قول الحق

بقلم
نجم الدّين غربال
الثورة التونسية مسار تحرر وصيرورة رفاه
 لا أستسيغ استعمال كلمة ذكرى لتوصيف ما نعيشه هذه الأيام بعد ما عرفته بلادنا في الفترة نفسها أواخر سنة 2010 وبداية سنة 2011( أي منذ خمس سنوات ) من استهداف لنظام طال قمعه للحريات وجعله منهجا في الحُكم وأمعن في إفراغ قيم المُجتمع من معانيها كقيم العمل والتضامن وكرامة الإنسان، لأنني أعتبر أن الثورة مُستمرة ولا يُمكن لها أن تكون ثورة إلا إذا أخذت حيّزا من الزمن كاف لأنّها عملية إستراتيجية أو لا تكون تتطلب بالتّالي عملية إفراغ وملء :
• إفراغ المجتمع أفرادا ونخبا وفئات من المُخلفات السّلبية لعصور الانحطاط الحضاري ومرحلة الاستعمار وولوع البعض به وعقود الاستبداد وتعايش الكثيرين معه.
• وعمل أكثر المجتمع التونسي أفرادا ونخبا وفئات ما يكفي لملء ما أفرغوه بما يُحقق أهداف الثورة في الحرية الشاملة والرّفاه العام.
وتبعا لذلك فإنّ للثورة مرحلتين الأولى صاخبة وقد تمت والثانية هادئة لم تكتمل بعد. فالثورة ليست ذكرى وإنّما مسار وصيرورة ولكن مسار ماذا وصيرورة إلى أين؟.
لا معنى للثورة إن حطّ ثوارها رحالهم ما لم تتحقق جميع أهدافها وما أراه أنّ الحرية بمفهومها الشّامل لم تتحقّق بعد وأنّ القيم التي استُهدفت كقيم العمل والتّضامن وكرامة الإنسان لم تسترجع بعد مكانتها كمحرك للعمليّة التحررية الشّاملة لكل الأفراد والهيئات في مُختلف مجالات الحياة.
إن الثورة لا يُمكن أن تكون ظرفية أو عرضية لأنّها بذلك تفقد صفتها ومُقومات تحقيق أهدافها من إرادة مُستمرة وفترة زمنية طويلة المدى. فصفة «الثورية» إنما تُطلق على الأحداث أو القرارات حين تستهدف جذور الحالة التي قامت الثورة ضدّها وتُثبّت بالتوازي مُقومات تحقيق أهدافها.
فما أوجه الحرية التي لم تكتمل بعد وكيف تتم عملية استهداف جذور الحالة السياسية والاجتماعية عموما بما فيها مجالات الاقتصاد والمال والثقافة والفن والإعلام وما شابه  حتى تُحقق الثورة أهدافها؟
ما من شكّ أنّ نظام الحكم اليوم قطع مع قمع الحريات كمنهج واتّبع سبيل الحوار والتّوافق منهجا بديلا وهذا قدر مهم من أقدار الحرية قد تحقّق في المجال السّياسي دون أن نُغفل في المجال ذاته عقلية الاستعلاء و«ما أُريكم إلا ما أرى» التي لم يتحرّر منها بعد مُكوّن من مكونات المشهد السياسي حين اعتبر أنه «جاهز للحكم» ممّا يجعله في حاجة إلى ثورة على ذاته إن كان يُريد أن يتناغم مع الثورة التونسية ومن فضل الله أنّ هذه العقليّة قد تحرّر منها من هم في الحُكم وإلاّ فقدنا المكسب الأول والأساسي الذي أفرزته الثورة التونسية المُعاصرة. 
ما من شكّ أيضا أن جزءا من النّخبة التونسية لا يزال أسيرَ منهج النخبة التي اعتمد عليها بن علي والذي يعتمد إقصاء طرف سياسي وعدم القبول به وتحميله المسؤولية كلّها على كلّ ما يقع في البلاد بعقلية تآمرية إقصائية مفضوحة لم يتحرر منها أصحابها بعد، فيكونون بذلك في أمس الحاجة لقيامهم بثورة على عقلياتهم.
