السراج المنير

بقلم
الهادي بريك
كلمة رشد بين المغالين فيه ومنكري رسالته
 مقدمة
الحمد لله الذي أكمل لنا ديننا وأتم علينا نعمته وأسبغها ظاهرة وباطنة ورضي لنا الإسلام دينا. الحمد لله الذي أكرم الإنسان بخير دين أنزله ليظهره على الدين كله وخير شرعة وخير منهاج وخير كتاب « لم يجعل له عوجا» وخير نبي يتلو علينا آيات الله سبحانه ويزكينا ويعلمنا الكتاب والحكمة وخير أمة «وسطا» لنكون « شهداء على الناس» ما إستقمنا على الصراط المستقيم أمرا بالمعروف ونهيا عن المنكر وإيمانا بالله وحده إيمانا لا يلبس بظلم.
اللهم صل وسلم وبارك على مبعوثك رحمة للعالمين سيدنا وحبيبنا وقائدنا وقدوتنا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين وآته الوسيلة والفضيلة والمقام المحمود الذي وعدته إنك لا تخلف الميعاد. 
لماذا هذه الكلمة؟ 
1 ـ لأن أكثر المسلمين اليوم لا يلمون بشخصية محمد عليه السلام إلماما جامعا إلا قليلا إذ يقصر أكثرنا علمه به على ما إلتقفه سمعه فمنه غث ومنه سمين ومنه عدل ومنه جور.
2 ـ لأننا مفرقون فيه اليوم بين فئتين : فئة تقصر علمها على بدنه فتقدمه في وسائل الإعلام المكتوبة والمرئية أنه بطل من أبطال كمال الأجسام لفرط ما تعكف على وصف شحمة أذنه وكيفية مشيته وبنيته. وفئة تظنه رجلا صالحا متدينا لا علاقة لرسالته بما يطحنهم اليوم من قهر سياسي وجور إقتصادي وأمية في العلوم والمعارف التي ملكت ناصيتها أمم فعربدت بها علينا سلبا ونهبا وإحتلالا. 
3 ـ لأنه لا سبيل لتجديد الإيمان به وبرسالته ووعده الصادق الذي لا يكذب إلا بإستخراج هويته القيمية والنبوية والرسالية من الكتاب الكريم الذي بث من ذلك فيه بثا خصيبا. أما إستخراج تلك الهوية من أي مصدر آخر ـ حتى لو كانت السنة نفسها أو السيرة نفسها مقدمة على القرآن الكريم ـ فما هو إلا تسلل من النافذة الخلفية كما يفعل اللصوص متنكبين عن الباب الرئيس حيث الإستقبال والتكريم والتوجيه.
4 ـ لأن أكثر المتحدثين عن محمد عليه السلام في مثل هذه المناسبة ـ مناسبة ذكرى مولده ـ يظلون متخاصمين إما حول مشروعية الإحتفاء بمولده أو تبديع ذلك وعندما تفض تلك الخصومة يكون الحديث عن أسرته وليس عنه هو ثم عن سيرته قبل النبوة وليس عن سنته وبعد حسم كل ذلك يخرج القارئ أو المستمع بصورة عن محمد عليه السلام هي إلى صورة «بابا» الفاتيكان أدنى أو إلى صورة القتال الفتاك الذي يحمل سيفه يجوب به الآفاق ليقطع به عنق كل كافر أو يكرهه على الإسلام أو يدفع الجزية ليعيش صاغرا. 
5 ـ لأن أكثر الناس يظنون أن كل معجزة مادية ـ على ندرتها في حياته ـ هي معجزته التي بها يؤمن الناس إلا المعجزة التي أوتيها لتكون هي معجزته الأولى والأخيرة وإلى يوم الدين أي القرآن الكريم المحفوظ المعجز. لا يخفى أن ذلك يحفر فينا للتدين الأسطوري الخرافي أخاديد غائرة للتواكل والكسل والتبطل والتعطل وقتل التفكير ووأد الحرية.
أركان هويته في القرآن الكريم أربعة : 
1 ـ البشرية.
2 ـ البلاغ. 
3 ـ الرفعة والتكريم.
