السراج المنير

بقلم
الهادي بريك
كلمة رشد بين المغالين فيه ومنكري رسالته - ج 2
 مقدمة
ذكرنا في العدد الفارط أن هويّة الرسول صلى الله عليه وسلّم في القرآن  الكريم أربعة: 
1 ـ البشرية.
2 ـ البلاغ. 
3 ـ الرفعة والتكريم.
4 ـ الرسالة القيمية. 
وتطرقنا إلى النقطة الأولى المتعلّقة ببشريّة الرسول صلى الله عليه وسلّم واستخلصنا أنّ محمدا عليه السلام بشر ككل البشر من الناحية المادية والفطرية ومشاهد بشريته في القرآن الكريم مبثوثة لأجل عدم تأليهه كما وقع لعيسى عليه السلام. 
ونتطرق في هذه الحلقة إلى البعد الثاني والثالث من أبعاد هويته عليه السلام وهما البعد التبليغي الدعوي التبييني والرفعة والتكريم.
«البلاغ»
المقصود بهذا أنه لم يكن عليه السلام : 
أ ـ لا مصدر إكراه على الإيمان ولأي كان. فهو مبلغ فحسب. وفي هذا علاقة بالتهمة المعاصرة التي تلاحق الإسلام ودولته المنشودة. 
ب ـ ولا حفيظا أو حسيبا على الناس على نحو يكون مسؤولا على إيمانهم أو أنه حلقة وسطى بينهم وبين ربهم. هو مبلّغ وحسب. 
1 ـ قال له ربه (أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين). الخطاب موجه إلينا نحن في الحقيقة عندما تحملنا الغيرة والحب على مثل ذلك. أما هو فلا يلج مثل ذلك صدره لأنه هنا معصوم. ولكن جاء الخطاب إليه هو من باب التشديد على نفي الإكراه ليظل الإنسان حرا حرية كاملة ( فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر). 
2 ـ نفى عنه صفة الحفظ ( وما أنت عليهم بحفيظ) وصفة الوكالة (ما أنت عليهم بوكيل) وصفة السيطرة ( لست عليهم بمسيطر) .. كلها صفات تحتل المنزلة الوسطى بين العبد وبين ربه. هو مبلغ وحسب. 
3 ـ كما نفى عنه هداية من يحب هو. قال له في شأن عمه الذي أسدى له ولدعوته من الخدمات ما لم يسدها مسد سوى أنها كانت بدافع عصبي فحسب فلا ثواب عليها (إنك لا تهدي من أحببت ولكن الله يهدي من يشاء). نبي مكلف بالبلاغ وحسب فلا يهدي من يحب هو ولكن مفتاح القلوب بيد الرحمان وحده سبحانه. هو مبلغ وحسب. ولو كان له من أمر الهداية شيء لهدى عمه الذي حدب عليه طويلا ثم مات مشركا. 
4 ـ كلف بالتحريض على فعل الخير وليس بتكليف الناس سيما الذين لا يريدون ذلك. هو ضرب من ضروب التبليغ. قال له (لا تكلف إلا نفسك وحرض المؤمنين). التكليف هنا معناه قريب من الإكراه أو إجتناء أسباب الإكراه من مثل سلطان الحياء. مهمته البلاغ وحسب ومن البلاغ التحريض على الخير والحث عليه ترغيبا لا إكراها. 
5 ـ كلف بإبلاغ ما يأتيه من ربه فلا يزيد عنه شيئا ولا ينقص منه شيئا (و لو تقول علينا بعض الأقاويل لأخذنا منه باليمين ثم لقطعنا منه الوتين ). تشديد عجيب في مهمة البلاغ دون إضافة ولا نقصان. المقصد من ذلك هو إقناع الناس أنهم مدعوون إلى ربهم وحده وأن الذي يريد لهم ذلك هو ربهم وما محمد عليه السلام إلا مبلغ وحسب. إذ لو كان له من الأمر أي شيء لأخذتهم حمية العرب وجاهلية العرب وقالوا : كيف نسلم لبشر مثلنا أن يأتينا بهذا ونحن أحق منه به. 
6 ـ مهمته البيان والتبيين وليس أي شيء آخر ( لتبين للناس ما أنزل  إليهم). تلك هي مهمة السنة كلها أي التبيين وليس سوى التبيين. وقد تكرر هذا مرات. 
