نقاط على الحروف

بقلم
البشير ذياب
التمليك الثقافي لقيم الثورة.... الحلقة المفقودة في مسار الإنتقال
 أن تسبق الثقافة الفكرة أو تلحق بها ليس مهمّا، ولكن المهم هو إيجاد ثقافة الفكرة وتركيزها بكل الوسائل المتاحة، فالرسالة المحمدية لم تكن لها ثقافة سابقة، بل جاءت فكرة غريبة على مجتمع الجزيرة العربية، بل فكرة مناقضة لثقافة المجتمع بل محاربة لها أصلا، فالمجتمع العربي قبل الرسالة كان يعيش على الخمر والميسر والدعارة والعبودية وقوة المال والجاه، وقد لخصها جعفر بن أبي طالب في خطابه أمام نجاشي الحبشة حين قال « أيها الملك كنا قوما أهل جاهلية نعبد الأصنام، ونأكل الميتة، ونأتي الفواحش، ونقطع الأرحام، ونسيء الجوار، يأكل القوي منا الضعيف»، في ظلمة هذه الجاهلية تأتي ثورة الرسالة لتأخذ الجزيرة العربية من النقيض إلى النقيض، يقول جعفر متحدثا عن ثورة الجزيرة العربية «فكنا على ذلك حتى بعث فينا الله رسولا نعرف صدقه ونسبه وأمانته وعفافه، فدعانا إلى الله لنوحده ونعبده ونخلع ما كنا نعبد نحن وآباؤنا من دونه من الحجارة والأوثان، وأمرنا بصدق الحديث، وأداء الأمانة، وصلة الرحم، وحسن الجوار، والكف عن المحارم والدماء، ونهانا عن الفواحش، وقول الزور، وأكل مال اليتيم وقذف المحصنات، وأمرنا أن نعبد الله وحده ولا نشرك به، وأمرنا بالصلاة والزكاة والصيام»، إذن من النقيض إلى النقيض تأخذ رسالة محمد أجلاف الجزيرة العربية، برجال منهم، ملكهم محمد ثقافة رسالته فكانوا هم النواة الأولى للنخبة الإعلامية الداعية للرسالة الجديدة، فالمرحلة الأولى من ثورة جزيرة العرب هي التبني الإعلامي لنخبة من الرجال والنساء تولوا الدعوة لهذه الرسالة وضحوا من أجلها، وهاجروا ، فكانت تتملكهم في حلهم وترحالهم.
فقادة الثورة إذن يجب أن تكون فيهم خصال الصدق وأصالة النسب والأمانة والعفة، وهي صفات يغفل عنها الكثير من المنظرين للقيادة السياسية، فقبل الشهادة العليا والمركز الإجتماعي والحضور الركحي هناك صفات مهيأة لدرجة القيادة الراشدة، وهي صفات من المشتركات الإنسانية السامية فلا يمكن أن تربط بالإسلام السياسي أو أن يعزف أحد عن إعتمادها بخلفية إيديولوجية أيا كانت، فصفات الصدق والأمانة والعفة وطيب النسب لم تختلف فيها الديانات السماوية ولا القوانين الوضعية وكل قائد لا يتوفر فيه الحد الأدنى من هذه الصفات يفقد جزءا هاما من قدرته على توجيه أتباعه نحو الهدف المنشود لأنه يحمل خللا جينيا يفقده نقاوة التفكير وبالتالي يفقده بعد النظر الإستراتيجي لأن مصالحه الشخصية والفئوية والقبلية فكرية كانت أو فئوية تتسرب أساسا من هذه المداخل المهيأة بصفة طبيعية لإحتضانها، وكما يقول الرسول الكريم « الكفر والإيمان لا يجتمعان في قلب واحد».
فرسالة الجزيرة العربية اعتمدت في بداياتها على نخبة من أعيان مهد الرسالة، من أكابر وعلية القوم، من أشراف مكة وقادتها السياسيين والعسكريين ورجال أعمالها من كبار التجار، فمن كبار الساسة إعتمدت على أبي طالب ومن كبار المحاربين إعتمدت على حمزة، ومن رجال الأعمال خديجة وأبي بكر وعثمان هؤلاء القادة إنخرطوا في المسار الثوري بعد أن أدركوا أن الرسالة الجديدة تدعو للمشترك الإنساني الأسمى، وهؤلاء على غلظتهم وشدتهم في الجاهلية إلا أنهم كانوا يتمتعون بإنسانية عالية، كما قال فيهم قائدهم «خياركم في الإسلام خياركم في الجاهلية» فالرسالة الجديدة تبني على المشترك الإنساني ولا تقوضه، وما نسمعه اليوم من حديث إيديولوجي إقصائي عن الرجعية والتخلف إنما ينمّ عن جهل مركب بكنه رسالة الإسلام، أقول جهلا مركبا لأن هؤلاء لا يدركون أنهم جاهلون من ناحية ومن ناحية أخرى يرفضون مطلقا الإنخراط في النقاش العلمي لفلسفة رسالة جزيرة العرب، لأنها كما تعارضت مع مصلحة فئة من أهل مكة آنذاك تتعارض اليوم وبشكل أكبر مع المصالح الذاتية والقبلية الفكرية لطائفة أخرى من المتنفذين في قطاعات ( التربية والثقافة والمال والإعلام والنقابات... ).
