قبل الوداع

بقلم
لطفي الدهواثي
تجري الرياح
 (1)
«تجري الرّياح بما لا تشتهي السّفن» ، قولة أبي الطيب التي ذهبت مثلا لمن لا يدرك ما رام إدراكه من أمنيات .
جرت رياح الثورة فكانت عاتية و كم اشتهت سفن المخلوع ومن كانوا حوله أن تهدأ أو تنجلي، و لكنها ازدادت مع السّاعات عتوّا حتّى اقتلعت ما أمكن اقتلاعه قبل دخول ربّان جدد استطاعوا النّجاة بما أمكن. ولقد كان بامكان الرّياح أن تجري بما اشتهاه الثّوار كلّه ولكنها انحرفت قليلا، فكان من آثار انحرافها أن بقي ما لا يجب أن يبقي وذهب ما لا يجب أن يذهب لترخي الثورة في النّهاية عنانها لريح جديدة قيل في حينه أنّها ريح الاستمرارية والتواصل .
(2)
 تواصلت الدّولة قديمها ببعض الجديد وعاد من سلم من الثّوار إلى منازلهم آمنين، وبدأت الأعناق تشرئب نحو الماسكين بالأمر ممّن أنقذوا البلد أو أنفسهم أو الثّورة لا يهم، وبدأ كل ذي أمنية يكتب فى ألواح الثّورة ما يتمني.
عاد الثّوار بعد قليل من الوقت وكانت جذوة الثّورة مازالت متّقدة فى صدورهم واستطاعوا أن يفرضوا الحصول على تاريخ محدّد للانتخابات و مجلس تأسيسي يكتب دستورا جديدا.  ومنذ تلك الأيام ونحن نخوض صراعا مريرا بين من ثاروا ومن كانت الثّورة أملا لهم و بين من عتت عليهم رياح الثّائرين، ما نخرج من فصل حتى ندخل فصلا جديدا وقد و صل بنا الأمر أحيانا حدّ تمني السّلامة لأنفسنا جميعا وللبلاد وحسبنا ما جرى لغيرنا من دمار.
(3)
حين انتقلت جذوة الغضب إلي غيرنا من بلاد العرب كان الظنّ أنّ الثّورة منتصرة بقوّة الحجة، فتلك بلدان كانت أقرب إلى التّغيير من بلادنا وقد كان بعضها يعاني من ظلم لا سبيل لبقائه ولذلك أدركتها رياح الثّورة بسرعة قياسية. ومن يرى حال هذه البلاد الآن يصاب بالاحباط الشديد كونها لم تجن من الثورة إلاّ الاسم و كون أهلها أصبحوا يتمنّون السّلامة فلا يجدها معظمهم وإن وجدها فبثمن باهض جدا يبدأ من إهدار الكرامة ولا ينتهي إلاّ بلعن الثورة والثائرين. وهذه البلاد لم يأل أهلها جهدا فى تغيير أوضاعهم وكانوا مستعدين دائما لحبّها والتضحية من أجلها وكانوا جميعا يأملون أن يروها أروع البلدان وأكثرها نماء ولكن تجري الرياح بما لا تشتهي الأنفس الطيبة وبما لم يكن فى الحسبان.
(4)
سقطت دولة الحزب الواحد والزعيم الأوحد أما  التى استعصت على السّقوط  فكان مآلها الانهيار الكامل وسوريا هي المثال الأكثر وضوحا ودلالة على الخراب الكبير الذى يجره العناد والاستعلاء على الناس وعلى الأوطان. 
لم يكن سقوط الانظمة غاية في حدّ ذاتها وإنّما كان ترجمة لتوق الناس للتغيير، ولعل أبلغ تعبيرعن هذا الجموح الكبير نحو إعادة رسم خريطة الأوطان هو ما تجلى من طفرة للأحزاب فى بداية الثورة. لقد انتقلنا في تونس من حزب مهيمن وبعض الأحزاب الصغيرة إلى ما يقارب المائة وخمسين حزبا أو أزيد وكلها أحزاب تشكلت بغاية المشاركة الواسعة فى الشأن العام، غير أن هشاشة معظم هذه الأحزاب ودوران أغلبها فى فلك الرئيس قد أدى بالأغلبية العظمى إلى الاندثار حتى وصل بنا الأمر إلى عودة الماضي في شكل حزب فاز بالانتخابات وعاد بالرموز القديمة للحكم وكأن الثورة انقلبت على أعقابها وكأن الذين ثاروا لم يكونوا ينشدون التغيير فهل من معنى لكل ما جرى من جموح وثورة وآمال .
(5)
في الذكري الخامسة للثورة نتذكر لهيبها اللاّفح للوجوه والأجساد، ونتذكر الشهداء والجرحى والأحداث والحيثيات واليوميات ونحن مفعمون بالابتهاج كوننا استطعنا كسر حاجز الخوف والخنوع و تركنا جانبا عهودا من اللامبالات. وفى ذكرى الثورة نتذكر أن رياحا جرت بغير ما كان الحاكم يشتهي وقد ظن أنّه صاحب الأمر الذي لا يرد أمره  وأن تلك الرياح حملت في هبوبها آمالا وأحلاما خرجت من قلوب الشباب وعقولهم تتدفق بما يختلج فى نفوسهم من طاقات جبارة كأنّها الإعصار، فأين نحن الآن منها؟ أين نحن من الآمال وأين نحن من الإرادة؟ أين نحن من شباب الثّورة ومن ثورة الشباب؟ هل جرت الرّياح بما اشتهت سفنهم وسفننا وسنن الله فى الدّفع بالانسان نحو السمو والارتفاع ؟ أم هل جرت فى أعقاب تلك الريح المباركة رياح عاديات عدت على ألآمال والأحلام وعلى الثورة ذاتها حتى تجرأ عليها الذين أرعبتهم رياحها وكادت تذهب بهم وما معهم ؟ 
قال أبو الطيب المتنبي تجري الرياح بما لا تشتهي السفن  وقال الله تعالي «لا يغير الله ما بقوم حتي يغيروا ما بأنفسهم»  فهل تجري الريح علينا أم نحن من يجري هذه الريح؟
 .------
- مستشار في الخدمة الإجتماعيّة
lotfidahwathi2@gmail.com