4 ـ الرسالة القيمية. 
هي كلمة رشد وسطى بين إتجاهات مرذولة في التعرف إلى محمد عليه السلام وتقديم هويته التي بها وحدها حفل كتابه ـ أي الهوية النبوية الرسالية القيمية لا الهوية البدنية الشخصية ولا حتى الأسرية لا أصولا ولا فروعا ـ. 
هي كلمة تتوجه بنداء حار إلى المسلمين أن صححوا تصوركم عن نبيكم عليه السلام أولا فإذا فعلتم ذلك تأهلتم إلى تقديمه إلى الناس فإن المختلفين حول هوية قائدهم لا يرص لهم صف ولا يرهبهم عدو ولا يرغب فيهم صديق. 
«البشرية»
محمد عليه السلام بشر مثله مثل كل بشر.
يحرص الوحي الكريم على تأكيد هذه الحقيقة والتذكير بها مرات ومرات. لم؟ ألا يعلم الناس يومها أنه بشر مثلهم؟ يعلمون أنه بشر مثلهم قطعا فهو من «أنفسهم» وقد خبروه أربعة عقود كاملات ورفعوا خلقه إلى مرتبة «الصادق الأمين». إنما تكرر ذلك التأكيد وذلك التذكير بأمر معروف معلوم لمقصد واحد عنوانه : هذا آخر رسول لي إلى الناس جمعاء قاطبة ولا أريد أن يحيق بكم ـ ولا بمن يأتي بعدكم حتى يوم القيامة ـ ما حاق بأتباع عيسى إبن مريم عليه السلام إذ رفعوه إلى مرتبة الإلهية. ذاك مصير كفر وشرك. بشرية محمد عليه السلام إذن هي مضاد حيوي ناجع نافع ضد أي محاولة تأليه له لأن الشرك لا يغفر أبدا ولو كان المشرك بي يفعل ذلك بأحب خلقي إلي أي محمد عليه السلام. 
الخلاصة : بشرية محمد قطع لدابر التأليه. مضاد حيوي لتجفيف منابع التأليه. 
1 ـ هو بشر ينسى مثل كل بشر. برز ذلك في قوله سبحانه «ولا تقولن لشيء إني فاعل ذلك غدا إلا أن يشاء الله». وذلك عندما أخبر سائليه عن بعض الأمور أنه يعلمهم غدا ونسي أن يقول إن شاء الله. دليل على أنه بشر فلا تعبدوه ولكن إتبعوه وصدقوه وعزروه. 
2 ـ هو بشر لا يعلم الغيب ولا ينفع ولا يضر حتى نفسه. برز ذلك في آيات منها قوله سبحانه «ولو كنت أعلم الغيب لأستكثرت من الخير وما مسني السوء». دليل على أنه بشر فلا تعبدوه ولكن إتبعوه وصدقوه وعزروه. 
3 ـ هو بشر يمكن إضلاله في الدنيا وليس في الدين. برز ذلك في قوله سبحانه «ولولا فضل الله عليك ورحمته لهمت طائفة منهم أن يضلوك». في قصة اليهودي المتهم بالسرقة زورا وقد نجح السراق في توجيه سير التحريات النبوية حتى برأ سبحانه ساحة اليهودي المظلوم. دليل على أنه بشر فلا تعبدوه ولكن إتبعوه وصدقوه وعزروه. 
4 ـ هو بشر يؤذيه ما يؤذي كل بشر. برز ذلك في الحديث عن الأدب الواجب عندما يكون الناس في بيته « فيستحيي منكم». أي أنه يستحيي من الناس عندما يكونون في بيته أن يظهر تبرمه لكثرة لبثهم هناك بغير موجب. دليل على أنه بشر فلا تعبدوه ولكن إتبعوه وصدقوه وعزروه.