إنخراط كبار التجار والوجهاء في المسار الثوري تمّ وقتها من الناحية السياسية بإنخراط  طوعي لعدد من عوائل علية القوم في الرسالة المحمدية، وهو ما دفعهم للبحث عن سبب إنخراط هؤلاء الأشراف في دين يحارب دين آبائهم وأجدادهم ويقوض النمط المجتمعي للجزيرة العربية ورغم ذلك فإنهم مستميتون في الدفاع عنه فقتل من قتل وشرد من شرد، وبإنخراطهم في البحث العلمي لفهم الظاهرة وجدوا أنها تستحق التضحية لما تحمله من غايات إنسانية وسياسية عالية، ولذلك أقول وبعيدا عن كل التجاذبات السياسية أن إعتبار كل المنظومة القديمة لا يمكن بأي شكل من الأشكال أن تمثل جزءا فاعلا في ماكنة الثورة هو قول لا تدعمه الوقائع التاريخية، فالوليد إبن المغيرة من أكبر قادة الجاهلية جاء من صلبه خالد إبن الوليد، عكرمة بن أبي جهل، عبد الله بن عبد الله بن أبي بن سلول، وعمرو بن العاص وأبوه العاصي بن وائل السهمي وهو من صناديد الكفر، وأبو عبيدة بن الجراح وقد تعرض له في معركة بدر فقتله وفيه نزلت الآية 22 من سورة المجادلة
لا يمكن أن توصف ثورة الجزيرة العربية بأنها ثورة جياع أو ثورة عبيد لأن أشراف مكة وتجارها وعبيدها كانوا في صفوفها الأولى، بل هي ثورة قيمية وفكرية تنقل الناس من عجرفة الجاهلية ووحشيتها إلى نور الهداية والعدالة الإجتماعية والإنتظام السياسي المتحضر ولتخرجهم من ضيق النظام القبلي الجاهلي إلى فسحة نظام الدولة المدنية المتطورة يستوي فيها العبد بسيده في الحقوق كما في الواجبات، لذلك إصطدمت الدعوة للرسالة الجديدة بثورة مضادة تحمي عرش أباطرة المال والجاه والجهل لأنّ بعدهم الإستراتيجي لا يمكن أن يتجاوز جدران مصالحهم الذاتية فهم يرون أن كل ما حولهم إنما سخر لخدمتهم ولا فرق عندهم بين العامل أو العبد وزوجته وحماره ونعله فهي كلها أشياء تؤثث عرش الأباطرة.
أباطرة المال والجاه أو السياسة لا يمكن أن يخلو منهم مجتمع من المجتمعات، حتى في أعتى النظم الديمقراطية، لأن الديمقراطية في النهاية هي نظام حكم، أي مجموعة من اللوائح والقوانين تنظم حياة المجتمعات، وعندما تتقاطع مصالح أطراف متنفذون قادرون على تحييد أجهزة الرقابة أو تجييرها يمكن أن يحصل المحضور، لذلك فإن الديمقراطية ليست شعارا يرفع أو قصيدة تلقى وإنما هي ثقافة وسلوك يتجذر في الحاكم والمحكوم على حد سواء، وأجمل ما في الديمقراطية هو أنها من أرقى آليات إنتقال السلطة التي عرفتها البشرية حتى الآن، وهي الحل الأمثل في الوقت الراهن لمعظلة لم يحسم فيها الكتاب والسنة بصفة قطعية، وهي من الأمور المسكوت عنها التي جرّت المسلمين إلى حمامات من الدماء منذ الفتنة الكبرى إلى يومنا هذا وإنحرفت بمسار الحضارة الإسلامية من قيم العدل والنزاهة إلى التقاتل على السلطة والتوريث حتى أصبحت الخلافة وهي في الأصل خلافة لصاحب الرسالة في مواصلة تطويرها وتحديثها وصيانتها بما يمكن من تمليكها للعامة إلى خلافة توريث وسطو على السلطة والمتعة والقصور والجواري. إنتقلت من سلطان العدل والتقوى والورع إلى سلطان العائلة المالكة التي إختصها الله بالملك كما إختص الرسل بالرسالة، وبذلك إنتقلت الحضارة الإسلامية من أرقى النظم السياسية في العالم إلى أشدها إستبدادا وغطرسة وجهلا وذلك لتوقف وركود الفكر الإسلامي وعدم تحديثه وتطويره في مجالات الشأن العام وبالخصوص إدارة السلطة السياسية وإنتقالها، حتى إنفرط عقد الخلافة بسبب سوء الإدارة السياسية وتخلف الأنظمة الإدارية والمالية والإقتصادية  للدولة وبالتالي تخلّي الناس وإستقالتهم من حماية الدولة لأنها أصبحت لا تمثل في النهاية إلا الزمرة الحاكمة والمتمعشون منها.
