قول على عجل

بقلم
محمود جاء بالله
ثورة وبعد
 المتأمل اليوم في واقع المجتمعات العربية وما آلت اليه الأوضاع من سوء وتدهور لا مثيل لهما  سجلنا معهما تدميرا للإنسان، تقتيلا وتشريدا، وتهديما للأبنية والمعالم التاريخية وفسادا طال جميع المجالات وبلغ مداه ودفع بالناس إمّا الى الفرار أو الى ساحة النزال أو الى التواطئ مع أهل الخراب والدمار. غير أنّ عامّة النّاس، رجالا ونساء وولدانا، ضاقت عليهم الأرض بما رحبت  من هذه  الأوضاع وقلّت الحيلة لديهم وتاهت السبل بهم، صورة عبّر عنها القرءان الكريم بوصف دقيق لما آلت اليه أوضاعنا « إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ لَا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلَا يَهْتَدُونَ سَبِيلًا»(النساء:98). إنّ الاستضعاف الذي تعيشه مجتمعاتنا العربية اليوم انخرمت معه كلّ التوازنات  وساد معه الظلم والاستبداد والحكم القصري وسلب الحرّيات دفع بالشّعوب الى إشعال فتيل الثورات والتّحرك في كلّ الاتجاهات ، الى حدّ من أضرم النار في جسده يأسا ورفضا للمهانة، وأعلنوها ثورة على الظلم فالكل  ينشد الحرية والكرامة والعدل . 
اليوم نعيش براكين غضب في منطقتنا، وبلادنا ليست مستثناة من هذا الواقع، غير أنّنا نقرّ أنّ وضعنا أفضل بكثير إذا ما قارنّاه ببقيّة البلدان التي تشهد غليانا وأعمال عنف ودمار . 
إنّ بلادنا اليوم وإن كانت السّباقة في إشعال فتيل الثّورة، فإنّنا نحسب أنّنا لم نحقق الأقدار الكافية من الأهداف والانجازات المطلوبة التي قامت من أجلها الثورة . وإذا ما اعتبرنا أنّ الثورة في بلادنا قامت على أساس قيم رفعت ضمن شعارات صدحت بها الجماهير الثائرة ( شغل حرّية كرامة وطنية ، حرّيات حرذيات لا رئاسة مدى الحياة ، الشغل استحقاق يا عصابة السّراق ....) فما الذي تحقّق من هذه الشّعارات؟ وإذا ما أقررنا أنّ الثّورة كانت نتاج اختلال التّوازن في المجتمع لامس حقوق كلّ الفئات، فهل أعادت الثورة التّوازن المفقود وأتت بالحلّ المنشود في العدالة وإعطاء الفرص المتكافئة لكلّ فئات المجتمع ؟ وإذا ما قدرنا أنّ ما وصلنا اليه من أوضاع متعفّنة قبل الثّورة والتى أدّت الى إشعال جذوة التّحركات كانت نتاج سوء تصرّف لأفراد وجماعات مع سبق الإضمار والتخطيط فهل وقع محاسبة هؤلاء؟ 
تعتبر كلّ هاته الأسئلة مشروعة وتحتاج الى إجابات واضحة وصريحة لنعلم مآلات ثورتنا وما ينتظرنا من تحديات « ثورة وبعد ...» 
(1) الذي لا يمكن الاختلاف حوله، أنّ ثورتنا قامت واشتعلت جذوتها وجماهير الشّعب تنادي بجملة من القيم كانت غائبة عن واقعنا، قيم أساسها الحرّية والكرامة، لقد هانت الأنفس وهي تطالب بهاته القيم، ولم تتراجع الجماهير برغم القمع والرّصاص الحي الذي كان يقطف الأرواح ويخترق الصدور العارية، ولم تتراجع وهي ترى الأجساد تتهاوى مخضّبة في دمائها، بل ازدادت إصرارا ومضت مطالبة برحيل الجلاّد وتنحّي الطغمة الحاكمة. ولم يكن كافيا أن تطالب الجماهير الثائرة بجملة من القيم في غياب إرادة واضحة لدى الجميع في تفعيل تلك القيم وتنزيلها في واقع بلغ قمّة التّعفن وأقصى درجات الانحدار. ولعله كان من الأصلح أن يتولّى قيادة البلاد، إثر انهيار النّظام وهروب الطاغية، من ثار وأشعل فتيل الثّورة، ولعلّها نشوة الانتصار على الطّاغية وهروبه أنست الجميع أنّنا لم نَخْطُ الاّ خطوة واحدة وبقيت تنتظرنا مسيرة كاملة لضمان زرع القيم وإقامة مجتمع العدل. الذين تسلموا مقاليد الحكم بعد تنحي الطاغية  وفراره لم يكونوا سوى العناصر المشكّلة للنظام نفسه الذي ثارت عليه الجماهير وكأنّنا عندها قبلنا أن تختزل مطالب الجماهير في إسقاط رأس النظام، وإبقاء باقي الجسد، بل منحوهم فرصة إعادة تشكيل المشهد من جديد بما يوفّر لهم الحماية والتّهرب من المحاسبة. من المؤسف أيضا إن كانت النّخبة السّياسية أيّام الثورة متأخرة جدّا عن مسيرة الجماهير ومطالبها المشروعة، حيث سعى كلّ من موقعه الى الّركوب على الأحداث وإيجاد موقع جديد له بما يضمن له نصيبا  وافرا في غنيمة الحكم وسياسة البلاد، وغابت القيم التي كانت تنادي بها الجماهير ولم يَبْقَ منها الاّ النزر القليل وظلّت تحركات الجماهير تراوح بين المدّ والجزر تطالب بالمزيد من الحرّيات وإعادة  التّوازن المفقود .
