الإنسان والكون

بقلم
نبيل غربال
الإلحاد «العلمي» والظلم العالمي
 لست ممن يتحمسون لإحياء ذكرى مولد النبي عليه الصلاة و السلام ذلك لأني من كبار المتحمّسين لاستحضاره في كل آن وفي كل مكان. ورغم ذلك فانّي لا أجد مانعا مبدئيّا للمساهمة في إحياء ذكرى مولده الشّريف من خلال بعض الآراء التي يسعدني أن تُنشر على أعمدة مجلّة الإصلاح الالكترونية. 
الله و رسالة الأنبياء
في الحقيقة، فإنّ أوّل ما يجول بخاطري عند استحضار الرّسول الأكرم هو رسالة الأنبياء والرّسل الذين اختارهم الله والتي تتمحور أساسا حول الله الذي لا يُدرك بالحسّ ولا بالعقل. فالإنسان يعجز بطبعه على الإحاطة بالله لذلك شاءت العناية الإلهية أن تتدخّل لتذكير الإنسان بالله وبصفاته الخبرية والفعلية من ناحية ولتجيبه نهائيّا عن تساؤلات تتعلّق بالوجود والموت وما بعده. هذا فضلا عن التوجيهات الأخلاقية والقيمية والتي تشترك في أغلبها الرّسالات السّماوية وحركات الإصلاح الأرضيّة. و باعتبار أنّ «وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ » (آل عمران - الآية 144) فإنّ رسالته هي امتداد طبيعي لمن جاء قبله كما قال تعالى «وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ» (الأنبياء- الآية 25).
ما أريد تناوله في هذا المقال هو بعلاقة جوهرية مع المشترك في رسالة الأنبياء والرسل وهو ما جاء الإسلام للتّذكير به نهائيّا من خلال رسالة مباشرة من الله إلى أبناء آدم عن طريق «محمد» ذلك الصادق الأمين، أي بمسألة الاعتقاد في الله. فكيف يمكن لإنسان مسلم في القرن الواحد والعشرين أن يستوعب عقيدته وخاصّة فيما يتعلّق بوجود الله سبحانه وتعالى ويتصدى عقليّا لما يدّعيه البعض من الملحدين الملتحفين بجلباب العلم أنّ الكون لم يكن في حاجة لله لكي يوجد وأنّ فرضيّة الله غير ناجعة علميّا باعتبار عدم قدرتها على التّفسير. صحيح أنّ الرّسالات السّماوية جاءت لتأكّد استحالة إدراك الله حسّيا وأنّ الطريق الوحيد المؤدّي إليه هو الاعتقاد فيه، إذ كيف لمن ليس كمثله شيء أن يتصوّر أو يتخيل أو يدرك، ولكن لماذا يصرّ الملحدون على إقحام الله في مثل هذه المسائل في حين أنّ العلم متواضع أمام هذا الأمر باعتبار أنّ مجال بحثه كما يحدّده يتعلق بكلّ ما هو قابل للقيس والنمذجة، أي بكلّ ما هو قابل للتّصور فقط. ورغم ذلك ألاّ يمكن الرّد على ناكري الله بلغة العلم نفسها.