ما من شكّ أنّ العمل الحكومي لم يتحرّر بعد بالقدر الكافي من المركزّية وكذلك العمل الحزبي وأنّ العمل الإداري لم يتحرّر بعد من البيروقراطية وأنّ المُؤسسات العمومية لم تتحرّر بعد من عجزها الذي ساهم في تعقيد الأوضاع المالية للبنوك وكذلك لمُؤسسات القطاعين العام والخاص، ممّا يجعل المسؤولين عن هذه المِؤسّسات الحكومية منها والإدارية والعموميّة بدون استثناء مدعوين إلى أن يثوروا على أدائهم وطُرق عملهم.
وما من شكّ أنّ الإعلام لم يتحرّر في مُجمله من ضعفه على المُستوى المهني وعلى مستوى الحيادية خاصة في الأزمات بين الدول والذي من شأنه أن يُهدّد مصالح مُجتمعنا وكذلك من نوعية اختياره لمحاور الاهتمام وخاصة تلك المُستفزة لمشاعر عموم التونسيين ممّا تدعوه الثورة التونسية إلى التّناغم مع مسارها الثّوري وأن لا يكون ضدّ التيار الثوري الهادئ الذي انخرط فيه جلّ التونسيين والشّرف كل الشّرف لمن كان له السبق فالسّابقون السابقون أولئك المُقربون في قلوب التونسيين.
ما من شكّ أيضا أنّ فئات عريضة من مُجتمعنا لم تتحرّر بعد من الجهل والمرض والفاقة والحرمان والبطالة والتهميش مما يستوجب استكمال مسار الثورة ليصير الرّفاه واقعا معيشا لأغلب فئات مُجتمعنا ويشعر البقية - على الأقل -  بالرضا.
ما من شكّ كذلك أن فئات أخرى في المُقابل لم تتحرّر بعد من البُخل والشُّح ومن التبذير والإسراف من جهة وكذلك من التهرب سواء من استثمار أموالها في وطنها أو من الآداء  الضريبي من جهة أخرى مما حال دون إسهامها في قيامها بواجبها الوطني رفعا للتحديات التنموية وعلى رأسها البطالة والفقر والتهميش.
ما من شكّ كذلك أن أفراد كُثر لم يتحرّروا بعد من ثقافة العجز والكسل والتواكل أو عدم إتقان العمل وتبذير الوقت دون القيام بواجبهم المهني ورضوا بأن يكونوا مُستهلكين أكثر من أن يكونوا مُنتجين.
لذلك كلّه وغيره أرى أنّ ثورة الأفراد على ذواتهم وثورة النّخب على عقلياتهم وثورة الهيئات على منهجهم في صميم مسار الثّورة ليصير الجميع نحو تحقيق أهداف الثورة فالثورة مسارُ تحرر وصيرورة في العمق لكن إلى أين؟
إنّ ما وصلنا إليه أنّ الثورة مُهمّة فردية وجماعية، شخصيّة ومُؤسساتية تستهدف العقليات والذوات والمنهج، ثالوث جذور الحالة السياسية والاجتماعية عموما بما فيها حالة الاقتصاد والمال والتنمية والثقافة والفن والإعلام وما شابه والتي أوصلتنا إلى ما نحن عليه منذ خمس سنوات و ما نحن عليه اليوم. 
جذور الحالة السياسية والاجتماعية
• عقليات بما تعنيه من طريقة تفكير وتصورات في حاجة إلى تغييرها وإعادة النظر فيها لـتُصبح عقليات غير مُنفلتة للتناقضات أو محكومة بالانفعالات النفسية بل مُنضبطة لشروط العقلانية خادمة لمصلحة الجميع وتكون تصوّرات واقعية تُساعد على المعرفة الحقيقية لا الوهميّة في جميع المجالات.
• وهي أيضا نفوس تأكّدت الحاجة إلى تزكيتها وما يعنيه ذلك من تنظيفها من مُخلفات الدّس عبر ما سُمّي «ثقافة» و«فن» و«إعلام» وغيره والذي ساد قبل الثورة وترعرع فيها الاستبداد والديكتاتورية وتفشّت فيها البطالة والفقر والتفاوت الاجتماعي وما بين الجهات. 
• وكذلك منهج وجب تقويمه.
أعتقد كمؤمن بما جاء في القرآن أنّ النّفس هي محور الإنسان وهي محور العملية التغييرية لقوم ما إذْ  أنّه «لا يُغَيِّرُ اللَّهَ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ» وقد ألهمها خالقها فُجورها وتقواها ووجه عباده إلى منهج الفلاح عبر تزكيتها وحذّرهم من منهج الخيبة عبر دسّها «وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا * فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا* قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا* وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا»(سورة الشمس - الآيات من7 إلى 9).