5 ـ هو بشر يخطئ التقدير الدنيوي لا الديني فيعاتب. برز ذلك في جملة العتابات التي تلقاها عليه السلام من ربه فمنها «عبس وتولى» إذ صرف وجهه عن عبد الله إبن أم مكتوم الضرير وهو منهمك يدعو الكبراء. ومنها إذنه للمنافقين للتخلف عن تبوك «عفا الله عنك لم أذنت لهم» ومنها تحريمه مباحا على نفسه إرضاء لزوجاته « لم تحرم ما أحل الله لك» ومنها إحتفاظه بأسرى بدر « ما كان لنبي أن يكون له أسرى حتى يثخن في الأرض». وغيرها من العتابات. دليل على أنه بشر فلا تعبدوه ولكن إتبعوه وصدقوه وعزروه.
6 ـ هو بشر يعجب بحسن النساء. برز ذلك في قوله سبحانه « ولو أعجبك حسنهن». إذ منع عليه أي نكاح جديد. الذين ينفون عنه ذلك يسيؤون إليه من حيث أرادوا الخير. الإعجاب بحسن إمرأة من لدن رجل دليل على إستواء بنائه الغريزي الفطري الجبلي. دليل على أنه بشر فلا تعبدوه ولكن إتبعوه وصدقوه وعزروه.
7 ـ هو بشر يتعرض في بيته لما يتعرض له أي بشر من مشاكل. هو بشر واللائي تزوجهن بشر مثله ومثلكم جميعا. بيت نبوة بشري وليس بيت ملائكة. هن بشر يتعرضن للغيرة كما تتعرض أي إمرأة في قصة التحليل نفسها «لم تحرم ما أحل الله لك». إذ لجأ إلى تحريم المباح الذي تناوله في بيت إحداهن إرضاء لعائشة وحفصة اللتين إستبدت بهما الغيرة فطامن سبحانه من غلوائها. دليل على أنه بشر ويتزوج بشرا مثله فلا تعبدوه ولكن صدقوه وإتبعوه وعزروه
8 ـ هو بشر يتعرض لحلقة أخرى من المشاكل البيتية في قصة النفقة «إن كنتن تردن الحياة الدنيا وزينتها فتعالين أمتعكن وأسرحكن سراحا جميلا». هن بشر مثله ومثلكم جميعا ينجذبن إلى زهرة الحياة الدنيا ويطالبن زوجهن بالتوسعة في النفقة. دليل على أنه بشر فلا تعبدوه ولكن صدقوه وإتبعوه وعزروه 
9 ـ هو بشر يفزع ويخاف ككل بشر فيلجأ إلى بيته ناشدا التزميل والتدثير«يا أيها المزمل» و« يا أيها المدثر». دليل على أنه بشر فلا تعبدوه ولكن صدقوه وإتبعوه وعزروه
10 ـ هو بشر منا لحما ودما وغريزة وجبلة وفطرة «قل إنما أنا بشر مثلكم يوحى إلي أنما إلهكم إله واحد». و«قل سبحان ربي هل كنت إلا بشرا رسولا». و «من أنفسكم». إنما إعترض المشركون على بشريته جحودا وإمعانا في اللي إذ طالبوا بأن يكون الرسول ملكا لا بشرا وكان الجواب «ولو جعلناه ملكا  لجعلناه رجلا وللبسنا عليهم ما يلبسون». لو كان ملكا لطار عنادهم وجحودهم وقالوا : أنى لنا أن نتبع كائنا ليس مثلنا. 
11ـ هو بشر يأكل ويشرب ويمشي في الأسواق ويموت ويبعث ويحاسب هل أدى الرسالة أم لا. فلا تعبدوه ولكن صدقوه وإتبعوه وعزروه. 
الخلاصة 
محمد عليه السلام بشر ككل بشر من الناحية المادية والفطرية ومشاهد بشريته في القرآن الكريم مبثوثة لأجل عدم تأليهه كما وقع لعيسى عليه السلام. ضلت البشرية كثيرا في شأن عيسى عليه السلام. ولن يكون آخر نبي في الأرض محل عبادة أو تأليه. ذاك لا يليق لا بالمعبود الواحد الحق سبحانه ولا بأحب خلقه إليه محمد عليه السلام. 
في الحلقة القادمة : «البلاغ»
-----
-  باحث تونسي 
عضو الأمانة العامة للتجمع الأروبي للأئمة والمرشدين
brikhedi@yahoo.de