلم
لطفي الدهواثي
ليت الشباب
 قبل الثّورة كان الحديث عن الشّباب حديث نفاق وتزييف في عمومه، فقد كان المعتاد القول بأنّ الشّباب بخير وأنّه يحظي بالعناية الموصولة من لدن صانع التّغيير على مدار الأيّام واللّيالي. ولقد دأب الإعلام ورجال النّظام على التّذكير المتكرّر بما حظي به الشّباب من مكانة فى سياسة الدّولة وبرامجها ولعلّ أهمّ ما كان يقال في حينه أنّ الشّباب مفخرة البلاد وأنّه شباب النّت وأنّه خاصّة الشّباب الأكثر تعلّما بدليل النّسبة العالية لحاملي الشّهائد العليا اللذين تخرّجوا من الجامعة التّونسية ذات الباع والسّيط.
(2)
الحديث عن الشّباب ما قبل الثّورة كان حديثا غاية في التّزوير وتشويه الحقائق ولم يتناول مسائل تهمّ الشّباب فى العمق بل ظلّ يدور حول نمط المجتمع الذي يجب أن نعدّ جيل المستقبل للمساهمة فى بنائه أو هو حديث يدور عن ثقافة يجب أن تعطى للشّباب حتّى يتحلّى بالوطنيّة والسّماحة وحتى يستطيع مقاومة التّطرف والتعصّب بجميع أنواعه غير أنّ هذا الحديث كان فى الغالب حديث فنتازيا ولوك كلام ممجوج ولم يكن مبنيّا على تصوّرات علميّة موضوعيّة يدور في مجمله حول الهالة الكاذبة التى كان يراد إعطاؤها للزّعيم الأوحد الذى كان يرعى الجميع وفى المقدمة منهم فئة الشّباب.
لا غروّ أنّ الدّولة قامت بجهد ما من أجل توفير مقرّات رسميّة للشّباب سمّيت دور شباب ودور ثقافة، وقد تولّت الدّولة تسمية وزارة باسم الشّباب هي أحيانا للشّباب والطفولة وأحيانا أخرى للشّباب والرياضة، كما أنّها ما انفكّت بين حين وآخر تحصي الشّباب عددا وتقيم ندوات واستشارات تتعلّق بالشّباب. 
ولا غرو أيضا أنّ هذا الجهد كان دائما محكوما بالسّياسة وفى فلك ما تتبناه الدّولة من تصوّرات وبرامج لم تخرج أبدا عن دائرة الحزب والزعيم ولا عن دائرة التّصور العام لدور الشّباب ككتلة بشريّة وكقوّة مندفعة يجب السّيطرة عليها وكبح جماحها ولذلك ظلّ الشّباب دائما محلّ ريبة وخاصّة تلك الفئة التى استطاعت أن تبني تصوّرات معارضة لتلك التى تتبنّاها الدّولة أو تلك التى جاهرت صراحة بانتمائها لغير الحزب الحاكم أو عملت على تغيير الوضع برمته غير متردّدة فى المطالبة بحقّها فى المشاركة والتعبير.
(3)
بدأت ارهاصات الأزمة تظهر مع قوارب الموت التى كانت تحمل من اعتقد من الشّباب أن لا حلّ إلاّ فى الهجرة إلى أوروبا، كان القليل من الشّباب يصل إلى سواحل ايطاليا وأكثر المهاجرين يذهب طعاما لأسماك البحر أو يعود فى توابيت. ولقد كان إعلام النّظام يكتفى بالاخبار عن أعداد الممسوكين أو أخبار الملفوظين من البحر وكانت أعداد المجازفين بالهجرة تزداد حتّى بلغت حدّا لم يعد من الممكن إخفاءه أو المرور عليه مرّ اللّئام . أزمة رهيبة طالت أعدادا كبيرة من الشّباب وأبانت عن انسداد الأفق أمام الباحث عن شغل وموطن قدم فى بلد لم يعد يدرك معنى لوجوده فيه.