وبينما كان العالم الإسلامي يرزح تحت وطأة الخلافة القصرية، كان الغرب يطور أنظمته السياسية والثقافية والفكرية والإقتصادية، الغرب الذي تفاعلت مع حضاراتهم القديمة الحضارة الإسلامية وبنت على الإيجابي فيها ولم تكن في قطيعة معها بل في جدلية إيجابية أخذا وعطاءا، هؤلاء ونحن نتقاتل عن الحكم أحدثوا أنظمة إدارية ومالية وسياسية متطورة تحكموا بها في رقاب العالم ومنها الديمقراطية وهي أرقى نظام حديث لإنتقال السلطة سلميا.
فالديمقراطية هي أداة متطورة لإنتقال السلطة، وهي ليست دينا يتقرب به إلى إلاه، كما أنها لا تتعدى أن تكون نظام حكم ولا ترتقي إلى مرتبة نظام حياة شامل، وما تعدد الديمقراطيات في العالم إلا دليلا على أن الديمقراطية ليست قالبا فكريا نمطيا كما يدعيه دعاة الحداثة أو دعاة الجانب الفلكلوري من الحداثة الغربية، فالديمقراطية في بريطانيا ليست كمثيلها في فرنسا ولا كمثيلتها في الولايات المتحدة أو سويسرا، أو في الضفة الأخرى كالكيان الصهيوني أو ماليزيا أو تركيا، وتبني النظام الديمقراطي لا يعني بالضرورة الردة عن الدين من هذا الطرف، أو الإنسلاخ الثقافي والذوبان في قالب من قوالب الأنظمة الديمقراطية، لأنها تبقى في النهاية نظاما إداريا لتسيير أجهزة الدولة وإنتقال السلطة وتمثيل الشعب في إدارة الدولة ومراقبة أجهزتها وهو مجال يخضع للإجتهاد وقابل للتطبيق والتطوير والتطويع أيا كان النظام الإقتصادي أو الإجتماعي أو النمط الثقافي أو الديني للمجتمع.
الثورة التونسية التي اختلفت بشأنها حتى التسميات، فمن ثورة الياسمين، إلى ثورة الحرية والكرامة، إلى ثورة الجياع، إلى المسار الثوري، إلى مسار الإنتقال، إلى الإنتفاضة، إلى الإنقلاب، كلها تسميات تلتقي وتتباعد، وبين قائل أنها فاشلة، وقائل أنها ناجحة، تبقى الثورة التونسية تشق طريقها متثاقلة، حبلى بالأحداث والمفاجآت السارة أحيانا والمحزنة أحيانا أخرى، وهذا الإختلاف الحاصل تجاهها يؤكد أولا أن الثورة كفكرة أو كحدث فارق في حياة التونسيين ثابت لا محالة وعدم الجزم بنجاحها أو فشلها يدللّ على قوة وجودها الميداني، وتعدد أسمائها وإن تناقضت أحيانا يدلل على أنها ليست نكرة ، فتعدد الأسماء يدلّ على قيمة ونفاسة المسمّى.
الثابت أيضا في الثورة التونسية هو أنها قامت ضد الإستبداد السياسي والتهميش الإقتصادي والإجتماعي، وغياب العدالة الإجتماعية بين الفئات والمناطق، فهي لم تقم ضد العروبة ولا ضد الدين ولا من أجل نمط إجتماعي غربي أو شرقي، ولم ترفع لافتات تطالب بإلحاق الدولة لأحد المعسكرات الشرقية أو الغربية، بل كانت أساسا ضد الإستبداد الذي تقابله الديمقراطية، إذن فهي ثورة من أجل بناء نظام حكم ديمقراطي يتصالح مع منظومة دين وهوية وثقافة الشعب التي تعرضت لهرسلة مستمرة منذ عقود.