الثوابت الفيزيائية : وان يروا كل آية لا يؤمنوا بها (الأعراف 146)
يقول الله تعالى «سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ»(الأعراف - الآية 147). تذكّرني الآية في أولئك الذين يهربون من القول بأنّ الثوابت الفيزيائية تعكس تدبير الهي ويَلْجَؤُونَ إلى الصدفة العمياء لتفسير ظهور الكون والحياة. فما هي الثّوابت الفيزيائية وكيف يتعامل معها الملحدون؟
تتحكّم جملة من الثّوابت الفيزيائيّة في تطور الكون من الحالة البدائيّة التي كان فيها صغيرا جدّا وحارّا جدّا إلى ما هو عليه الآن. تبيّن عمليّة استقراء مستفيضة للقوانين التي تتحكّم في البناء الكوني أنّه لو كان أيّ مقدار من مقادير تلك الثّوابت مخالفا ولو قليلا جدّا لقيمته التي نعرفها الآن، لما أمكن للبناء الكوني أن يشيد. ومن الأمثلة التي يمكن أن نسوقها على سبيل الذكر لا الحصر، سرعة الضوء وكتلة الإلكترون وكتلة البروتون وثابت الجاذبية. يقدّر العلماء أنّ عدد تلك الثّوابت هو عشرون ثابتا ويقرّون بأنّ من أهمها هو ثابت كثافة المادّة-الطاقة التي انبثق بها الكون ممّا لا يدرون من ماذا. ولكي يكون الكون على الحالة الرّاهنة كان يجب أن يكون مقدار تلك الكثافة قد ضبط بدقّة تساوي 1 على 1060 وهي الدّقة المطلوبة من رام لسهم لكي يصل سهمه إلى الهدف المتمثل في مساحة بـ1 صم2 على مسافة تقدر بـ 14 مليار سنة ضوئية أي في الطرف الآخر من الكون. وهذا ما حدث فعلا. ولكن أيّ علاقة بين كثافة المادة والكون؟ تسلّط المادة-الطاقة على النسيج الكوني قوّة ثقاله جاذبة تحدّ من توسعه وتمدّده. فلو كانت الكثافة الأصلية للمادّة أكبر من قيمتها المعروفة لتوقّف توسّع الكون وتقلص حجمه وانهار على نفسه واختفى بسرعة وفي مدّة لا تتجاوز مليون سنة أو قرن أو ساعة وهو عمر صغير جدا لكي تستطيع الحياة الظهور. أما لو كانت تلك الكثافة أصغر، فلن يصبح بمقدور قوى الجذب ألثقالي تجميع الهيدروجين وتكوين النّجوم ممّا يعني استحالة بروز الحياة. يقرّ المختصون بأنّ الكثافة ضبطت بدقّة تحبس الأنفاس. دقّة لا يمكن تصوّرها. دقّة كانت ضروريّة لتتوفّر الظروف الملائمة (الزمن) لنشأة الإنسان. أمّا احتمال أن يجمع الكون كلّ الشّروط الضرورية ليتطوّر بشكل يسمح للحياة بالظهور، أي أن تضبط كل الثوابت الفيزيائية مجتمعة بالدقة اللاّزمة هو احتمال ضئيل جدّا جدّا، إن لم يكن صفرا.وانطلاقا من هذا المعطى العلمي هل يمكن الإجابة عن سؤال لماذا وجد كوننا إذا وهل هناك عناية إلهيّة وراء ذلك؟ هناك 3 احتمالات مطروحة. إرادة إلاهيّة موجهة أوالصدفة أو وجود عدد لانهائي من الأكوان. وفي هذا المستوى من التّعامل العقلي مع جوهر الحقائق الفيزيائية تتجلّى من جديد عدالة السّماء فتوفّر لكلّ النّفوس - وكلّ نفس بما تكسب رهينة – الحلّ الذي ترتضيه. يطمئن قلب الملحد إلى الصدفة والأكوان المتعدّدة.  تقول بعض النظريّات أنّ هناك عددا كبيرا جدا من الأكوان يمكن أن يصل إلى 10500 كون وهو رقم رياضي مجرّد بحت حيث لا مقابل له في الواقع الفيزيائي لكوننا. ورغم ذلك  فقد اهتز الملحدون فرحا بالنّظرية حيث أسعفتهم أو هكذا توهّموا بإجابة علميّة عمّن خلق الكون. كيف؟ قلنا أن احتمال أن تتوفّر في كوننا كل الشروط التي تمكّن الثوابت الفيزيائية من أن تكون ملائمة تقترب من صفر. ويرى الملحدون أنّ وجود عدد كبير من الأكوان يجعل احتمال ظهور كوننا مخالفا للصفر بل واحتمال كبير أيضا. واضح جدّا المنطق الاحتمالي الذي يرتاح إليه الملحدون لكن، لو نسلّم معهم جدلا بأنّ احتمال وجود كوننا لا يمكن أن يكون صفرا، فلماذا إذا يجب أن يكون احتمال وجود كونا آخر نبعث فيه بعد الموت صفرا ؟ أليس هذا تعسّف على المنطق العلمي إن صحّ أن نوسم نظرية الأكوان المتوازية  بالعلمية؟ وهنا لا بدّ من التذكير بأنّ علمية نظرية ما تقتضي قابليتها للتّجريب والدّحض والتخطيء وهو ما لا يتوفر مطلقا في النظريات التي تقول بالأكوان المتوازية؟ فعن أي علميّة يتحدثون ومالهم كيف يحكمون؟
