قول الحق

بقلم
نجم الدّين غربال
خواطر إحيائية في ذكرى مولد الرّحمة العالمية
 يتجدد ميلاد النبي محمد عليه السلام باستمرار وبدون توقف بميلاد الخير في كل لحظة مع ميلاد كل إنسان جديد ليُولد معه أمل جديد أقرّه صاحب الذكرى نفسه حين قال إنّ «الخير فيّ وفي أمتي إلى يوم القيامة» خيرا كان وسيظل حاجة أكيدة للبشريّة جمعاء إلى يوم الحساب حاجة نقف اليوم جميعا عند ضرورتها خاصّة ونحن نُتابع ما يجري في وطننا العربي والإسلامي وفي بقية العالم الذي يجمعنا.
فبذرة الخير تلك والتي تُولد مع كل إنسان هي محل استهداف اليوم من خلال سفك الدّماء كعنوان للإرهاب الذي يستهدف النوع البشري ذاته «مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَــلَ النَّاسَ جَمِيْعًــا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَــا النَّـــاسَ جَمِيْعًــا» (المائدة 34).
فكل واع مِنّا يجد نفسه اليوم أمام مُفترق طريقين إمّا أن يُساهم في إحياء النّاس جميعا أو أن يُساهم في قتل النّاس جميعا ولكن الحمد لله القيوم على مُلكه والذي وعد أن لا يتبع أهواء القتلة والمفسدين في الأرض حين قال «وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ وَمَن فِيهِنَّ»(المؤمنون 72) وبقي الشرف كل الشرف لمن يسعى مع السّاعين لإحياء النّاس جميعا من بني آدم.
إن كلّ إنسان «يُولد على الفطرة» كما أقرّ ذلك النّبي محمد صلى الله عليه وسلّم أي على المحجّة البيضاء بما يرمز لصفاء سريرة الإنسان وإنحيازه أصلا للاستقامة مما يجعله يتقاطع مع الدين الإسلامي رسالة النبي للناس جميعا و«فطرة الله التي فطر الناس عليها»(الروم 33) فالإنسان بذلك يجد نفسه في ذلك الدين مُحققا لذاته دون أن يعيش حالة الإستيلاب أو حالة الوهم.
فمولد النّبي صلى الله عليه وسلّم يتجدد إذا باستمرار وبدون توقف وكذلك رسالته وذلك بميلاد الإنسان الذي جعله الخالق خليفة في هذه الأرض لا مُجرد كائن كبقية الكائنات في السماوات والأرض ذات البرمجة المُسبقة والمُسخرة أصلا للإنسان بعطائها الدائم لمُستلزمات حياته الطبيعية.
وقد استعمر الخالق الإنسان في الأرض وعلّمه الأسماء كلها ليقوم بمُستلزمات الاستخلاف فيها مما استوجب سُجود الملائكة له مانحا إياه بذلك صفة التكريم المطلق.
إن كرامة الإنسان تُعتبر قدرا إلاهيّا لا هبة من أحد لا أفراد ولا منظمات أو هيئات ولا إيديولوجيات، فهي إذن مُعطى لا مُكتسبا وبالتالي فهي ثابت لن تجد له تبديلا ولن تجد له تحويلا لترتقي إلى أن تكون سُنّة وجب تحديد مُقدماتها أو مُستلزماتها.
والجُهد البشري الفكري منه والإجرائي معني بالحفاظ على تلك الكرامة وتوفير مُستلزماتها وحمايتها في كل مجالات الحياة الاجتماعية والسياسية والاقتصادية والثقافية والفنية وغيرها. 
وأحسب أن أهمّ تلك المُستلزمات حرّية الإنسان ورزقه وتفضيله والتي ترتقي جميعها إلى مُستوى الإلزامية نظرا لأنّ الخالق وهو صاحب «المثل الأعلى» حمل الإنسان في البر والبحر ورزقه من الطيبات وفضله على كثير ممن خلق تفضيلا، مٌرسلا بذلك رسالة لنا مفادها أن كرامة الإنسان تُستهدف إذا فقد حُريته أو رزقه أو تفضيله وذلك هو القانون العام للكرامة. 
ولعل تفضيل الإنسان من الله كحقيقة يفرض علينا جميعا دولة ومجتمعا أن نتوحد ونعمل في اتجاه الوصول إلى اليوم الذي يُصبح فيه كل مواطن وكل مواطنة «آمنا في سربه مُعافى في بدنه له قوت يومه» ليصبح «كمن حيزت له الدنيا بحذافرها» كما ذكر ذلك الرحمة العالمية نفسه.  
والنبي محمد خاتم النبيين مُتجدّد هو ومن سبقوه بالنبوة إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها وهم بيننا دائما أبدا برسالتهم وبورثتهم.
برسالتهم التي تعكس إرادتهم إصلاح طريقة التفكير لدينا بالاعتماد على منظومة قيمية بديلة لنصل إلى تغيير ما بالأنفس تحقيقا لشرط تغيير ما بنا. 
