قبل الوداع

بقلم
لطفي الدهواثي
أم الكوارث
 الحرب أولها الكلام ...
تتطالعك حيثما حولت ناظريك وأنت تتصفّح الفضاء الافتراضي تسجيلات لمعمّمين بالعمائم السّوداء من الشيعة و أخرى لمعمّمين بالعمائم البيضاء من السّنة وكلّ معمّم يشتدّ فى تقبيح من يناوئهم من ذوي المذهب المختلف. آلاف من الخطب والمقاطع المصوّرة التى لا هدف لها إلاّ التّعصب للمذهب والدّعوة إليه والتّشدد في إظهار الولاء والقدح فى الخصوم.
و إذا تركت الفضاء الالكتروني وانتقلت إلى الفضاء السّمعي البصري، فسوف تطالعك عشرات القنوات الفضائيّة التى تبثّ على مدار اللّيل والنّهار ما يصيبك بالغثيان من كثرة الهرطقة والسّفاهة والتكلّف والتّشدّد. قنوات موغلة فى البذاءة والردّة عن كل ما يقتضيه العمل الاعلامي من مهنيّة، والأنكي أنّها لا تفيد المستمع والنّاظر فى شيء سوى المزيد من بثّ الفرقة والكراهية والتبشير بحرب لا تبقي ولا تذر.
(2)
يجدر بنا التّذكير فى هذا المقام أنّ المعمّمين من أهل السّنة وشيوخها أكثر ميلا إلى البحث عن الحقيقة ودرأ الشّبهات والبعد عن السّباب بخلاف القنوات والشّيوخ من ذوي الميولات الشّيعية اللذين يوغلون فى التّطرف والسّباب والبعد عن الموضوعية، ولا يعني هذا مطلقا إعفاء هذه القنوات ومشائخها ممّا يسقط فيه المتشيّعون ولكن الأمر ينطوي على تفاوت ملحوظ.
(3)
تدين أمّة المسلمين بدين واحد نزل على النّبي الأكرم، وهي أمّة حفظ الله كتابها المقدّس وجعله واحدا موحّدا إلى يوم الدّين لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، وهي كذلك أمّة منشؤها عربيّ ونبيّها عربيّ وموطن صحابتها اللّذين حملوا الدّين إلى أصقاع الأرض عربيّ. ونحن إذ نؤكّد على البعد العربيّ فليس بدافع الشّعوبيّة أو بدافع التّعصب للعرق أو اللّغة وإنّما للدّلالة على أنّ التّاريخ لم ينبئنا بأيّ بوادر للاختلاف نشأت فى زمن البعثة وفي حياة الرّسول توحي بإمكان نشوب خلاف حادّ يقسم الأمة بمجرد وفاة الرّسول عليه الصلاة والسلام وأنّ أي خلاف لم ينشأ من داخل الرّسالة التى أنزلها الله على رسوله كاملة مكتملة وإنّما الخلاف مبدأه ومنتهاه خلاف في سياسة الأمّة ما بعد النبوة ولكنّه الخلاف الذي ألبس لبوس السّياسة فحول الأمّة الواحدة إلى فرق و ملل ونحل تتقاتل على السلطان وتبحث لهذا التقاتل عن تأصيل ديني متعسف على الدين وعلى سماحته.
(4)
يستطيع أيّ باحث موضوعي أن يدرك عظم المصيبة التى تتربّص بالأمّة الإسلاميّة جرّاء هذا الخلاف المتفاقم بين الشّيعة والسنة ويكفيه فقط أن يطّلع على ما يبثّ كل ثانية من سموم تزيد الفجوة اتّساعا أو يكفيه الاطّلاع على مراجع كلاّ الطرفين ليعرف أنّ الخلاف مستحكم ولا يمكن القضاء عليه فى ظلّ ما يحاك لهذه الأمّة من مؤامرات، وفي مناخ من التخلّف والانحطاط على جميع الأصعدة الثقافية والسّياسية والاقتصادية والاجتماعية.
لم تعد المسألة خلافا سياسيّا حول الحكم وأدواته وإنّما صار هذا الخلاف خلافا حول العقيدة ذاتها وصحّتها وصل حدّ تكفير كلّ طائفة للطائفة الأخرى وتجييش كلّ طرف لأتباعه بكلّ الطرق والتأكيد على استحالة التّعايش بين الطّرفين ومن ثمّ فلا بدّ من حسم خلافات الماضي كلّها ولا سلطان إلا للسّيف.
(5)
لا يخفي على أي متابع حجم ما يحاك لنا ولا مقدار انسياقنا نحو الموت والانكسار ببلادة ولا مبالاة، ولكننا أمّة غبيّة بحق ولذلك فلا غرابة أن تزيد النّار اشتعالا وأن نكون عامّة ومثقّفين وسياسيّين عونا لهذه النّار، أوقدناها نحن أم أوقدها ذووا النّفوذ من أعدائنا، ولن تكون هذه النّار إلاّ جهنّم التى تحرق فى الدّنيا كلّ ما بنته هذه الأمّة فى قرون وتحيله إلى ركام .
نحن لا نبالغ فليس أشدّ على المسلمين من قتل بعضهم بعضا، فكيف إذا كان القتال بين طائفتين كل طائفة تعد بالملايين، ولمن ستكون الغلبة فى النّهاية ونحن نرى بأعيننا نماذج مصغّرة لمثل هذا التّقاتل في العراق وسوريا واليمن؟ وكيف ستستطيع هذه الأمّة أن تحسم بالدّمار خلافا لم تستطع أن تحسمه بالحجّة والبرهان والموعظة الحسنة؟ وكيف سيتصرف أعداؤنا إزاء أمّة تتقاتل بالكامل ؟ إنّنا سوف نكون بلا شكّ رمادا لأمّ الكوارث..
 .------
- مستشار في الخدمة الإجتماعيّة
lotfidahwathi2@gmail.com