فالثقافة التي كان يفترض أن تكون لاحقة للثورة هي ثقافة الديمقراطية، وبناء ثقافة ما يتطلب بنية تحتية تهيء لإنغراسها، أولها الإرادة السياسية، وثانيها التسويق الإعلامي وثالثها رعاية حركة ثقافية وتربوية شاملة تطلق العنان للإبداع الثقافي والتنوع الإيجابي مع حماية الذوق العام من الإنحدار الأخلاقي الذي تعتبر التربية والثقافة والإعلام مداخله الرسمية، إلا أن هذه المنظومة كانت متعثرة وغياب الإرادة السياسية لحكومات مابعد الثورة لتأطير قطاعات التربية والثقافة والإعلام، ونجاح بارونات الفساد السياسي والمالي في تجيير قطاع الإعلام الموروث عن فترة الإستبداد في مجمله وعدم السعي أصلا لبناء منظومة ثقافية وتربوية متطورة تخدم أهداف ثقافة الثورة، والغياب شبه الكلي ميدانيا لمنظمات المجتمع المدني السابقة للثورة أو اللاحقة لها  كلها عوامل ساهمت بمقادير مختلفة في القصور في الترويج للثقافة الديمقراطية التي تمثل القلب النابض لحراك مجتمع الثورة.
المجتمعات المتحضرة لم تبن حضارتها من لا شيء، وكما يقول المثل الأمريكي « لا يمكن الحصول على شيء من لا شيء» فكل طفرة حضارية وراءها ثقافة أسست لها ودعمتها، ووراءها نخبة سياسية وفكرية وثقافية رسختها وملكتها للمجتمع، ووراءها مجتمع ضحى من أجلها بجهده ووقته ، غنيهم وفقيرهم، رجالهم ونساؤهم شيبهم وشبابهم، لأن التقدم لا يمكن أن يكون ذا قيمة إلا إذا تقاسم الجميع جهدا يبذل وثمارا تقطف فالمجتمع الألماني الذي خرج من دمار الحرب العالمية الثانية مقسما لجزئين مدمرا إقتصاديا وإجتماعيا وبنية تحتية، تمكن اليوم من الرجوع لقيادة قاطرة العالم  المتحضر سياسيا وإقتصاديا رغم الحصار الذي فرض عليه من طرف الكبار، اليابان أيضا الذي تعرض لدمار شامل في نفس تلك الحرب هو أيضا يتحكم اليوم بالمصير الإقتصادي للعالم ولا يكاد بيت في العالم يخلو من « صنع في اليابان».
تحدثت عن هاذين المثالين لأنهما خرجا من تحت رماد الحرب ببنية ثقافية وسياسية وتحتية مدمرة، دمرتها الحرب، أما نحن فإننا نخرج اليوم من تحت غبار الإستبداد السياسي كذلك ببنية تحتية سياسية وإقتصادية وثقافية وتربوية مدمرة، لكننا دمرناها بأيدينا، على إمتداد عقود طويلة، وكي لا أكون متشائما يمكن أن أقول أننا إذا توفرت الإرادة لدى نخبنا عموما سياسيون كانوا أو إعلاميون أو مثقفون أو مربون يمكن أن نحقق ما حققه الشعب الألماني، أو الشعب الياباني، إذا أحسنا التسويق لثقافة الديمقراطية، بكل عناوينها المضمونية لا بمجرد الشعارات الموجهة للإستهلاك السياسي كما حدث في السنوات الأربعة الأخيرة، ولولا أن بعض الحداثيين أو المتأدلجين لهم حساسية تجاه تركيا لذكرت التجربة التركية في المقام الأول لأنها التجربة الأقرب تاريخيا والأسرع من حيث قوة الإقلاع ولطول المحاكاة والتماهي بين تجربة الزعيمين أتاتورك وبورقيبة.
ما لم يفهمه السياسيون والقادة الحزبيون هو أن فترة الإنتقال من الإستبداد إلى الديمقراطية لا يمكن أن تكون إستبدادا كما لا يمكن أن تكون ديمقراطية، بل هي مزيج من هذا وذاك، هي فترة تأهيل للمجتمع على ترسيخ السلوك الديمقراطي في حياته اليومية منذ أن يغادر بيته صباحا مرورا بوسيلة النقل إلى عمله في المصنع أو المدرسة أو في المستشفى ...إلى أن يعود في المساء لا منهكا بما عاناه من مشقة المواصلات والتحرش والسلوكات الغير لائقة بل بما يظن أنه مجهود وضريبة يجب أن تدفع في سبيل النهوض بهذا الوطن الذي يجب أن يفكر في حمايته وتأمينه لأنه جزء منه، كان مريضا ويجب أن يعافى قبل أن يتعفن.