وبورثتهم العلماء «العلماء ورثة الأنبياء» وما يقتضيه ذلك من الاستفادة القصوى مما توصلوا إليه في كل مجالات البحث في أي مكان من العالم وخاصة في مجال الاستشراف لنتقي أخطار الجهل بمآلات الأمور.
فما أهم ملامح المنظومة القيمية المُستوحاة من رسالة النبي محمد عليه السّلام وما ينتظر العلماء من دور في إصلاح الأوضاع حتى يكون لهم شرف وراثة الأنبياء؟
I- ملامح المنظومة القيمية الاسلامية
تُعتبر المنظومة القيمية مجموعة مُترابطة من القيم المُتفاعلة فيما بينها تنبثق من فلسفة للوجود والحياة والإنسان يُراد من خلالها تهيئة بيئة تتحقق من خلالها شروط الحياة الكريمة للإنسان والمجتمع فهي بالمُحصلة مشروع استراتيجي للحياة الطيبة. 
وانطلاقا من مرجعيتنا الإسلامية المُؤمنة بالله واليوم الآخر والمُستندة لكتاب الله تعالى فإني أعتبر أن هذه المنظومة تندرج ضمن الرؤية التوحيدية التي تُسلّْم بأن للوجود ببعديه الطبيعي والإنساني واجدا قيّوما كما تُؤمن بأن الحياة حياتان تُمهد الأولى للآخرة.
ومحور هذه المنظومة القيمية هو الإنسان باعتباره قيمة القيم معيارا اكتسبه حين جعله الله سبحانه في الأرض خليفة وعلّمه الأسماء كلّها وأمر ملائكته بأن يسجدوا له كما أعلمتنا بذلك آيات القرآن.
وتُعتبر المنظومة القيمية سندا لطريقة تفكير جديدة وتستمد قيمتها من تنظيمها للعلاقات بين الإنسان والواجد من جهة وبين الإنسان والوجود ببُعديه الطّبيعي والبشري من جهة ثانية في مُختلف مجالات الحياة الاجتماعية منها والاقتصادية والسياسية والثقافية في هذه الحياة  الدنيا وفي علاقة بالآخرة. 
I- 1   القيمة الناظمة لعلاقة الإنسان بالواجد : التقوى وعدم الاستغناء
ومُنطلق العلاقة بالواجد هي ما حظي به الإنسان من لدنه من تكريم وما تابعه وما يقتضيه ذلك من تقوى الله تقوى تستمد قيمتها من حاجة الإنسان للحفاظ على القيمة التي قدّرها الله للإنسان وسبق توضيحها واتقاء فِقدانها.
إن المعنى الأساسي للتقوى هو عدم استغناء الإنسان وكذلك المجتمع عن الله بوصفه «الصمد» أي قاضي حاجات الفرد والمجتمع وما يقتضيه ذلك من السعي الإنساني لاكتشاف سُنن الله في الوجود الطبيعي والبشري حتى يتقي الإنسان وكذلك المجتمع عواقب جهلهم بها.
وتبعا لذلك فالتقوى حين تكون مقرونة بالإيمان بالله تتسبب في فتح خيرات من السماء والأرض لبني شعبنا والتكذيب في المُقابل مُنذر بأخذهم وعذاب شديد يلحق بهم «ولو أن أهل القرى آمنوا واتقوا لفتحنا عليهم بركات من السماء والأرض ولكن كذبوا فأخذناهم بما كانوا يكسبون»( الأعراف 95 ).
كما أنّ التقوى تستمد قيمتها من قُدرتها على تمكين الإنسان من تجاوز الأزمات ولما لها من ثمرات في الحياة رزقا ويُسرا «...ومن يتقي الله يجعل له مخرجا ويرزقه من حيث لا يحتسب...»(الطلاق 2) «...ومن يتقي الله يجعل له من أمره يُسرا»( الطلاق 3).
I–  2  قيم ناظمة لعلاقة الإنسان بالوجود :
 2 - أ) الوجود الطبيعي : النّظر والتّفكر والاستخلاف والتّعمير.
تلك هي القيم الأربع التي تحكم علاقتنا بالوجود الطبيعي سماوات وأرض وما فيهن وهي التي تُحدد تصورنا له كما تُمكننا من معرفة الكيفية التي تم بها الخلق وهي التي تُحدد دورنا في الأرض ومهمتنا تُجاهها وهي التي تصلنا بالواجد وإليه.
فالنظر في المخلوقات والتفكر في خلق السماوات والأرض يُعمق الاعتقاد في عدم عبثية الوجود وإقرار النظام فيه وإتقان صُنعه وما يعنيه ذلك من أهمية تناغم الوجود الإنساني مع هذا الوجود الطبيعي بأن تكون له غاية في ذلك الوجود وانتظام في الحياة وكذلك إتقان للعمل فيها بما يُحقق استتباعات الاستخلاف والقيام بشكل جيد بعملية التعمير مما يعكس الرُؤية التوحيدية للوجود ببُعديه المادي والإنساني.
