قول الحق

بقلم
نجم الدّين غربال
رسالة إلى استراتيجي البلد: أي إستراتيجية نُريد؟
 لا يختلف اثنان في ضبابيّة الرؤية للعمل الحكومي والرّئاسي منذ اندلاع الثّورة التّونسية المُعاصرة والذي اعتبره كثيرون سببا رئيسيّا في الفشل النّسبي لذلك العمل وعدم قُدرته على كسب رضا النّاس بأغلبية مُريحة واستمر ذلك الغموض رغم وجود خُطّة مُستشار مُكلف باليقظة الإستراتيجية لدى رئيس الحكومة السّابق.
 وقد اهتدت رئاسة الحكومة الحالية وكذلك رئاسة الجمهورية إلى إيلاء هذه المسألة الأهمّية التي تستحقّ وترجمت كلّ رئاسة ذلك الاهتمام بوضع الأولى لخُطّة مُستشار لدى رئيس الحكومة مُكلف باليقظة والاستشراف في التّغيير الوزاري الأخير وإحياء الثانية للمعهد التونسي للدّراسات الإستراتيجيّة لانجاز دراسات إستراتيجية.
وتفاعلا مع هذا الاهتمام وإسهاما في هذا الجهد الضّروري والحيوي لمستقبل شعبنا لديّ رسالة أودّ بعثها لكلّ من تهُمّه المسألة الإستراتيجيّة في بلدنا وهي عبارة عن إجابة عن سؤال مفاده أيّ إستراتيجية نُريد؟
نُريدها بشكل مُباشر وبدون مُقدمات إستراتيجيّة مُتأصّلة لضمان ثباتها أمام عواصف الاستراتيجيات الأخرى الجارفة كما نُريدها إستراتيجيّة مُتحرّرة لضمان شرط تحقيق أهدافها وكذلك تنموية لتحقيق أهداف الثورة.
(1) إستراتيجية متأصلة ومُتحررة
نُريدها إستراتيجية مُتأصّلة في وجدان التّونسي وفي تاريخه النّضالي المُواجه للاستعمار، تاريخ حنبل والثّعالبي وبورقيبة وحشاد... وفي تاريخه النّضالي ضدّ الاستبداد، تاريخ الشهداء وسُجناء الرأي ومُهاجريه...  وفي تاريخه الإصلاحي، تاريخ خير الدين باشا وأحمد باي ...وفي تاريخه العلمي، تاريخ ابن خلدون وابن الجزار وابن عرفة وبن عاشور..
كما نُريدها إستراتيجيّة مُتحرّرة من التّبعية لاستراتيجيات الهيمنة أو الاختراق الطائفي أو تثبيت كيان مُغتصب للأرض وللمقدّسات.
نُريدها إستراتيجية مُتحرّرة من إستراتيجيّة الإلحاق بالغالب لمن هم مولعون به ومن إستراتيجية «سايكس بيكو» القديمة أو في نُسختها الجديدة إستراتيجية التقسيم أو تقسيم المُقسم لإفقاد المنطقة قُدراتها تحقيقا لأهداف الهيمنة.
(2) إستراتيجية تنموية
تُعتبر بلورة إستراتيجية تنمويّة جهويّة ومحلّية  من أوكد الأولويّات اليوم وضمن جدول أعمال كل من يريد أن يسير على هُدى وبينة من الأمر لا يستوعبه الواقع بل هو الذي يستوعبه ليُطوره في اتجاه إعادة تشكيله بما يخدم المشروع التنموي المجتمعي.
كل ذلك لمواجهة مشاكل التّفاوت الجهوي من ضعف للبنية التّحتية أو انعدامها وتفشّ للبطالة وانتشار لظاهرة الفقر وما ينتج عنها من إقصاء وتهميش يكون الإنسان ضحيتها. 
إن إعادة التوازن الجهوي والمحلي كهدف يفترض سلسلة من الأفعال المندمجة  نظرا لوجود مقاومة للأفعال التّصحيحية  سواء من قبل المحافظين أو من أولئك المنتفعين من استمرار الوضع على ما هو عليه.
وعلى واضعي إستراتيجية التنمية أن يستحضروا أنّنا في سياق مُنفتح تسود فيه الارتباطات والمُبادلات بين مُستويات مُختلفة محلّيا وجهوّيا ووطنيّا وكذلك عالميّا وأن يأخذوا  بعين الاعتبار الاهتمامات المرتبطة بتداخل المُستويات الجهوية وتلك المحلية والمُرتبطة كذلك بالتّناغم الوطني والمُعطى الاقتصادي العالمي خاصة مع انتشار ظاهرة العولمة وهيمنة الشّركات المتعدّدة الجنسيات التي لا تبحث إلا عن مصالحها الخاصة.
وأمام فشل الاستراتيجيات التّنموية لعقود من الزمن لا يزال الاختيار البديل ممكنا وذلك عبر إستراتيجية وطنية إرادية وفاعلة.
و في هذا السياق من المهمّ التأكيد على المعاني التالية :
• مُقاربة إستراتيجية تعاونية ابتكاريه : 
على الاستراتيجيين أن يستحضروا أنّ للمقاربة الإستراتيجية خاصّيات كتعدّد الأبعاد وتعدّد الاتجاهات وكذلك المجالات وتهدف إلى تقدير المستقبل البعيد وتحديد الأفعال الواجب اتخاذها والمسارات الممكنة والتي نقدر على تعبيدها، كل ذلك مع الأخذ بعين الاعتبار ليس فقط الموارد المرصودة والمُفعّلة بل القدرات المُمكن توفيرها أو صناعتها، إنها مقاربة تعاونية ابتكاريه.