وتزكية الإنسان مرهونة بطبيعة علاقة الإنسان بما استُخلِف فيه وبالإنسان وبالله كذلك، فإن كانت علاقته بما استُخلِف فيه وبالإنسان محكومة بسلوك إيتاء المال وعلاقته بالله علاقة ذكر فصلاة، فإنّ التزكية تتحقّق وتكون النتيجة هي إعادة الاعتبار لقيم العمل والتّضامن وكرامة الإنسان وتفعيلها بما يُحقّق فلاح الإنسان ورفاه المُجتمع. 
فتزكية الإنسان تتمّ بالتّحلي بقيمة العطاء التي تتجسّد من خلال علاقة الإنسان بالمال عبر سلوك الإيتاء « وَمَا يُغْنِي عَنْهُ مَالُهُ إِذَا تَرَدَّى * إِنَّ عَلَيْنَا لَلْهُدَى * وَإِنَّ لَنَا لَلْآَخِرَةَ وَالْأُولَى * فَأَنْذَرْتُكُمْ نَارًا تَلَظَّى * لَا يَصْلَاهَا إِلَّا الْأَشْقَى* الَّذِي كَذَّبَ وَتَوَلَّى * وَسَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى * الَّذِي يُؤْتِي مَالَهُ يَتَزَكَّى* وَمَا لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزَى * إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلَى * وَلَسَوْفَ يَرْضَى » (سورة الليل - الآيات من 11 إلى 21) .
فالمال فــــــــــي التصور الإسلامي يشمل كل ما هو تحت تصرف الإنسان تصرف ملكية من وقت وقدرات نفسية وذهنية ومادية وهو لا يُغني صاحبه إذا تردى ولكن هذا المال بهذا التصور يُجنب الإنسان والمُجتمع الشّقاء إذا :     
• أتاه الإنسان (فردا أو نُخبا وهيئات)  يتزكى بمعنى يتطهر من مُعيقات حسن التصرف في ماله من عجز وجهل وكسل أو عدم إتقان وجُبن وبُخل أو تبذير وإسراف. 
• وذِكر الله والصلاة له «قد أفلح من تزكى وذكر اسم ربه فصلى» نظرا إلى أن الله وليّ نعمة العقل وكلّ القدرات لدى الإنسان والمُجتمع الذاتية والموضوعية .
والتقوى تدفع صاحبها في التّصور الإسلامي إلى العطاء المادي والمعنوي عبر الإنفاق في السّراء و الضّراء وكظم الغيظ والعفو عن الناس «سَارِعُوا إِلَىٰ مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ * الَّذِينَ يُنفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ ۗ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ » (سورة آل عمران - الآيتان 133 و134) 
تُخلّص التقوى الإنسان إذن من البُخل عن الإنفاق مهما كانت حالته المالية وتُحرره من الأسر النّفسي الانفعالي وتُمكّنه من الفعل العقلي الإرادي فيكظم الغيظ ويعفو عن النّاس مانعة بذلك مُولّدات العُزلة الاجتماعية والتّفكك الأسري والتّناحر المُجتمعي وديدنها في ذلك إدماج الجميع وباستمرار في الحياة ببُعديها الاقتصادي والاجتماعي ضمن علاقة تعاونية وتنافسية من أجل فلاح الإنسان والمجتمع.
فالثورة فضلا على أنها مسارُ تحرّرٍ هي أيضا صيرورة إلى مُصالحة الإنسان (فردا أو نُخبا وهيئات) مع الذّات العاقلة غير المُنفلتة ومع النّفس المُتحرّرة من مُخلّفات ثقافة الاستبداد وفنه وإعلامه ومع المنهج المحكُوم بمصلحة مُستقبل الأجيال والمُتخفّف من الاستعلاء والنّرجسية والانصهار مع منهج الغالب.
ألا تُقاسمونني الرأي أن الثورة ليست ذكرى إنّما هي مسار تحرّرٍ وصيرُورة مُصالحة ورفاه؟ 
-------
-  رئيس مركز الدراسات التنموية
najmghorbel@gmail.com