الله كفرضية للتفسير :  وما قدروا الله حق قدره (الزمر 67)
بدعة علموية أخرى يقدّمها أشد أعداء الرّسالات السماوية ومن بينها الإسلام طبعا وهي أنّ الله لا يصلح كفرضية للتّفسير. فمن أين جيء بها؟ ومن قال أنّ الله سبحانه هو فرضيّة للتفسير العلمي؟
كانت الكنيسة تدّعي أنّ الملائكة هي التي تحرّك القمر في مداره. ومع قوانين نيوتن اتّضح أنّه لم يعد القمر بحاجة إلى الملائكة. ففي كون نيوتن أصبحت الحتميّة هي سيّدة الموقف. فكلّ شيء محكوم بقوانين رياضية صارمة ودقيقة. لذلك لم يعد الكون بحاجة للتّدخل الإلهي المباشر كما تصرّ على ذلك الكنيسة، إذ يعني التّدخل المباشر انتفاء الأسباب التي يمكن للعقل أن يكتشفها. فالله، عند نيوتن، هو من أعطى لـ «ماكينة» الكون الإذن بالتّحرك ثم بقي يراقبها عن بعد وهو تصوّر شخصي للإله كما استقر في عقل نيوتن. هكذا كانت العقائد الجديدة والمنافسة للعقيدة المسيحيّة تتأسّس منذ القرن السادس عشر في أوروبا بناء على ما يتوصّل إليه العلم التّجريبي من نظريّات وما يتّضح من حقائق. وقد أدّى ذلك التّغير في العقائد المتعلّقة بما تقوله الكنيسة عن الله إلى قول شهير صدر عن لابلاس (1749 – 1827) عندما أهدى نسخة من مؤلّفه المكوّن من خمسة مجلّدات (ميكانيكا الأجرام السّماوية) إلى نابليون بونابرت إذ قال «لست في حاجة إلى تلك الفرضيّة» بعد أن لامه على عدم ذكر «المهندس الكبير» ويعني الله ولو مرة واحدة. إنّ هذا الردّ الواضح يدلّ بوضوح أكبر كيف أنّ الكنيسة غرست في عقول أتباعها أنّ تفسير الطّبيعة بدون إدراج الله كآلية آو كفرضيّة يتنافى مع الاعتقاد في وجوده. فلا غرابة إذا أن يرسب في لاوعي النّاس في البيئة المسيحيّة ذلك الشّعور العميق بالتناقض بين تفسير الظواهر الطبيعية بالقوانين الرياضية واعتماد التّجربة للوصول إلى ذلك من جهة والاعتقاد في الله من جهة ثانية. بل وصل الأمر إلى أخطر من ذلك إذ وبحكم موجة الاستعمار وما رافقها من انتشار لثقافة المنتصر عمّت فكرة التناقض بين الاعتقاد في الله وتبني التفسير العلمي للظواهر الطبيعية. واستحضر دائما ما كان يقوله لي أحد زملائي في الدّراسة ونحن نتحسّس معا في المعنى من الوجود في فترة مراهقتنا، كان يقول لي أن الادّعاء بأنّ الله ينزّل الغيث ليس له معنى، فلسنا في حاجة للاعتقاد في الله لكي نفهم كيف ينزل الغيث وأن الآلية الطبيعية للمطر أصبحت معروفة بل ومسيطر عليها تقنيا ولو جزئيا. ولم يكن موقفه ذلك مجانيّا في علاقته بالدّين، بل كان يؤسّس إلى إلحاد صلب اشتهر به العديد من المثقفين في البلاد العربية. لقد كان الوضع السّياسي والأيديولوجي السائد في الستينات والسبعينات من القرن الماضي يغذّي مسألة الإلحاد إذ كان المعسكر الاشتراكي متبنّيا للفكر الماركسي اللينيني حامل لواء الإلحاد المرتدي لجبة العلم. ولا ننسى طبعا ما نشره داروين (1809 – 1882) عن أصل الأنواع عن طريق الانتقاء الطبيعي الذي جاء ينسف ما تبقّى من العقائد المسيحيّة التي تقول بالتّدخل المباشر لله –بالمعنى الذي ذكر سابقا - في عمليّة خلق آدم بالتّحديد باعتبار قيمته في الوجود. ذلك أنّ نظرية داروين كانت تقول في بدايات صياغتها أنّ أصل الإنسان أقلّ نبلا ممّا كان يعتقد في الدّين المسيحي، إذ أنّه ينحدر من القردة التي انحدرت بدورها وبالتوالي من الزواحف والحيتان وصولا إلى الخلايا البدائيّة. وممّا ساعد في انتشار ما قالت به النّظرية كانتشار النّار في الهشيم أنّ نشأة الكائنات تطلّبت مليارات السّنين عكس البضع ألاف من السّنين التي تبنتها الكنيسة كعمر للكون. 
