في العمق

بقلم
حسن الطرابلسي
التـوافق هو الكلمة المفتاح للثورة التونسية
 ارتبطت كلّ ثورة برسالة معيّنة كانت سمتها الخاصّة التي أضافتها للبشريّة فمثلا ارتبط ذكر الثّورة الفرنسيّة بمفهوم المواطن والمواطنة والقطع مع السّلطة القائمة على حقّ ديني، وارتبطت الثّورة الروسيّة بمفهوم سلطة البروليتاريا، ولا تذكر الثّورة الصّينية إلا بذكر الثّورة الثقافية وأمّا الثورة الأمريكيّة فيقترن ذكرها بالحديث عادة عن صياغة الدّستور وهكذا دواليك.
وككلّ الثّورات فإنّ الثّورة التّونسية حملت معها رسالة خاصّة بها يمكن أن تكون كلمتها المفتاح «Mot de Passe» وماركتها المسجّلة. وبتتبّع مسار الثّورة ومقارنتها بغيرها من الثّورات، يمكننا أن نقول بثقة أنّ سمة الثّورة التّونسية وإضافتها النّوعية تمثّلت في التّأسيس لمفهوم التّوافق. وقد استطاعت الثّورة التّونسية نتيجة لهذا التّوافق أن تحافظ على جذوتها وإشعاعها رغم الصّعوبات والتّحديات التي واجهتها في محاولة يائسة لإفشالها وإعادة حركة التاريخ إلى الوراء.
ولكن كيف يكون التّوافق هو العلامة المميّزة للثّورة التونسيّة؟ وما هو التّوافق؟ وكيف يمكن أن نفهمه؟ 
نكاد نجزم أنّ مصطلح التّوافق أكثر الكلمات استعمالا في تونس بعد الثّورة ورغم ذلك فإنّه يبقى ضبابيّا ويحتار الكثير من التّونسيين في فهمه ويجدون صعوبة في تنزيله في إطاره المناسب. 
ولمحاولة الكشف عن الغموض والصّعوبة التي تحيط به رجعنا إلى عدد من القواميس والموسوعات العربية والأجنبيّة، فاكتشفنا معاني مهمّة تساعد على فهم معنى التّوافق. ففي اللّسان(1) لا يقيم ابن منظور فرقا بين الوفاق والموافقة والتّوافق فهي تعني عنده جميعا الاتّفاق والتّظاهر، ويتّفق معه الفيروز آبادي(2) في ذلك حيث يعتبر أنّ التوافق هو الاتّفاق والتّظاهر. 
وأمّا موسوعة السّياسة(3)  فإنّها تفصل الأمر بشكل أوسع، إذ تعتبر أنّ التّوافق والوفاق شيء واحد،  ولكنّها تضيف بأنّ هذا المصطلح «تعوزه الدّقة».  ولكشف هذا الغموض فإنّ الموسوعة توضّح الأمر ببيان أنّ عمليّة الوفاق «لا تلغي التّناقض (بين قوّتين) ولا تعني أنّ أيّا منهما قد تخلّى عن هدفه في سيادة النّظام الذي يمثّله.  وإنّما هي تسعى إلى تجميد أشكال محدّدة من ممارسة التّناقض» وتخلص الموسوعة السّياسية إلى أنّ «من أبرز ما أتى به الوفاق، هو إقرار قواعد جديدة تنطوي على فكرة تجنّب التّصاعدية بالصّراعات فوق حدّ معين،  دون أن تقتضي من أطراف الصّراع التّخلي عن أهدافها النهائيّة المتناقضة،  وذلك عن طريق إحلال أساليب للصّراع تنطوي على النّفع المتبادل لهذه الأطراف عوضا عن أساليب الصّراع التي تنطوي على إلحاق الضّرر به فقط.» وتخلص الموسوعة إلى أنّ التّوافق يفضي «إلى نقل مركز الثّقل في الصّراعات إلى داخل كلّ مجتمع. وإلى التّخفيف من طغيان الضّغوط المفروضة من قمّة المجتمع الدّولي.» 
وأمّا أحد أهمّ وأضخم المعاجم الأجنبيّة والمتمثّل في المعجم التّاريخي للفلسفة(4) فإنّه يعود إلى اللغة اللاتينية ليشرح المصطلح فيقول أن «كلمة توافق تعني في اللّغة اللاتينية «compromissum»  وقد استعملها الرّومان في القانون المدني بمعنى اتّفاق طرفين أو أكثر، على القبول بحكم يتمّ الاتّفاق عليه، ثمّ تطوّر الاستعمال ليعني التّوافق القبول بهذا الحكم نفسه.»