7 ـ مهمته الدعوة والبيان التي لخصها في قوله المتكرر مرات (يتلو عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة). فهو بشير ونذير ومبلغ ومبين ومعلم فحسب. حتى عندما يستخدم وظيفة الإخراج من الظلمات إلى النور يقول (بإذن الله). 
الخلاصة : مهمة البلاغ مقصدها أن محمدا بشر مثلكم حمل من الإيمان والعبادة ما حملتم وزيادة فلا هو وسيط بيني وبينكم ولا هو مسيطر عليكم ولا حفيظ ولا مهيمن ولا وكيل. أي ليس رجل دين بالتعبير الكنسي. هو مبلغ رسالتي إليكم صافية لا يزيد عنها حرفا واحدا ولا ينقص منها حرفا واحدا وما جاء في سنته قولا وعملا وإقرارا وحتى صفة إن شئت فما هو سوى تبيين مدرج ضمن رسالته. المبلغ الناجح لا بد أن يكون مبينا ولا بلاغ بلا تبيين. مهمة البلاغ لها علاقة بالبعد البشري فلو كان ملكا غير بشر لتعدت مهمته البلاغ ولكان محل عبادة أو تأليه من السفهاء منكم. 
«الرفعة والتكريم»
هو بشر مثلكم بدنا وميلادا وفطرة وجبلة يأكل ما تأكلون ويشرب ما تشربون وهو من أنفسكم لحما ودما فلا سبيل لعبادته أو تأليهه بأي معنى. وهو مبلغ عني فحسب لا يزيد ولا ينقص فلا هو حفيظ ولا مسيطر ولا وكيل ولا حلقة وسطى بيني وبينكم. هو نذير وبشير وهو مكلف بما كلفتم به أنتم ولكنه أثقلكم حملا وبيته كذلك أثقل البيوت حملا لذا فرض عليه قيام الليل نافلة أي فريضة (قم الليل إلا قليلا) و( لستن كأحد من النساء إن إتقيتن ). 
ومع بعدي البشرية والبلاغ فإنّ محمدا عليه السلام في أعلى قمم الرفعة والتكريم. 
1 ـ كرم عليه السلام بما لم يكرم به نبي ولا مخلوق من قبله وهو الصلاة والسلام عليه من لدن الله نفسه سبحانه ومن لدن الملائكة الذين لا يعلم عددهم سواه سبحانه ومن آمن من الناس والجن وهم كثير (إن الله وملائكته يصلون على النبي ). يصلون بصيغة المضارع. والصلاة دعاء والدعاء من القوي المتين قضاء له عليه السلام بالرحمة واللطف إلخ.. فهو محل حظوة ورعاية ولطف ورحمة من الله سبحانه ومن عبادة الملائكة الصلاة والسلام عليه صلى الله عليه وسلم وعلى آله وصحبه أجمعين إلى يوم الدين. لم نؤمر بمثل ذلك لأي نبي أو رسول إلا تطوعا منا ولم نخبر أن الله وملائكته يصلون بمثل ذلك على أي واحد منهم. 
2 ـ كما كرم عليه السلام بما لم يكرم به غيره وهي هدية الإسراء والمعراج نفسا وجسدا إلى سدرة المنتهى وهو المخلوق الوحيد الذي وصل إلى أعلى نقطة في الكون لم يصلها أحد من قبله حتى إن الحديث عن ذلك في سورة النجم ظل يؤكد أنه رأى من آيات ربه الكبرى وأن بصره ما زاغ وما طغى ولكنه لم يخبرنا عما رأى لأن ما رآه عليه السلام لا تعيه عقولنا ولكنها مؤهلة لتصديقه. تكريم له ولأمته ولعبادة الصلاة التي فرضت في تلك الرحلة العظيمة. 
3 ـ لأجل البلاغ حرسه ربه سبحانه فقال ( فإنك بأعيننا). ولأجل البلاغ كذلك عصمه من القتل (إنا كفيناك المستهزئين). 
4 ـ ولأجل رفعة مكانه في الأرض أمر الناس ألا يدعى بإسمه سيما في حالات مثل حالات النفاق في الخندق أن يظل القائد العظيم غير ذي حرمة بين الناس بما يؤخر النصر أو يمكن للعدو الغازي ( لا تجعلوا دعاء الرسول بينكم كدعاء بعضكم بعضا ). ولأجل الرفعة نفسها كذلك أمر الناس بلزوم الأدب اللازم في حضرته ( لا تقدموا بين يدي الله ورسوله ) وأمروا بخفض الصوت ( ولا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي ولا تجهروا له بالقول ). 
