في التنمية البشرية

بقلم
البشير ذياب
محاضن السيادة... بين التهميش الممنهج والإرتجال الإيديولوجي
 لن نخوض في مفهوم السّيادة داخليّة كانت أو خارجيّة لأنّه مثار جدل وإختلاف، والسّيادة لا ينظر إليها بعين واحدة، فهي تختلف بإختلاف الخلفيّة الفكريّة والإيديولوجيّة وبالتّالي فإنّ الحديث عن مفهوم السّيادة في هذا الوقت بالذّات هو من قبيل العزف على وتر الخلاف الذي لن ينتج إلاّ مزيدا من اللّحن النّشاز، إلاّ أنّ هذه السّيادة وأيّا كانت نوعيتها هي ثمرة لأدوات سياسيّة واجتماعيّة تتأثّر بها صعودا ونزولا، وهذه الأدوات لها محاضن تربويّة واجتماعيّة تسهر على صياغتها وتكريسها لتصبح سلوكات يوميّة أو غريزة وطنيّة لدى العامّة.
يخطىء من يظنّ أنّ وزارات السّيادة هي الدّفاع والدّاخلية والأمن والعدل، هذه الوزارات هي وزارات المحافظة على السّيادة وحمايتها وصيانتها، أمّا وزارات إنتاج السّيادة وصناعتها فإنّها لا تذكر عند الحديث عن السّيادة الوطنيّة، أو روح المواطنة، والسّلوك الحضاري، وقيم التّسامح والتّضامن، والسّلم الأهلي، وصيانة الجبهة الدّاخلية... وهي كلّها عناصر مكوّنة لاستقلال وسيادة القرار الوطني، هذه الوزارات بقدر ما تٌهمّش في صياغة السّياسات الدّاخلية للدّول الضّعيفة والمتخلّفة مثل بلادنا، بقدر ما تركّز عليها الدّول القويّة لتكريس هيمنتها وبثّ ثقافتها وتركيزها، أو تركيز ثقافة تمييعيّة لهذه الشّعوب تفصلها عن واقعها الحضاري والثّقافي في سياقاته التّاريخية، هذه الوزارات هي وزارة الثّقافة، ووزارة المرأة والأسرة والطفولة، ووزارة الشّباب والرّياضة، ووزارة التربية، ووزارة الشؤون الدينيّة.
تعرضت في مقال سابق (بجريدة الضمير) لثقافة الثّورة، ووجوب تمليكها للعامّة، هذه المرّة سنتحدث عن البرنامج السّياسي والإقتصادي للأحزاب والحكومات وآليات تنزيلها على أرض الواقع، والأحزاب السّياسية هي المرجعيّة الأساس في صياغة برامج الحكم بشقّيها المادّي المتمثّل في الإقتصاد والنّقل والصّحة والتّجارة وغيرها والمعنوي أو الفكري المتمثّل في التّعليم والثّقافة والدّين والذي يمثّل النّور الذي يضيء الجانب المادّي من الحياة الإجتماعيّة، وهو الوقود الذي يمكّن من تشغيل أيّ محرك من محرّكات المؤسّسات العموميّة والخاصّة على غرار الإدارات والمستشفيات وغيرها.
في هذا السّياق رجعت للبرنامج الإنتخابي للحزبين الكبيرين في البلاد، فكان برنامج نداء تونس يتضمّن أربعة  نقاط أساسيّة، وهي النّمو والتّشغيل، التّنمية الشّاملة جهويّا ومحليّا، التّنمية المستدامة للثّروات الطبيعيّة، التّحصين الأخلاقي في إدارة الشّأن العام ويقصد به الفساد الإداري، أمّا بالنسبة لحركة النهضة فكــــــان برنامجها في المجاليـــــــن الإقتصادي والإجتماعي يرتكز أساسا على إصلاح الإدارة، إصلاح مجال الإستثمار، الإصلاح الجبائي، الإصلاح البنكي، دعم البرامج الجهويّة للتنميــة، ترشيد النفقات العموميّة، ضبط آليات المراقبة والشفافية، وترشيد الدّعم.