ويعني التوافق، حسب هذا المعجم، «القبول بآراء مختلفة في إطار جامع لحلّ المشكلات العارضة، ويكون ذلك بقبول الأطراف المنازعة بالتّنازل عن بعض مطالبها، بهدف الوصول إلى حلّ يرضي جميع الأطراف. وهذا يعني أنّ تتخلى الأطراف المتنازعة أو المتصارعة عن تحقيق بعض أهدافها الخاصّة من أجل تحقيق هدف موحّد تتّفق عليه.» وطبقا للمعجم فإنّ «أهمّية التّوافق تكمن في أنّه الأداة الأنجع لحلّ الصّراع بين المجموعات والفرق المتناحرة أو المتصارعة» ويضيف بأنّ «العلاقات الدوليّة والثنائية للمجتمعات المعاصرة تقوم على مبدأ التّوافق» ولهذا فإنّ عالم الإجتماع الألماني سمل (5) Simmel   يقول أن التوافق «هو أحد أعظم اكتشافات الإنسانية» (6) 
 ويثبت المعجم التّاريخي للفلسفة أنّ «التّوافق يعدّ في الدّيمقراطيات المعاصرة أهم أساس تقام عليه الدّساتير، إذ أنّها تعتبر دساتير توافقيّة أتت نتيجة توافق مجموعات مختلفة. والتّوافق يختلف عن الانتخاب الذي لا يقوم على مبدأ التّوافق، بل على مبدأ الإختيار الحرّ والمسؤول. ولكن بمجرّد أن تنتهي العمليّة الإنتخابيّة وتفرز عن نتائجها سرعان ما تحتاج الأطراف المختلفة إلى التّوافق من جديد لإنجاح العمل البرلماني ولفظ النزاعات الإقتصادية والإجتماعية.» ومن الملفت للإنتباه أنّه وفي «العلاقات الدّولية فقد ضلّ التّوافق إلى بداية القرن العشرين يتداول في معناه الرّوماني القديم. فعند حلّ النزاعات الدّولية يتمّ الإتفاق على وسيط أممي من أجل حلّ للنّزاع الحاصل.» 
نستطيع أن نخلص بعد هذا العرض إلى القول أن القاموس واللّساني ساعدانا كثيرا على فهم المصطلع في اشتقاقاته اللغوية وأنّ الموسوعة السّياسية والمعجم الفلسفي وضّحا الأبعاد الأكثر قربا لفهم التّجربة التونسية. فالتّوافق الذي حصل بين التّيارين القويّين في تونس والمتمثلين في الإسلامييين المعتدلين واللبراليين المعتدلين، خاصّة بعد انتخابات سنة 2014، جنب البلاد استقطابا حادّا كان يمكن أن ينحرف بالثّورة عن مسارها فتنزلق إلى العنف وتسقط في حرب أهليّة لم تنج منها بقية دول الربيع العربي. وكان من نتائج هذا التوافق أنّ حماية مكاسب الثّورة لم تعد مسؤوليّة حزب أو تيار معين فقط وإنّما مسؤولية الشّعب وقواه في المجتمع السّياسي والمدني. وهذا بالضبط ما رأيناه أثناء ما عرف «بمعركة المساجد» بعد إقالة عدد من الأئمة من الخطابة قبل بضعة أشهر وكذلك في حملة «وينو البترول» وغيرها حيث أنّ المجتمع هو الذي مارس ضغطه على الدّولة من أجل المطالبة بحقوقه. وما دام المجتمع متمسّكا بهذه الحقوق فإنّ الدّولة لا تستطيع، رغم طابعها الهيمني عموما، إلاّ أن تخضع لأنّها لا تستطيع أن تنجح في مهامها عند فقدان السّلم الإجتماعي الذي كان هدف التّوافق الأساسي بين التيارين البارزين.
التوافق المشبوه
يروى عن أينشتاين أنّه كان يقول: «إحذروا التوافقات المشبوهة»(7) وهو محقّ في تحذيره لأنّ هناك توافقات تحصل وتحمل في خباياها وتفاصيلها نتائج سلبيّة على المجموعات المتنازعة أو أنّها تهدف إلى إجبار أحدها على القبول بوفاق مشبوه تكون عواقبه سلبيّة على الطّرف الأضعف أو على المجتمع ولا يستفيد منه إلاّ طرف واحد فيحقّق لصالحه مكاسب على حساب المصلحة العامة وعلى حساب الطرف الأضعف في الحوار. 