في ظل الإستبداد يفقد الإنسان قيمة المواطنة، لأن تقاسم المنافع الوطنية لا يتناسب مع الجهد المبذول من هذا الطرف أو ذاك، والفرص لا تتاح بالتساوي بين جميع المواطنين، وهو ما يقلص بصفة تدريجية الشعور بالمواطنة حتى يصبح الإنسان يشعر بالغربة ويفقد قيمة الإنتماء للوطن وبالتالي يفقد قيمة التضحية من أجل الوطن والمجموعة الوطنية عموما، ويصبح يرى أن الجهد الذي يبذله لا يصرف لفائدة الوطن بل لفائدة المتنفذين والمتمعشين من النظام القائم، ومن ذلك ظهرت ألفاظ وتعابير إجتماعية مثل « رزق البيليك ، نعطيه قد فلوسو، أقرى ولا ما تقراش المستقبل ما ثماش، بروط جاك الشاف...» هذه الألفاظ هي في جوهرها تعبير عن عدم الشعور بالإنتماء للوطن والمنظومة الوطنية، والخروج من هذه الثقافة السلبية التي تكرست طيلة ستة عقود والتي لا تختلف كثيرا عن ثقافة الجزيرة العربية قبل الرسالة، لا يمكن الإقلاع عنها بمجرد إقلاع طائرة الرئيس بإتجاه السعودية، تلك اللحظة الصفر، التي لو أحسنت النخب السياسية والإعلامية والثقافية إستثمارها، وإستثمار ذلك الجو المفعم بالوحدة الوطنية الذي كانت لجان حماية الأحياء تعبيرا صارخا عنه لكنّا اليوم تجاوزنا في إشعاعنا الإجتماعي والإقتصادي الدول النفطية، ولكن تلك اللحظة الصفر كانت بالنسبة للنخبة السياسية هي نقطة الإنطلاق للتدحرج الإيديولوجي الذي تأسست بموجبه كل اللجان الساهرة سياسيا وإعلاميا وثقافيا على توجيه بوصلة الإنتقال، ولن أطيل في التوصيف فالصورة الجيدة تغني عن طول الحديث.
ما نعيشه اليوم هو إنتقال من الإستبداد السياسي إلى الإستبداد النقابي، وإذا أردنا فعلا أن ننتقل إلى الديمقراطية علينا وبعد أن أرسينا تقريبا الهياكل القانونية والتشريعية التي لا يمكن أن نحقق من خلالها أي إختراق للسلوك المجتمعي إذا لم تسع النخب مجتمعة بكل ما أوتيت من وسائل وكل في مجاله لتنزيل ثقافة الديمقراطية لتصبح سلوكا يوميا للمواطن التونسي، وفي جميع مجالات الحياة، ولن أتطرق للثقافة الديمقراطية فقد أوجزها جعفر بن أبي طالب وهو يتحدث إلى نجاشي الحبشة ونحن اليوم بحاجة لأئمة خطباء يخرجون عن النمط التقليدي للخطاب الديني لأننا في مرحلة إستثنائية تتطلب خطابا إستثنائيا متطورا وتستعمل فيه أدوات إستثنائية مؤثرة تدغدغ مشاعر الناس وتقرب المسافة بين الشاب المسلم والإسلام وتخرج المنبر الديني من الحيض والنفاس والإنغلاق الحضاري إلى المدنية المتطورة والحياة الحديثة لتلامس همومه اليومية في وسائل النقل والإدارة والمدرسة وغيرها وبلغة يفهمها العامة، بعيدا عن التحزب لأن الأحزاب لا تعلم الناس الدين، أما إذا أختصر مفهوم الديمقراطية في إنتخابات نزيهة وشفافة توزّيع من خلالها المدد الرئاسية والنيابية فإننا نكون قد تخلينا عن القشر الخارجي لمنظومة الإستبداد وحافظنا على مضامينه الثقافية والفكرية والسياسية التي ستتمكن في النهاية من خلع هذا القشر لتبرز مفاتن الإستبداد التي تستهوي طائفة واسعة دفعهم الإستبداد النقابي وتردد السلط السياسية الحاكمة في بسط سلطة الدولة لليأس من كل إمكانية للنهوض.
------
- أستاذ
bechir_dhieb@yahoo.fr