في كلا البرنامجين هناك غياب تام لبرنامج سياســـي لمجالات التّدين والتّعليم والثّقافـــة والطّفولــة والشّباب، وبالتّالي يمكن أن نفهم ارتـجــال المسؤولين السّياسيين في تسيير هذه القطاعات والغياب التّام للبرامج الإستراتيجية التي يفترض أن تتماشى مع ما ورد في الدّستور الذي مُنحت من أجله بل من أجل مدنيته جائزة نوبل للسلام .
حين نتحدث عن فســـاد الإدارة، والعنف الأســـري والعنف المدرســــي، والفســـاد الأخلاقي والجريمة المنظمــــة وغير المنظمــــة والإرهاب الطبيعــــي والمصنع، والتّهريــب، هذه الآفات الإجتماعيـــة التي تهدّد أمن البلاد والعباد وتهدّد مستقبل البلاد على جميع الأصعدة السّياسية والإقتصاديــّـة والإجتماعية الماديّة منها والمعنويّة، تمثّل ضربا حقيقيّا لسيادة الدّولة ولا يمكن التّصدي لهـــا ومعالجتها لا عسكريّا ولا أمنيّا ولا بسياسة خارجيّة أو غيرها بل تعالج عبر التّعليــــم والثّقافة ورعاية الأســرة والطفولة والشّباب وهي وزارات محاضن السّيادة الحقيقيّة للمجتمع التي يفترض أن تنزّل بواسطتها السّياسات.
يفترض أن يرسم لهذه الوزارات سياسات إستراتيجيّة تحافظ على كيان الشّعب وتجذّره في هويته وقيمه الدينية الحضارية العربية الإسلاميّة مع الإنفتاح الإيجابـــي على كلّ ما هو حضارة إنسانيّة شرقيّة كانت أو غربيّة، فالإنفتاح على الحضارة الغربيّة لا يعنـــي أن نفتح نوافذنـــا على مزابل الغرب، كمــــا أنّ الرّجعيـــة لا تعني الرّجوع إلى القيم الإنسانية الفطرية التي أتت بها كل الدّيانات السّماويـــة، وهنا يمكن أن نتساءل عن الجدوى من هذه الجيـــوش من الموظّفين في هذه الوزارات المحاضن، ما يزيــــد عن 18000 موظف في وزارة الشّؤون الدينيـّــة، وأكثر من 7000 موظف في وزارة الثّقافة وقد يكون مثلها في وزارة المرأة والأســــرة، استنزاف ممنهج لأموال الدّولة، فإذا كان السّيد وزير التّربية يخوض حربا من أجل إصلاح التّعليــــم وسط جوقة من التّشكيك والتّحريض والتّعطيل نعتبرها إيجابيّة في جزء منها كي يوضع قطاع التّربية على السّكة الصّحيحة، فإنّ الوزارات الأخرى لا تبدو معنيّة أبدا بالإصلاح، كما لا يبدو أنّ الإعلام أيضا يكترث بما يحدث في هذه الوزارات، فهمّه اليوم منصب على التّشكيك في نزاهة القضاة، لأنّهم لم يسايروا الحرب الإيديولوجيّة التي تقودها جوقة من الإعلامييّن الذين لا يبدو أنّهم معنيّون بالإصلاح أو بمستقبل البلاد خارج إطار من قالوا أنّهم جاهزون للحكم، كما أنّهم يريدون من السّادة القضاة أن يحكموا طبقا لما تقوم به وسائل الإعلام من تحقيقات وما تنشره على أنّها الحقيقة المجردة لا طبقا لما يقدم له من وثائق محاكم التحقيق.