ولذلك فإنّ مثل هذه التّوافقات عادة ما تكشف لنا عن المعدن الحقيقي لأصحابها لأنّها هي التي تمنحنا فرصة معرفة أخلاقيّات من يفرضها على غيره وعن الأولويّات التي يطمح إلى تحقيقها. وهكذا فإنّ التّوافق مصطلح له مدلول مزدوج، فهو يحيل في بعده الإيجابي إلى الرّغبة في الوصول إلى حلول مشتركة تخدم الصّالح العام ولكنّه في مستواه السّلبي يحيل إلى عملية تعتيم وتغطية مقصودة وممنهجة للقضايا الحقيقة موضوع النزاع من أجل تحقيق ربح آني لأحد الأطراف المتحاورة أو لهما معا إذا اتفقا على سوء.
و بالمثال يتّضح الحال فأثناء الحرب الباردة كان الإتحاد السوفياتي يعتبر أن دول أوروبا الشّرقية تعيش حالة من الدّيمقراطية الحقيقية التي تتمثّل في سلطة البروليتاريا، في حين كان الغرب يرى أنّها ديمقراطية زائفة قائمة على هيمنة الحزب الواحد.
إلاّ أنّ الطّريف في هذا الخلاف هو إجماع الطّرفين وتوافقهما على استعمال مصطلح الديمقراطية والتبشير به كل على طريقته، بيد أنّ هذا التوافق على توظيف لفظة الدّيمقراطية كان فيه رِيبة وعواقب وخيمة على شعوب أوروبا الشّرقية خاصّة، لأنّها عندما بدأت تتنسّم عبير الحرّية تمّ قمعها بشكل عنيف في ما عرف بربيع براغ سنة 1968. ولم تستطع أن تتخلّص هذه الشعوب من هيمنة الحزب الواحد إلاّ مع نهاية الإتحاد السوفياتي في آخر ثمانينات القرن الماضي. 
التوافق ضمانة للسّلام الدائم
ضمان استمرار السلام لا يحتاج إلى مدح لأنّه رغبة وحاجة إنسانية واجتماعية وسياسية. ولكن كيف الوصول إليه؟
إن التّوافقات المشبوهة التي حذّر منها أينشتاين لا تستطيع أن تحقّق سلاما. فالسّلام لا يتحقّق إلا بتوافق تصل المجموعات المتنازعة من خلاله إلى تحقيق مكاسب حقيقية يمكنها أن تعتزّ بها أمام أعضائها وكذلك أمام غيرها من المجموعات أو الأحزاب. وأما التوافقات المفروضة أو التي أبرمت تحت الإكراه فإنّها لا تحلّ المشكلة بل تجعل الخاسر في مثل هذا «التّوافق» يشعر بالدّونية والصّغار وينتظر الفرصة السّانحة لكي ينقضّ على غرمائه ليقضي عليهم. ومن أمثلة ذلك أنّه بعد الحرب العالميّة الأولى وقعت اتفاقية سلام بين الحلفاء وألمانيا ولكن هذه الإتفاقية كانت هي الأداة الأساسية التي وظفها هتلر فيما بعد من أجل جمع أنصار حوله انقضّ بهم على الحلفاء فقضى على السّلام العالمي. 
كما أنّ التوافقات المشبوهة تغذّي التّطرف والإرهاب لأنّ كلّ توافق دولي يقوم على استصغار حضارة ما أو تحقيرها يستغلّه المتطرّفون والإرهابيون ويوظّفونه لجمع الأنصار والمؤيدين. ويغلّفونه بشعارات برّاقة تجعل منهم مدافعين عن الفضيلة والعدالة أو الكرامة الضّائعة. وتزداد هذه الأزمة حدّة في الدّول التي تنعدم فيها الحرّية والعدالة، بما هي أساس للعمران البشري ولأنّ الظلم مؤذّن بخراب البنيان. 
ثالوث الإستبداد والجهل والفقر
عندما كتب عبد الرحمان الكواكبي كتابه «طبائع الإستبداد ومصارع الإستعباد» فإنّه قدّم لنا تحليلا متميّزا عن التّأثير السّلبي للإستبداد على الشّعوب والحضارات فهو يؤكد أنّ «الإستبداد أصل لكلّ فساد» خاصّة إذا اقترن بالجهل، فعندها يكون أسوأ أنواع الإستبداد «من أقبح أنواع الإستبداد استبداد الجهل على العلم، واستبداد النفس على العقل». إنّ الإستبداد لا يمكن أن يقبل التّوافق لأنّه يستمدّ شرعيّة وجوده من طغيانه وجبروته وأمّا التّوافق فإنّه يسحب من تحت أقدامه البساط الذي يبرّر به طابعه الهيمني والمتوحش. 
