الإنسان والكون

بقلم
نبيل غربال
السماء/الكون
 الكون
لا يمكن تناول مسالة السماء والسماوات وهي ألفاظ عربية ومصطلحات قرآنية وما يمكن أن تعنيه بعلاقة بالكون، أي بكلّ ما هو معروف وما يمكن أن يعرف مستقبلا، من دون أن نبدأ بالتّذكير بالصّورة التي توصل إليها الإنسان عن الوجود (العالم، الكون) وهي الصّورة التي حاولنا تناول أهم جوانبها في سلسلة المقالات السّتة عشر الصّادرة بمجلة الإصلاح (الأعداد من 81 إلى 97 ).
تلعب قوة الجذب ألثقالي التي تسلّطها كتل الأجسام المادية على بعضها البعض الدّور الرئيسي في بنية الكون. وقوة الجذب ألثقالي هي التي بفضلها نحافظ على بقائنا فوق الأرض إذ بانعدامها سوف لن يمنعنا أحد من التّحرك بعيدا عن الأرض ولن يقرّ لنا حينها قرار. كان «نيوتن» يعتقد بأنّ الكون فضاء لانهائي تتحرّك فيه الأجرام السماوية بتأثير من قوّة جذب طبيعيّة تحدثها كتلها على بعضها البعض وهي نفس القوّة التي تحفظ بقاءنا على سطح الأرض. ويفيد قانون الجاذبية العام الذي صاغه نيوتن والمعروف بقانون «التربيع العكسي» أنّ كلّ الأجسام تتجاذب تجاذبا يزداد بتزايد كتلها وينتقص بتزايد مربع المسافة الفاصلة بينها. ورغم أنّ مدى هذا التّجاذب لانهائي فإنّ شدّته ضعيفة جدّا.ولكي يصف دوران الأرض حول الشّمس مثلا، قال «نيوتن» أنّ كتلة الأرض تخضع إلى قوّة جذب ثقالي تسلطها عليها كتلة الشّمس وفقا لذلك القانون. أمّا في انعدام كتلة الشّمس فإنّ الأرض ستتحرك في الفضاء في مسار مستقيم. يفسّر ذلك القانون الجاذبية على الأرض مثل ظاهرة السّقوط التلقائي للأجسام نحو الأرض كما يفسّر حركة الأجرام السّماوية مثل مدارات الكواكب حول الشّمس ودوران الأقمار حول الكواكب. ورغم قدرة هذا التصوّر على ربط الأرض بالسّماء من خلال وحدة القانون الذي يسري تأثيره هنا وهناك، إلاّ أنّ بعض الملاحظات الفلكيّة كانت عصيّة على التفسير مثل عدم انتظام مدار كوكب عطارد وهو ما سيقع فهمه في إطار فهم جديد لظاهرة الجذب ألثقالي.
بعد سنة 1915 وسع «اينشتين» من نطاق عمل قوانين «نيوتن» لتستجيب للملاحظات الفلكية الجديدة وخاصة تلك المتعلّقة بالأجرام السّماوية العملاقة والحركات العالية السرعة التي كانت تظهرها. فقد بين «اينشتين» في نظريته للثّقالة وهي النّسبية العامّة أنّه يمكن مقاربة الجاذبية الثّقالية بتصوّر آخر لا وجود فيه لقوّة جذب ثقالي بين الكتل بل بافتراض ظاهرة سمّاها تشوّه الفضاء. ولإدراك معنى هذا المفهوم الجديد يمكن تمثيل  الفضاء  بشبكة من الخطوط المستقيمة (انظر الرسم) تتوزّع حسب منحيين متعامدين مكونة عددا لانهائيا من المربعات. تشوّه كتل الأجسام الهندسة المنتظمة لتلك الشبكة. وبقدر ما تكون الكتلة كبيرة بقدر ما يكون التّشوّه أكبر. فلو كانت الشمس غيرموجودة لكانت الأرض تتحرّك في مسار مستقيم إلاّ أنّ وجود الشمس يحدث تشوّها في الفضاء أو بالأحرى في تلك الشبكة الخفيّة ممّا يجبر الأرض على اتّباع مسار محدّد والتّحرك وفق «طريق» أحدثه ذلك التّشوّه. وبقدر ما يكون التّشوّه كبيرا بقدر ما يكون انحراف الأرض عن مسارها الخطي اكبر إلى أن يفرض عليها مسارا شبه دائري حول كتلة الشمس مستقرّا على امتداد ملايين السنين.