فجأة بدأت كلّ المقولات تنهار تباعا ولم يعد الحديث عن العناية الموصولة والرّعاية الدّائمة يقنع أحدا وبدأت بوادر أزمة الدّولة مع شبابها تزداد حدّة، فلم تعد المشكلة مع شرذمة ظالّة تصداد فى الماء العكر ولا مع فئة من ناكري الجميل ولا هي مع من يريدون أخذ البلد نحو هوّة من التّطرف والتخلّف الحضاري وإنّما أصبحت أزمة مع أعداد هائلة من الشّباب فى مقتبل العمر فعل ما فى وسعه ليحصل على حدّ أدنى من المعرفة ولم يعد بوسعه الانتظار أو الانسياق وراء زعيم أو حزب أدركته شيخوخة السّياسة و صار عبئا على الشّباب وعلى البلد على حدّ السّواء.
(4)
انفجر الشّباب بوجه الزّعيم والحزب وكفر أخيرا بكلّ ما كان يسمعه من بهتان واستطاع فى وقت وجيز أن يحدث تغييرا جذريّا فى الأوضاع سحقت رأس النّظام وأعادت إلى سماء البلاد سحبا من الأسئلة تتعلّق فى معظمها بما أراده ويريده الشّباب من الثورة، وظلّ هذا الشّباب الحارس الوفيّ لثورته ولم تستطع كلّ المؤامرات أن تنتزع منّه حقّه الطّبيعي فى التّعبير عن وجوده ولا حقّه المؤجّل بقوّة السّلطان والمماحكات والتسويات فى أن يكون صانع النّتائج كما كان صانع المقدّمات.
ثار الشّباب طلبا للحريّة والكرامة والشغل والمشاركة الفاعلة فى تقرير مصيره ومصير البلاد ولم يكن الشهداء في معظمهم إلاّ شبابا، ولم يكن هذا الشّباب معاندا حين ارتآى شيوخ السّياسة قيادة البلد ولا كان من ذلك النّوع الذي يحسن الهدم ولا يعرف البناء وإنّما كان دائم الوعي بخطورة الأوضاع ومقدار ما حيك لثورته من مؤامرات ولكنّه لم يسلم مصيره لأحد وظلّ يقضا يعيد تصحيح الأوضاع كلّما ظنّ البعض أنّ الثّورة تكاد تذهب فى مهبّ الرّيح .
(5)
ثورة، حرّية، كرامة وطنيّة، الحقّ في الشّغل حقّ طبيعي وغير هاذين الشّعارين شعارات كثيرة كلّما ظنّ أنّها خفتت ارتفع صوت الهادرين بها من جديد، فهل يكفي ترديد الشّعارات فى مظاهرات صاخبة بين حين وحين؟ هل يستطيع الشّباب أن يمضي حقبا في تحقيق أهداف ثورته وهو يعيش فى معظمه على هامش السّياسة والسّياسيين وأحزابهم؟ هل يستقيم ظلّ الشّباب وعوده فى التّغيير أعوج؟ هل تستطيع أيّ فئة مهما كان عددها أن تحدث تغييرا سلميّا لصالحها من دون أن تأخذ بيدها مبادرة السّياسة وتخرج نهائيا من دائرة ردّ الفعل؟ هل يفيق الشّباب أخيرا ويأخذ أمر البلد على عاتقه فيصوّب اختيارات الثقافة والسّياسة والاجتماع أم يظلّ وقودا لمعارك لن يكون فيها إلاّ الضّحية؟ متى يفيق هذا الشّباب ليدرك أنّ ما يدبّر له ليس الكرامة والشّغل وأنّه مهدّد بالتّطرف والمخدرات والتّجهيل وأنّ أوان إفاقته قد حان بعد أن أدرك الجميع أنّنا نعيش حقّا أزمة قد لا ندرك خطورتها قبل فوات الأوان؟
ليس أمام الشّباب من حلّ سحري، وعليه أن يدخل غمار التّحدي من خلال المشاركة الفاعلة في تقرير مصيره، وليس أمام النّاس من خيار سوي العمل على تنمية البلاد تنمية حقيقيّة بيد الشّباب القادر وحده على تغيير الأوضاع والحفاظ على ثمار هذا التّغيير.
.------
- مستشار في الخدمة الإجتماعيّة
lotfidahwathi2@gmail.com