تمتمات

بقلم
رفيق الشاهد
أي سلم؟
 اعتمدت ثقافتنا على أنماط أدبية مختلفة للتواصل ومعالجة مسائل عامة وخاصة والغوص في ثناياها. أما غير المباح فقد تعدّاه الأذكياء من الكتّاب والقرّاء بالرّمز شعرا ونثرا. 
وعلى خطى «ابن المقفع» و «لافنتان Lafontaine»  أسرد لكم هذه القصة القصيرة، لعلي وإياكم ممّن يستخلصون العبر. 
وضعت كلبة حراسة جروين توأمين وُلعت بهما ولعا شديدا. فكنت أطعمهما بيدي وأعدل بينهما وقد بان ذلك في تشابه النسختين وتلاءم الشكل بالمضمون إلى أن كبرا واشتدّ عودهما وأصبحا يعولان كلّ على نفسه. وواصلت عنايتي بهما بالعدل الموصوف، فجعلت لكلّ منهما إناء ما أن أقدّمهما يتهافت الجروان على الطّعام فيلتهمانه بسرعة فائقة ويلعق كلّ منهما إناءه فلا يتركه إلاّ نظيفا برّاقا. 
كنت أراقبهما في كل حين عند الأكل وفي لعبهما وملاعبة كلاهما للآخر وكثيرا ما تتحوّل لصراع لا يخلو من تهوّر. ولم ألحظ يوما غلبة أحدهما على الآخر لتساوي حجميهما وبنيان جسديهما. كانا ينامان ويفيقان معا وكان كلاهما يراقب الآخر ولا يفارقه أبدا وكانا يتلاعبان كثيرا وكثيرا ما يتصارعان في سلم. نعمْ، في سلم.  وأي سلم..؟
في يوم وعلى غير عادة، نشب بينهمـــا – الكلبان -  شجار عنيّف أزعج كل من في البيت. ولما خرجت أتبين الأمـــر وجدتهما وجها لوجه في وضع اقتتال وقد كشر كل منهما عن أنيابه واتخذ وضعية الدفاع واقتناص فرصة الانقضاض. كان  يصدر  عن كل منهما بنفس الشدّة ونفس الإصرار صدى غلّه الدفين وأمواج الحقد والضغينة المتفجرة من بين فكّين تصلّبا منفرجين سال منها لعاب لزج تناثر مع كــلّ زمجرة ودمدمة من الأعماق. لم يكترث الكلبــان بوجودي بينهمـــا وواصلا معركة شرسة لم أكن بموقفها لولا خوفي عليهما. 
وما أن فصلت بينهما حتى اتجها معا يكمّلان ما تبقى في آنية أحدهما من أكل. كانت المعركة متعادلة دون أضرار وكادت تكون كذلك متعادلة وبأضرار كبيرة من الجهتين لولا تدخّلي الذي أبقاني على فضولي لمعرفة من أكل لقمة الآخر. وندمت على ما فعلت وأخذت على نفسي أن لا أفصل بينهما مرّة أخرى وأن أترك الغلبة لمن يستحق. 
منذ ذلك اليوم، يوم المعركة الأولى، أصبحت كثيرا ما أشهد معارك دامية بينهما لا تنتهي إلا بعواء وانزواء أحدهما ثم يوما بعد يوم أصبحت أكثر ما أراهما يأكلان معا من نفس الصّحن وبدأ يتبين من يبسط هيمنته على الآخر ومن بدأ يتأقلم مع ما يعيشه كلّ يوم من إهانة وذلّ سرعان ما ينساه بعد وجبة الطّعام بل أضنه يتناساه. 
وقد كشفت الأشهر التالية حقيقة من يأكل لقمة الآخر بسلام ووئام. في حين تواصل طول النهار لعبهما معا ومداعبة كل منهما للآخر، ازدادت وتعاظمت هيمنة الجرو الكلب على توأمه من نفس البطن وواصل أكله بالسّرعة والحرص القديمين مثل أيامه الأولى إلى أن يكمل وعاءه دون لعقه وينتقل إلى الوعاء الآخر فيجده كلّ يوم بمزيد من الأكل. أصبـــح  الكلب المستضعف أكثـــر ما يأكل لقمته عن بعد مرعـــوب من جور الجوار ولا يجرؤ على الاقتراب تحت العين الرقيبة والدمدمة المتفجّرة من حين لآخر. 
اللّقمة التي لم تؤمّنها في فيك تقوّي عليك عدوك. 
تلك هي الأمم، سلمها يقظة تامّة وحرص شديد لا متناه وتربّص كبوة الآخر. الويل للغراب إذا غفا ممّن يترصّد نعاسه. ثعلب يأمل أن ينقضّ عليه وبصبر ينتظر سقوط قطعة الجبن من فكّيه لا محالة.
----
- مهندس
chahed@meteo.tn