ليس بإمكاننا تصوّر ذلك الانحناء لأنّه يحدث في بعد لا قدرة لحواسنا على الوصول إليه. فعالمنا الذي خبرته حواسنا له 3 أبعاد، أما الانحناء (تشوّه الفضاء) فيقع في بعد رابع لا قدرة لنا على إدراكه،«فما كلّ ما يتمنى المرء يدركه تجري قوانين الطبيعة والمنطق الرّياضي بما لا يشتهي الباحث». ولا بدّ من التأكيد هنا أنّ هذا البعد الرّابع ليس الزّمن.
وكما للجاذبيّة الثقالية قصّة مع «نيوتن» فللزّمن هو الآخر قصّة معه. فالزّمن عند «نيوتن» مستقلّ عن الفضاء ومطلق أيّ يسيل وفق وتيرة ثابتة. فالثانية ثانية سواء كنا على الأرض أو في مركبة فضائيّة متحرّكة أو على أيّ جرم سماويّ آخر فلا تأثير للحركة ولا للكتلة على الزّمن. هذه النظرة المطلقة للزّمن انهارت كذلك مع «اينشتين» أو على الأقل فلنقل تبيّن قصورها إذ أنّها لا تعطي تفسيرا ممتازا إلا ّعندما تكون سرعات الأجسام صغيرة مقارنة بسرعة الضوء وتكون الأبعاد كبيرة مقارنة بحجم الذّرة. فحسب معادلات «اينشتين» في نظريّة النّسبية العامّة، فإنّ الزّمن ليس ثابتا وبإمكانه أن يتقلّص أو أن يتمدّد مثله مثل الفضاء. وهذه أشياء ضدّ حدسنا وغير ممكن ملاحظتها في حياتنا اليومية وعند السّرعات التي نواجهها لكن كلّ التجارب التي أقيمت من أجل التأكد منها لم تنفها. فالسّاعة على الأرض لا تعطي نفس الوقت كالسّاعة التي تتحرّك. بل أكثر من ذلك فقد ولد مع النّسبية مفهوم جديد يتمثل في «الزّمكان» حيث لم يعد ممكنا التعامل مع الزمان والمكان كموجودين مستقلّين عن بعضها البعض. لقد اكتشفنا مع «اينشتين» بعد العام 1915 أنّ الفضاء والزمن منصهران في بنية واحدة هي «الزمكان» وانّ وجود المادّة في تلك البنية يشوّهها. فالمتر لن يكون مترا عند ملاحظ يتحرك بسرعات كبيرة بالنّسبة لأخر واقف والثانية لن تكون هي أيضا ثانية. إنّ «الزمكان» وتشوهاته التي تحدثها الكتلة والطاقة أيضا، لأنهما وجهان لعملة واحدة، هو ما نطلق عليه اليوم الكون. تعتمد هذه النظرة الجديدة للكون على النسبية العامة، كما سبق أن ذكرنا، وهي نظرية اختبرت بشكل دقيق وأصبحت من أدوات العلم الصّلبة في التّعامل مع الكون على المستوى الكبير. إنّ الجاذبية هي التي تشكل المكان والزمان أي «الزمكان» وبالتالي الكون. فلا كون بدون جاذبية ولا جاذبية بدون كون حسب ما تعطيه التّجربة. فالكون على المستوى الكبير نظام مرتبط جذبويّا (أي بالتجاذب التلقائي بين مكوناته المادية ومكوناته من الطاقة) كذلك على المستوى الصغير أو المحلي. فعن المستوى المحلي يمكن أن نأخذ كمثال المنظومة أرض-قمر أو المجموعة الشمسيّة، أما على مستوى أكبر فأكبر فهناك بالتّتالي المجرّات، كدس مجرّات، الأكداس العملاقة من المجرّات إلى آخره حتى نصل إلى منظومة الكون بمجملها. فالمنظومات المرتبطة جذبويّا تمثّل كلّ واحدة منها حيّزا زمكانيّا خاضعا للتأثير ألثقالي لمركز كتلها. 