• الإنسان محور الاستراتيجية : 
وجب على الاستراتيجيين وهم يضعون إستراتيجية لشعبنا ودولتنا الانطلاق من أنّ الإنسان محورها وأنّ المكان إطار تفعيل قدراته، كما يفترض عليهم تحديد الشّروط الملائمة للنّمو في مرحلة أولى ثمّ التنمية في مرحلة ثانية، أما عامل الزّمان فهو محدّد أيضـــا والأهـــمّ فـــي التّعاطـــي معه النّظر إليـــه كأهم «سلعة اقتصادية نـــادرة» (Bien Economique Rare) وجب الحفاظ عليها عبر حُسن استثمارها والتحديد الجيد لكيفية إدارتها.
• إستراتيجية مُبتكرة : 
أن ينطلــق واضعي إستراتيجية التّنمية الجهويّة والمحلّية من مسلّمة أساسيّة وهي أنّ « المستقبل ليس واقعا كما أنّه لم يُحدّد سلفا ولكن على العكس تماما أنّه مفتوح على عدد من المستقبلات الممكنة» كما ذكر تقرير برنامج الأمم المتحدة للتنمية(PNUD ) .
• إستراتيجية بقيم العطاء والمُواطنة والعيش المشترك
لكل إستراتيجية قيم تعمل على تأكيدها في المجتمع باعتبارها شرط تحقيق أهدافها في التنمية والتقدم أولها قيمة العطاء والمقصود به عطاء التونسيين كل التونسيين (أفرادا ونخبا وهيئات وفئات) عطاء ماديا عبر الإنفاق في السّراء والضّراء والعمل الصالح الذي يشمل كل مجالات الحياة وعطاء معنويا بما هو قول سديد في الإعلام والثقافة والفن وفي برامج التربية والتعليم وتفاعلات نفسية ايجابية ككظم الغيظ والعفو عن الناس.
إذن على الاستراتيجيين أن يولّوا أهمية قُصوى لتعميق هذه القيمة في المُجتمع نظرا لحاجة كلّ التونسيين إلى التّخلّص من البُخل عن الإنفاق مهما كانت حالتهم المالية وحاجتهم إلى إعادة الاعتبار للعمل كقيمة حضارية وحاجتهم كذلك إلى التّحرر من الأسر النّفسي الانفعالي وتمكينهم من الفعل العقلي الإرادي فيكظمون الغيظ ويعفون عن النّاس ليمنعوا بذلك مُولّدات العُزلة الاجتماعية والتّفكك الأسري والتّناحر المُجتمعي وديدنهم في ذلك إدماج الجميع وباستمرار في الحياة ببُعديها الاقتصادي والاجتماعي ضمن علاقة تعاونية وتنافسية من أجل فلاح الإنسان والمجتمع.
وعلى الاستراتيجيين أيضا أن يولّوا أهمية قُصوى لقيمتي المُواطنة والعيش المُشترك الأولى تأكيدا لمبدأ المُساواة وتثبيتا له والثاني لتوفير بيئة اجتماعية يحلو فيها العيش ويتعاون فيها الجميع على رفع التحديات المُشتركة دون إقصاء أو تهميش أو إستعلاء وكلهم يتطلعون للمصير المُشترك.
• إستراتيجية المُصالحة مع الذات
المُصالحة مع الذات تعني فيما تعني مصالحة الإنسان (فردا أو نُخبا وهيئات) مع الذّات العاقلة غير المُنفلتة للتناقضات ومع النّفس المُتحرّرة من مُخلّفات ثقافة الاستبداد وفنه وإعلامـــــه ومع المنهــــــــج المحكُوم بمصلحة مُستقبل الأجيال والمُتخفّف من الاستعلاء والنّرجسية والانصهار مع منهج الغالب.
• إستراتيجية الحياة 
نحتاج إلى إستراتيجية قويّة تقدر على الصّمود في وجه إستراتيجية الموت، وقُوّتهـــــــــا لن تكون دون تخطيط استراتيجي.
نحتـــــــاج إذن إلى  التفكيــــــــر الإستراتيجي وكذلك الحوار الاستراتيجي لأنّهما مُمهّدان للتخطيط الإستراتيجي. 
ففي الولايات المتحدة الأمريكية 14 مركزا للتّفكير الإستراتيجي ولهم معلومات نادرة وعند البعض منها تتحيّن المعلومة كل 10 ثوان وهاته المراكز تُخطّط استراتيجيا بعد حوارات مطولة.
إن التفكير الإستراتيجي ليس التفكير في خطّة لأنّ الإستراتيجيّة منضوية في إطار آفاق طويلة الأمد ( 15 – 20 سنة) وتعتمد على ربط بين صورة للمستقبل والمسارات (الأفعال الممهّدة لتشكّلها) المؤدية لتحقيق الأهداف المضبوطة من طرف الفاعلين المعنيين. 
وبما أن الإستراتيجية تُوضع لعدد من المجالات كالتنمية الاقتصادية والاجتماعية الدائمة ومجال السّياسة والمؤسسة وغيرها فعليها أن تحمل بذور الحوكمة الجيدة التي تعني فيما تعنيه قرارا جماعيا يقع ترجمته إلى جهد من التنسيق والاستشارة والتوافق بين الأفراد والنخب والهيئات في كل المجالات وفي مُختلف القطاعات لضمان سياسة تنموية تضع القرارات موضع تنفيذ ويتقاسمها الجميع والتي من شانها أن تقوّي القدرة التنافسية للجهات وتحتوي على سلسلة من الأفعال المُمنهجة والمُتناغمة والدّائمة .
-------
-  رئيس مركز الدراسات التنموية
najmghorbel@gmail.com