2 - ب) الوجود الإنساني : العطاء – الأخوة - السلم
انطلاقا من تسخير الله تعالى لمُكونات الوجود الطبيعي للإنسان بما يعنيه من عطاء دائم كقيمة ثابتة تحفظ لحياة الإنسان استمراريتها إلا أن نوعية تلك الحياة مرهونة بمدى تمثل الإنسان والمجتمع لقيمة العطاء وما تعنيه من قيم التضحية والإيثار وسداد القول وصالح العمل المتقن وقوام الإنفاق من جهة وبمدى نأي الفرد بنفسه والمجموعة عن البخل وما يعنيه ذلك من تعطيل للنشاط الاقتصادي والاجتماعي من جهة أخرى كل ذلك جلبا للمصالح ودرءا للمفاسد.
من جهة أخرى نرى أن تكون العلاقات الثنائية والمتعددة الأطراف داخل المجتمع وفي مختلف مؤسساته وأولها الدولة محكومة بقيمة الأخوة «إنما المؤمنون إخوة»(الحجرات 10) وما تفرضه تلك القيمة من التزام بقيم المساواة والعدل والإحسان وما يعنيه ذلك من سلوك منهج التوافق والتسامح والتكافل والشورى وذلك تأسيسا للعمران البشري.
أما على مستوى العلاقة التي تربط الدولة والمجتمع بالمحيط الذي يحيا فيه وبالعالم الذي ينتميان إليه والتي نرى أن تكون محكومة بقيمة السلم «يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ»(البقرة 208) وما تفرضه تلك القيمة من ضرورات التعارف والاحترام المتبادل والحفاظ على المصالح المشتركة للبلدان والتعاون وأن تكون علاقاتنا بالمنظمات الدولية كصندوق النقد الدولي والبنك العالمي وغيرهما من المانحين قائمة على تلبية الحاجات التنموية لمجتمعنا والحفاظ على استقلال قرارنا الوطني. 
لذلك تكون قيم العطاء والأخوة والسلام محددة لنوعية الحياة التي يحياها كل من الفرد والمجموعة في مجتمعنا. 
I – 3  قيم ناظمة لعلاقة الإنسان بالآخرة : التصديق وعدم التكذيب
إن نجاح ما سبق ذكره من علاقات في تحقيق شروط الحياة الكريمة للإنسان والمجتمع كما تعكسها رسالة الإسلام مرهون بقيمة التصديق باليوم الآخر وعدم التكذيب به ذات الأهمية القُصوى نظرا لتنسيبها للحياة الدنيا بما يفتح للإنسان آفاقا أرحب تُحرره من الرضا بالمُستوى الأدنى للحياة وتدفعه للبحث عن الحياة الطيبة التي يحفظ بها تكريمه وحُريته ورزقه وتفضيله في أُفق فوزه بالحياة الدائمة في الفردوس الأعلى في الحياة الآخرة.
كما أن التصديق باليوم الآخر يقوي الرقابة الذاتية ويُحدّ بالتالي من المفاسد خوفا من العقاب ويدفع من جهة أخرى للقول السديد والعمل الصالح والمتقن رغبة في الجزاء.
II- دور العلماء في إصلاح الأوضاع
بدت الحاجة اليوم مُلحة لوضع استراتيجيات مُتبصرة وسياسات حكيمة حاضرة ومستقبلية تُسهم في تحويل الإمكانيات بالقوة إلى إمكانيات بالفعل وكذلك وضع مُعادلات رياضية تضبط العلاقات ما بين كثير من المتغيرات التي أصبحت سمة السّياق التاريخي الذي نحياه وذلك لنكون أكثر استبصارا بصناعة مستقبل مجتمعنا وأكثر تحكما في مُجرياته وللعلماء في هذا السياق دور محوري من خلال :
• تأطير الطلبة وحضورهم بفاعلية في وحدات البحث بالجامعات وتوظيف الإمكانات المُتاحة لديها خدمة للبحوث في اتجاه  توفير شروط الإقلاع الحضاري
• القيام ببحوث الاستشراف الاجتماعي التي تُعنى باستشراف أبعاد المستقبل لشعوبنا وللبشرية وذلك من خلال مُناقشة مصير مجتمعاتنا وبقية المجتمعات وإعداد دراسات حول الظواهر الاجتماعية والجماعات الفاعلة والتي في طريقها أن تكون مؤثرة وكذلك دراسات حول مسار تطور هيكلة مجتمعاتنا.
•  القيام بدراسة التفاعلات والعلاقات الجدلية بين مكونات هذه البنية الاجتماعية وبين غيرها من عوالم تُشاركها في المرحلة التاريخية ووحدة المصالح وصراعها سواء كانت هذه العوالم طبيعية أو نُظما إقليمية أو دولية. 
في الختام نُؤكد على أن أهم ما عُلمنا من رسالة النبي محمد التقوى كمنهج لتحقيق إرادة الإصلاح وأن للعلماء بوصفهم ورثة للأنبياء دور كبير في مجال الاستشراف ليُعينوا السياسيين وكل الفاعلين في الشأن العام على إتقاء مخاطر الجهل بمآلات الأمور.
-------
-  رئيس مركز الدراسات التنموية
najmghorbel@gmail.com