وبما أنّ قوى الجاذبية الثقالية يضاف بعضها إلى بعض، فإنّ مجموع القوى التي تتولّد عن محتوى الكون من المادّة-الطّاقة (الذي يتشكّل بدوره في منظومات جذبويّة) تشكّل في الأخير بنيته. فالكون منظومة مرتبطة جذبويا وهو أيضا مجموعة من المنظومات المرتبطة بدورها جذبويا وهي تركيبة تفرضها خاصّية فريدة لقوى الجاذبية والتي تتمثّل في أنّها تضاف إلى بعضها البعض. لكلّ منظومة جذبويّة نظريّة في الجاذبيّة تفسّرها. فالمنظومة أرض وكل ما يرتبط بها جذبويا تخضع لقوانين «نيوتن»، أمّا إذا أخذنا المجرة كمنظومة جذبوية فإنّ قوانين «نيوتن» تصبح عاجزة على التّعامل معها ويتطلب الأمر التّسلح بقوانين النّسبية العامّة. المنظومة الأولى لها مجال جذب ثقالي محدود في الفضاء قياسا بالمجال ألثقالي للمنظومة الثانية، إذ يفسّر ذلك بضخامة الكتلة المجريّة قياسا بكتلة الأرض. نقطة هامّة لابد من الإشارة إليها وهي أنّه ليس هناك مركزا للكون، فكلّ نقطة يمكن اعتبارها مركزا وهو ما يخرج مباشرة من معادلات النّسبية العامة وما ليس لتجربتنا اليوميّة دليل عليه. فما علاقة هذا المفهوم الجديد للكون كمنظومة جذبوية ثقالية -هي بدورها حصيلة منظومات جذبوية ثقالية عديدة أخرى- بالمصطلح القرآني «السّماء» ومشتقاته؟
السماء لغة
ماذا تعني كلمة السّماء في الأصل، أي عندما وضعت لأوّل مرّة؟ و بعبارة أخرى ما هو المقابل لها في أذهان مبتكريها؟ نعتقد بدءا أنّ كل فكرة توجد في الذهن وترتبط بالعالم الطّبيعي لا بدّ أن يكمن أصلها في «الانطباعات» أي التّمثل المباشر لشيء ما من الطبيعة في الفكر. فما هو هذا الشّيء الذي تمثله الإنسان في فكره بعلاقة مع لفظ «سماء»؟ إنّه العلوّ والارتفاع طبعا كما تخبرنا معاجم اللّغة العربية. ففي مقاييس اللّغة نجد « السّين والميم والكاف أصلٌ واحدٌ يدلُّ على العُلُوِّ. يقال سَمَك، إذا ارتفَعَ.» توسّعت العرب في استعمال لفظ السّماء فسمّوا المطر سماء وسقف البيت سماء والسحاب سماء وكلُّ عالٍ مطلٍّ سماء، حتَّى يقال لظهر الفرس سَماء. يرتبط إذا لفظ «السّماء» عند نشأته بالارتفاع والعلو ثمّ توسّع في استعماله مع الحفاظ على جوهر معناه الذي يحيل إلى الأعلى بالنّسبة للإنسان وهو على سطح الأرض كما يجب التنويه. لا يمكن ضرورة أن يتغيّر المعنى عندما يتحرّك الإنسان منتقلا على الأرض. فأين ما وجد الإنسان على سطح الأرض يبقى لفظ السّماء صالحا بل ومحافظا على عذريته أيضا. فكل نقطة على سطح الأرض لها نفس خصائص النقطة التي كانت بيئة لنشأة لفظ السّماء من حيث علاقة الدّال بالمدلول. لذلك وباعتبار كرويّة الأرض فإن السّماء تصبح مرادفة لكلّ ما هو موجود حول الأرض وباتّجاه الأعلى وبدون حدّ، إذ لم يكن يجول ببال الأوائل أنّ هناك حدّا في اتّجاه الأعلى وحتّى إن جــــــــال بخاطرهم ذلك فهو تصوّر ولا علاقة له بحقيقة ملموسة.
يمثّل لفظ السّماء اذا تعريفا موجزا لما يحيط بالأرض مـــــن خلال حقيقة مادية (الارتفاع) تتحدّد جوهريّا بظاهرة الجذب ألثقالي. فالسّقوط الحرّ للأجسام بفعل الجذب ألثقالي يحدّد الأسفل أما الاتجاه المعاكس فهو الأعلى. اصطلح على تسمية هذا الأعلى أيضا بالفضاء. لكن علينا أن لا ننسى أنّ هذا الأعلى المحيط بالأرض من كل اتّجاه هو وجود تمثل ظاهرة الجذب ألثقالي جوهره حسب النظرة الحديثة للكون أيضا. فالفضاء هو الكون نفسه منقوصا من الأرض طبعا. لكن وبمقاييس الكون فإنّ الأرض نقطة لا أبعاد لها، فالسّماء لفظ يتّسع لمعنى الكون أي كل ما هو موجود. هل يتغير هذا اللفظ-المصطلح لو كنّا على القمر أو على سطح أي كوكب أخر في أي نقطة من الكون؟ لا طبعا. الم نقل أنّ ظاهرة الثقالة عامة ولا وجود للكون دونها. 