عقيدة الإلحاد و رسالة محمد
مازلنا نقرأ إلى يومنا هذا عن أقلام علماء طبيعة كبار أنّه لا حاجة لنا لفرضيّة وجود الله لكي نستقرأ الطّبيعة ونكتشف نواميسها ونخضعها لمصلحتنا. ومازال هناك من يدّعي انسلاخه عن الإسلام بدعوى تناقضه مع المنهج العلمي وأن الحاجة للاعتقاد في الله انتفت بفضل العلم ومنهجه. إن الحكم على الشّيء فرع من تصوّره. و تصوّر الملحدين لما هو الله هو الذي أنتج موقفهم منه. وما بعث لأجله محمد عليه السلام والأنبياء من قبله مازال قائما. إنّه التّعريف بالله كما عرف بنفسه تعالى في القرآن الكريم وبدون وسائط، لا علماء دين ولا فقهاء ولا دعاة ولا دكاترة ولا أحد. فقد نزل القرآن بلغة عربيّة واضحة وبسيطة فيما يتعلّق بالغيبيات حتّى لا يكون للنّاس على الله حجّة. فالله واحد أحد وليس كمثله شيء وهو اله في الأرض واله في السّماء أيّ في الكون وهو محيط بكل شيء علما ولا تأخذه سنة ولا نوم. وهو الذي يطلب منّا صراحة بالتّدبر في خلق السّماوات والأرض وأن ننظر كيف بدأ الخلق. وهو الضامن المطلق في ردّ الاعتبار لمليارات البشر الذين ماتوا مظلومين ولمليارات من البشر لاحقين سيظلمون من طرف ماكينة المتكبرين والمستبدين الذين يجدون عونا فلسفيّا فيما يقدّمه الملحدون من نظرة عدميّة للوجود. إنّ عقيدة الإلحاد التي جاء الرّسول محمد لكي ينسفها بالعقل هي التي تسوغ للظّلمة والمجرمين أفعالهم. فهي التي تطمئنهم بأنّهم مفلتون من العقاب إذ لا عقاب أصلا فالوجود عبث و«اللي يدبر راسو صحه ليه» كما يقول المثل الشّعبي. فشكرا للعقل الملحد على البديل الفلسفي ألعدمي الذي يقدّمه للبشريّة. ولا نستغرب كمّ الدّمار الهائل الذي يلحق البشريّة في ظلّ سيادة فلسفة الإلحاد واللاادرية على عقول صنّاع القرار في عالمنا اليوم. أليس العالم في حاجة من جديد إلى رسالة محمد كما نزلت وبدون ما تراكم حولها وفوقها من مفاهيم وتصوّرات؟ من سيتحمل مسؤوليّة الدّعوة للقران ويقدم رسالة من بعث رحمة للعالمين بدون زيادة أو نقصان؟ والسلام عليك يا حبيبي يا رسول الله.  
------
- أستاذ بالجامعة التونسية
ghorbel_nabil@yahoo.fr