(2) من المسلّمِ أنّ الثورة قامت على اختلال عّمّ البلاد وأضرّ بالعباد لاستفحال الفساد والتّفاوت بين الجهات ومصادرة الحريات وبذلك غابت القيم ونشأت توازنات قوامها الحيف والظلم وتحكيم طائفة، عائلة المخلوع وأصهاره ولوبيات الفساد، في رقاب النّاس، وبذلك ضاعت حقوق جلّ أفراد المجتمع وفئاته بل قلبت الأوضاع الى حدّ الانخرام، وبلغ الاستضعاف مداه وأصبح نفاذ أي أمر والحصول على أيّة خدمة يمرّ بالأساس عبر المجموعة الحاكمة والنافذة. ومع هذا الوضع الآسن عملت أبواق النّظام والإعلام المأجور على تلوين الصّورة وتزييف الواقع وتغيير نسب البطالة والفقر والنّمو، وصوّروا لنا أنّنا أنجزنا معجزة اقتصادية، ولقد كانت الفئات المهمّشة هي الأكثر تفطّنا لمدى الزّيف ولعمق الانخرام ولمدى الظّلم الذي طال الجميع. ولقد علمت الشّعوب على مر التاريخ ان الثورات هي وليدة اوضاع فاسدة وظلم واستبداد يستحيل العيش بعدها وينشئ لديها الرّغبة في هجران الأوطان أو خوض حرب ونضال دون خيار «وَمَا لَكُمْ لَا تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَٰذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا وَاجْعَل لَّنَا مِن لَّدُنكَ وَلِيًّا وَاجْعَل لَّنَا مِن لَّدُنكَ نَصِيرًا»(النساء:75) . تلك هي الأسباب التي أدّت الى قيام الثّورة وكان المطمح الأساسي للجماهير إعادة التّوازن الى المجتمع ، بما يضمن الحقّ للجميع ويعطي الفرص المتكافئة لكل فرد دون إقصاء او فرز او تهميش . 
(3) الثورة لم تقم على أوضاع فاسدة فحسب بل قامت على من صنع هذه الأوضاع وعلى من حكم وخطّط لاستمرار هذا الواقع المخلّ وكانت من بين المطالَب الملحّة أن تتمّ محاسبة هؤلاء وتركيز أسس عدالة انتقالية تعالج الإخلالات وتحاسب من تسبّب فيها وتعيد التّوازن المفقود وإقامة ميزان العدل ايمانا وتصديقا « إنّ العدل أساس العمران». 
ومن المؤلم  أن لا يتحقق من هذه المطالَب شيء بل الأدهى والأمر أنّ من مات من أجل هذا الحقّ لم ينصف. مازلنا نرى تعطل مسار العدالة الانتقالية، في بطئ الإجراءات وكثرة التعقيدات. ونشأ شعور لدى جميع من ظلموا بيأس خفي من عدم إنفاذ القانون وإعادة الحقوق لاصحابها .  
إنّ ما علمناه من ثورات الشّعوب، أنها إذا لم تستند عند قيامها الى قيم ولم تعمل من أجل تحقيق تلك القيم فإنّها لا تفعل أكثر من إعادة إنتاج وتركيز منظومة ومراكز  جديدة للنفوذ والاستبداد والاستغلال. إنّنا وإن كنّا نقر أنّه لازال حيّز هام من الجماهير من يطالب باستكمال مسار الثورة وإعادة التوازن المنشود للمجتمع وتحقيق قيم الثورة ومطالبها المشروعة،  فإنّنا ننبّه الى أنّ استمرار الأوضاع على ما هي عليه من اختلال وتباطؤ في إنجاز وإنفاذ استحقاقات الثّورة سيقود البلاد الى مزيد من التقلّبات وسيعيد منظومات أخرى ساعية الى تركيز نفوذها بتعلاّت واهية. اليوم نحتاج الى كشف حساب الثورة للتأكد من مدى استمرارها وتحقيق المطلوب وتنزيل الشعارات التي رفعتها الجماهير. إنّ كشف الحساب هذا سيمنحنا القدرة على الفهم والإدراك للمجالات المتاحة والفرص الممكنة لأحداث نقلة حقيقية لبلادنا وهذا في حدّ ذاته يستوجب جملة من الشروط نجملها في الآتي :
1 - استكمال مسار العدالة الانتقالية وفتح باب المحاسبة وإنجاز مصالحة حقيقية بعيدة عن روح التّشفي والانتقام، مصالحة بعيدة عن الحسابات الخاصّة والترضيات التي تسقط الحقوق وتضييعها .
2 - إعطاء الموضع الحقيقي للشّباب حتى يسهم بجدّية في بناء البلاد واستنباط الحلول الممكنة، لأنّ الشباب لم تصبه لوثة ثقافة الطّوابير والاستخفاف ولأنه كان وقود الثورة والناقل الحقيقي للأحداث وبنسق سريع، وهو حمّال الأمل والفاعل الحقيقي في كل تغيير آت.
3 - نشر ثقافة المواطنة والإشراك الواسع لكل فئات المجتمع كلّ من موقعه وإذكاء روح المبادرة لديهم وفسح المجال للابداع ومكافأة الناجحين . 
4 - إنفاذ القانون والضّرب على يد العابثين ومقاومة كلّ مظاهر الفساد ، من رشوة وسوء تصرّف في المال العام وتهديد لأمن البلاد . 
اليوم صرنا أكثر يقينا أنّ بناء مجتمع العدل وإشاعة وتنزيل القيم التي طالبت بها الجماهير الثائرة هي الضمان الوحيد لاستقرار مجتمعنا مع دعوة الجميع للإسهام بكل جدية في بناء تونس الحرية تونس الكرامة .