ولا شكّ في أنّ الدّول التي رزحت تحت الدّيكتاتورية لعقود عديدة تجد صعوبة في تحقيق التّوافق لأنّها لم تتعوّد على فضّ نزاعاتها بالحوار وباحترام الرّأي الآخر والقبول به بل إنّها تعوّدت على الرّأي الواحد والزّعيم الواحد والحزب الواحد. فيغدو فهمها للتّوافق، بالمعاني التي شرحناها لحدّ الآن، صعبا ومحاولة إقناعها بجدواه ليست من السهولة بمكان، خاصّة إذا سيطر على وعيها الجمعي الخوف من التّنازلات التي يقدّمها الحزب الذي تنتمي إليه أو الجمعيّة التي تمثّلها.
وإذا اقترن الإستبداد وتأثيراته على الشّعب بالجهل، فحدث ولا حرج. فلقد أثبت الكواكبي أنّ الجهل أفضل وسيلة لبسط الإستبداد خاصّة إذا كان الفقر يسير معه بالتّوازي فتفشيهما في حضارة ما يجعل إمكانية الوصول إلى توافق شبه مستحيلة. ولهذا قال الإمام علي، كرم الله وجهه، لو كان الفقر رجلا لقتلته، لأنّ الفقر باب من أبواب الضعف.
كما تزداد صعوبة الوصول إلى توافقات في المراحل الإنتقالية لأنّ الدّولة تكون فيها هشّة طريّة والمجتمع السّياسي والمدني لم يتشكّلا بصورة نهائية. هذا الواقع الهش والمضطرب يسمح للمغامرين بقيادة عمليّات تربك الثّورات أو تعيدها إلى نقطة الصفر من جديد كما كان الحال مع «روبسبيير» في الثورة الفرنسية وفي أيامنا هذه مع «عبد الفتاح السيسي» بشكل أكثر دمويّة وبشاعة. 
هتلر أو ستالين
يذكر المؤرخون أنّ الخيارات المتاحة أمام «تشرشل»، رئيس وزراء بريطانيا أثناء الحرب العالميّة الثانية، لعقد توافق لم تكن كثيرة، فلم يكن أمامه إلاّ التحالف مع شخصيتين شرّيرتين أحدهما «هتلر» والآخر«ستالين». وبعد تقدير للمواقف أختار تشرشل ستالين كشريك. يصف المؤرخون خيار تشرشل بأنّه اختار التّوافق مع أخفّ الشرّين، المتمثل في ستالين من أجل القضاء على الشرّ الأكبر هتلر. ولا نريد أن نناقش هنا تفاصيل هذا الإتفاق ولا الجدل التّاريخي حوله لأنّه ليس هدف هذا المقال وإنّما الذي يعنينا فقط أنّ العمل السّياسي والجمعياتي يفرض في أوقات ما توافقا أو تحالفا بين أطراف متنازعة ومتناقضة من أجل تحقيق هدف مشترك للجميع ولهذا برّر تشرشل تحالفه بأنّه كان تحالف المضطرّ ومن ثمّة قال بأنّه كان مستعدّا للتحالف مع الشّيطان من أجل الإنتصار على هتلر.
إنّ التّوافق ليس أمرا هيّنا ولا سهلا فهو يحيلنا في مثال تشرشل وستالين إلى مشكل أخلاقي. إذ كيف يتمّ التوافق مع شخصيّة أقل ما توصف به أنّها شريرة؟  وهل هناك في السّياسة وصفة معيّنة لتحديد الطّرف الممكن التّحالف معه؟
ولمّا كانت السّياسة هي فنّ المكن كما يقول بسمارك، وأنّ الفعل السياسي متشابك ومعقد فإنّ سؤال مع من أتوافق لا تتمّ الإجابة عنه بالبعد الأخلاقي القيمي فقط وإنّما لا بدّ من اعتماد مقاييس أكثر تجرّدا ونجاعة لتقييم أيّ توافق ومن ثمّة الحكم عليه أو له. ولهذا فإنّ الفلسفة السّياسية حرصت دائما على إيجاد مثل هذه المعايير. 