السماء في القرآن
يعتبر لفظ «السماء» من الألفاظ المحوريّة في القرآن الكريـــم وقد ورد في عشرة وثلاثة مائة موضع، ورد في جميعهـــا بصيغة الاسم، فجاء في تسعيـــن ومائة (190) موضع بصيغـــة الجمع «السموات»، من ذلك قوله تعالى «ألم تعلم أن الله له ملك السماوات والأرض» (البقرة:107). وجاء بصيغة المفرد في عشرين ومائة (120) موضع، منها قوله سبحانه « وأنزل من السمــــاء مــــاء»(البقرة:22). ولم يرد لفظ «السماء» بصيغة الفعل في القرآن. فما هي الكلمـــة التي معناها يسع الأخرى هل هي السّماء أم السّماوات؟
 يقول الأستاذ فاضل صالح السامرائي أنّ السّماء تأتي في القرآن في معنيين : السّماء كإحدى السّماوات والسّماء لكل ما علا. ويرى السّامرائي أنّ لفظ السّماء أعمّ لأنّه يشمل السّماوات وكل ما علانا. ونشاطر السّامرائي الرأي باعتبار أنّ الأعلى هو اتّجاه تحدّده الجاذبية الثقالية من ناحية وأن الكون بنية وحركة وتاريخا محكوم على المستوى الكلي بظاهرة الجاذبية الثقالية أيضا كما بينا سابقا. فكلّ ما علانا أي السّماء يتحدّد بظاهرة الجذب ألثقالي والكون من حيث وجوده وبنيته يتحدّد بنفس الظّاهرة فلا فصل إذا، من حيث المضمون العلمي، بين السّماء والكون ويمكن اعتبارهما كلمتين مترادفتين إلاّ أن كلمة السّماء لها أسبقيّة زمنية للتّعبير عن كل ما هو موجود بالإحالة، وبشكل مباشر،على الجاذبية الثقالية وهي خاصّية جوهريّة للوجود من منظور علمي.
إذا كانت السّماء تعني، على ضوء ما سبق، الكون فما معنى السّماوات إذا في إطار هذه الرؤية المعتمـــدة على المقاربة العلميّة للوجود؟ إنّها المنظومات الجذبويّة أي كلّ بناء تحدّد هندسته الجاذبية. ففي السّماء كمنظومـــة جذبوية سماوات أي منظومات جذبويّة كما بينّا سابقا. ولكن ما هي النتيجة من اعتبار السّمـــاء هي الكون؟ للإجابة نقول أنّ للكون اله واحد ورسالته القرآن بعثت للإنسان أينما وجد في الكون. الم يسخّر الله السماوات والأرض للإنسان؟ فماذا سيكون معنى السّماء لو انتقل على سطح أي جرم آخر في أي مكان في الكون؟ إنّه نفس المعنى الذي بني لأجله لفظ «السّماء» لأوّل مرّة. لن يتغير، الأعلى سيبقى الأعلى والأسفل أين يضع قدماه سيبقى الأسفل، إذ لا غياب للجاذبية في أي زمكان. وإن وُجد في الفضاء في مركبة فضائية حيث لا أعلي ولا أسفل فلا باس، إنّه في السّماء سواء بالمطلق أو بالنسبة لأخيه الإنسان الواقف على سطح الأرض.
 إنّ كوننا يُعرّف على أنّــــه نسيج زمكانـــي حبكت خيوطه الجاذبيّــــة الثّقاليّـــة التي تمثّل خاصّية طبيعية تنتجها المادّة سواء العادية والتي تمثل 4,9 % من طاقة الكون الجملية أو المظلمة والتي تـــقدر 25,9 % من مجموع طاقة الكـــون. فالجزء من طاقة الكون الجملية الذي تمثل الجاذبية الثقالية أثرا له هو الذي يحدّد هندسة الكـــون وهو الذي أوحى للإنسان معنى اللّفظ الذي أطلقه على كل ما علاه أي «السماء». أليس كلّ ما علانا محـــدّد بالجاذبية الثقالية؟ أليس كل ما علانا إذا هو كل ما هو موجود؟ فما معنى السّماء إذا لم تكن كل ما هو موجـــود؟ وماذا يمكـــن أن يكون معنى السّمـــاء إن لم يشمل كلمة كون؟ 
------
- أستاذ بالجامعة التونسية
ghorbel_nabil@yahoo.fr