5 ـ ولأجل الرفعة دوما أعطاه سبحانه ما لم يعط أحد قبله (إنا فتحنا لك فتحا مبينا ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر ..). هو بشر يذنب لئلا يكون في  عيون السفهاء إلها يعبد. يذنب لأنه بشر فحسب. ليس المهم هنا البحث عن ذنبه إذ يكفي أن يقصر المرء في ذكر ربه ذكرا كافيا لازما خاشعا في لحظة زمن حتى يكون مذنبا .. إنما المهم هنا هو الإعتبار أنه بشر فهو مذنب إذن بالضرورة لأجل تجنيب الناس عبادة غير الله سبحانه. ولكنه ذنب مغفور فيما فات وفيما هو آت. 
6 ـ ولأجل الرفعة كذلك أمر الناس بتوقيره وتعزيره ورعاية حرمته عليه السلام ( وتوقروه وتعزروه ). التعزير هو الإنتصار له حيا وميتا. أي يكون المرء له عزيرا أي وزيرا بمثل وزارة هارون لموسى عليهما السلام. 
7 ـ وللغرض نفسه أعطي الكوثر ( الكوثر هو الكثير المبالغ فيه من كل شيء محبوب مرغوب وكان ذلك الكثير في أقصر سورة إعجازا). وأعطي ما يرضى (ولسوف يعطيك ربك فترضى ). و لا يقلى من لدن ربه سبحانه. 
8 ـ موعود بالنصر وبظهور دينه على الدين كله كما تكرر مرات في القرآن الكريم (ليظهره على الدين كله ). ويبشر بالنصر في منامه (إذ يريكهم الله في منامك قليلا).
9 ـ بل يقسم سبحانه بعمره وما أقسم سبحانه بعمر أحد من خلقه أبدا (لعمرك إنهم لفي سكرتهم يعمهون). 
10 ـ لأجل رفعته عليه السلام جعل طاعته هي طاعة الله نفسها فمن عصاه فقد عصى الله سبحانه. (من يطع الرسول فقد أطاع الله). وجعل مبايعته مبايعة لله سبحانه (إن الذين يبايعونك إنما يبايعون الله). 
11 ـ وجعل ذكره مرفوعا دوما إذ لا يخلو الكون في السماء من ملك يصلي ويسلم عليه صلى الله عليه وسلم ولا تخلو الأرض من ذكر له على مدار الساعة فإما آذان أو إقامة أو صلاة أو صلاة وسلام عليه. 
12 ـ موعود بأرفع مكان في الجنة وهو المقام المحمود الذي لا يحتله سوى واحد فحسب من الناس يوم القيامة (عسى أن يبعثك ربك مقاما محمودا). 
13 ـ وهو أولى بالناس من أنفسهم أي يفدونه بأنفسهم لأنه أغلى إنسان وأكرم مخلوق فلا يضن بالنفس ليتعرض هو للأذى ( النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم) وكذا تكريما له ورفعة لمكانه جعلت كل إمرأة يتزوجها أما للمؤمنين والمؤمنات حتى يوم القيامة (وأزواجه أمهاتهم). 
14 ـ تكريما له لا يعذب الناس مادام فيهم (وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم وما كان الله ليعذبهم وهم يستغفرون). ولا يسأل الناس أجرا لأجل إبلاغ الرسالة فليس هو بمتسول ولا يأكل برسالته ولا يريد من الناس جزاء ولا شكورا (ما تسألهم عليه من أجر). إذ لو سألهم عن الرسالة أجرا لكان في موضع أدنى ومن كانت يده السفلى لا يأخذ الناس به قدوة ولا إتساء. 
15 ـ ومن مظاهر رفعته وتكريمه الأعظم أن  معجزته التي أرسل بها ليؤمن الناس عليها لم تكن معجزة مادية تظل الأعناق لها خاضعة بل كانت معجزتة هي القرآن الكريم وحسب. لا معجزة لديه تحمل الناس على الإيمان إلا معجزة القرآن الكريم ولو لم يكن ذلك كذلك لما آمن الغربيون الذين درسوا كتابه وسيرته فألفوا ما به يؤمنون. هي المعجزة الكفيلة بالهداية بإذنه وحده سبحانه حتى يوم القيامة ولو كانت معجزة مادية لمضت كما تمضي الأيام لا تعود. 
في الحلقة القادمة : «عناوين رسالته القيمية العظيمة »
-----
-  باحث تونسي - عضو الأمانة العامة للتجمع الأروبي للأئمة والمرشدين
brikhedi@yahoo.de