فلئن قام النّموذج الأرسطي على اعتبار أنّ كلّ فعل له أهدافه النّهائية وبالتّالي فإنّ البعد الأخلاقي هو الأساس في العملية السّياسية، ودفع الإمام الغزالي هذا البعد الأخلاقي إلى أقصاه في كتابه «التبر المسبوك في نصيحة الملوك» حين عدّد خصالا للحاكم قلّما تتوفّر في بشر إلاّ إذا عصمته الّنبوة، فإنّ مكيافلي رفض هذه الغائية وما يستبعها من معايير أخلاقية سيطرت على السّياسة الأرسطيّة حتّى لقيت هذه الفلسفة حتفها، بتعبير ميكيافيلي، نفسه، لأنهّا «تنظر للبشر كما ينبغي أن يكونوا وليس كما هم»، يقول ميكيافيلي في الفصل 15 (8) : « قصدي هو أن أكتب شيئا مفيدا للذين يعلمون، بأنّه يبدو لي من الملائم أن أذهب إلى الحقيقة الواقعية بدل تخيّلها، لأنّ كثيرين تخيلوا جمهوريات وإمارات لم يروها، إنّ هناك فرقا كبيرا بين كيف يعيش المرء وكيف ينبغي أن يعيش، حتى إنّ الذي يرفض ما يفعله الناس بالفعل مفضّلا عنه ما ينبغي أن يفعلوه يسعى إلى حتفه بدلا من بقائه» فماكيافلي نظر إلى السياسة كما هي ليس كما يجب أن تكون.
وبين هتين النظريتين المتناقضتين طوّرت الفلسفة السّياسية عديدا من المناهج والآليات المساعدة لحلّ هذا الإشكال، فكانت الدّيمقراطية أنجع هذه السّبل في زماننا هذا. فهي تضمن حقوق المواطنة واحترام نتائج الإنتخابات النزيهة وتفرض على الجميع الإلتزام بالدساتير. 
إنّ حسم تشرشل للقضية بالشّكل الذي طرحنا كان في إطار الممكن والمتاح فلم يكن المشكل الأخلاقي هو المحدّد للتّوافق الذي أبرمه بل كان الفاعلية والجدوى. 
التوافق إذا عملية معقدة وصعبة ومهمة في نفس الوقت ولذلك وجدنا الكثير من الباحثين يتحدثون على أنّه «فنّ» وتعقد ندوات خاصة من أجل تكوين السّاسة وتدريبهم على امتلاك ناصيته، فلقد تواتر في الوسط السّياسي القول بأنّ السّياسي النّاجح هو الشّخصية القادرة على فنّ امتلاك عقد التوافقات(9) . فالتّوافق متى خضع لمعايير دقيقة وواضحة تقوم  الإنطلاق من نتائج صندوق الإقتراع النابع عن اختيار شعبي حرّ ونزيه وخاضع للدّستور يمثّل أفضل المناهج لحلّ النّزاعات والصّراعات الإقليميّة أو الدوليّة عندما يتوفر فيه شرط العدل ويساعد بذلك على إحلال السلام وترسيخه.
الهوامــــــش
(1) لسان العرب،  ابن منظور،  نسقه وعلق عليه، على شيري،  دار إحياء التراث العربي بيروت لبنان، المجلد 15، الطبعة الأولى 1408 هـ  -  1988 م
(2) الفيروز آبادي،  القاموس المحيطلع،  رتبه ووثقه خليل مأمون شيحا،  دار المعرفة،  بيروت لبنان الطبعة الأولى 1426 هـ - 2005 م
(3) موسوعة السياسة، أسسها الدكتور عبد الوهاب الكيالي،  بيروت، لبنان، الطبعة الأولى1994 
(4)Historisches Wörterbuch der Philosophie,(المعجم التاريخي للفلسفة)  J .Ritter und K.Gründer,  Wissenschaftliche Buchgeselschaft Darmstadt,1976
(5) G. Simmel: Soziologische Untersuchung über die Formen der Vergeselschaftung,دراسة أجتماعية لأشكال التحول الإجتماعي 1958
(6) «Eine der größten Erfindung der Menschheit» (G. Simmel)
(7) «Hütet euch vor faulen Kompromisse» (A. Einstein) 
(8)   مكيافيلي، الأمير، الدولية للنشر والتوزيع، القاهرة 
(9) «Ein guter politiker ist nur jemand, der die Kunst der Kompromisseschließen beherrsche.» (H.J.Wilting: Der Kompromiss als theologisches und als ethisches Problem,
 التوافق كمشكل لاهوتي أخلاقي  Patmos-Verlag Düsseldorf, 1975. S. 65
 
------
- باحث تونسي مقيم في المانيا
trabelsi.h@gmx.de