دموع الطفل «القبلاوي» التي تناقلتها وسائل الإعلام تختصر المشهد التّربوي والثّقافي والأسري بكلّ تفاصيله، وتحمّل المسؤوليّة للسّلط المنتخبة الثّلاث المسؤولة أمام الله وأمام القانون على حماية هذه البراءة ورعايتها وإتاحة الفرصة أمامها كي تعيش بكرامة وتحت رعاية الدّولة طبقا لبرامج إستراتيجيّة واعية وألاّ تترك هذه المحاضن للارتجال الإيديولوجي لهذا الطرف أو ذاك، وأن ترتقي هذه المحاضن بثقافة الطّفل ووعيه وقيمه بدلا من أن تنزل به لثقافة المشرّديـــن والمتشرذميــــن والمزطوليـــن، الذين أصبحوا يأثّثون برامـــج المهرجانات الكبـــرى بدعم من القنوات الإعلاميّة التّجاريـــة التي تحوّلت لبيوت « دعارة ثقافيّة» تسير في خطّ موازي لا يلتقي أبدا مع ما ورد في الدّستور.
يقول عـــزّ وجـــــل « إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ» (سورة الرعد - الآية 11) وهذا لا يعني أنّهم سيغيّرون ما بأنفسهم من تلقاء أنفسهم وإنّما بنخبة سياسيّة أوّلا ثمّ ثقافيّة وإعلاميّة وفقهيّة تؤسّس لهذا التّغيير وتأطّره، ولو كانت المجتمعات تعود للفطرة من تلقاء أنفسهــا ما بعث الله الأنبياء والرّسل ليعدّلوا خطّ السّير باتجاه القيم والمبادىء السّامية لأنّ النّفس البشريّة إذا تركت اتّبعت هواها، والشّعوب تتبع درجة حكّامها في الصّلاح والفســاد صعــودا ونـــزولا، لذلك أُفضّل صيغــة «كما يولّى عليكم تكونـــوا» على صيغـــة « كما تكونوا يولّى عليكـــم» ونحن نتحــدث عن جدليّة الحاكم والمجتمع.
ختاما أقول أنّ قوة الحزب ليست في الوصول إلى الحكم، بل في برنامج الحكم الذي لا يجب أن يختصر في نسبة النّمو الإقتصادي الذي لن يتحقّق أبدا بأجيال خاوية على عروشها روحيّا وفكريّا ومنبتّة تماما عن أصولهــــــــا وحضارتها وهويّتها، فالدّول التي حصلت فيها طفرة إقتصاديـــّـــة مثل الصّين أو اليابان أو ماليزيـــــا أو الهند أو تركيـــا أو إيران لم تنصهر في الحضارة الغربيّة كي تحقّق هذه الطفرة، بل حقّقتها عندمـــــا تصالحت مع هويّتها وجعلت من لغتها الأمّ لغة العلم والتكنولوجيا، وهو ما لا يمكن تحقيقه ما دامت السّلطة هي الغاية من الإنخراط في الشّأن السّياسي وليست الوسيلة لتحقيق التّقدم والرّقي طبقا لبرامج استراتيجيّة تسوس وزارات محاضن السّيادة.   
يقول الشيخ محمد الغزالي في مقدمة كتابه «علل وأدوية»: «إنني عندما أكتب أقسم مشاعري وأفكاري قسمين، قسما يتعرّف الواقع الإسلامي بدقّة أعني أحوال أمّتنا ما ظهر منها وما بطن، وآخر يتلمس من توجيهات الإسلام ما يشفي السّقام ويدعم الكيان. وفي تعرّفي على أحوال أمّتنا أميَز الأمراض الموروثة عن الوافدة حتّى لا أضلَ العلاج، ولا أسمح للأعراض المتشابهة أن تخدعني عن جراثيمها المختلفة. وفي تلمّسي للأدوية أفرّق بين الإسلام من مصادره المعصومة وبين تاريخه المتفاوت بين مد وجزر، سواء كان هذا التاريخ سياسيا أو ثقافيا».
------
- أستاذ
bechir_dhieb@yahoo.fr