في العمق

بقلم
محمد القوماني
النبيّ العربي: خاتما للمرسلين ورحمة للعالمين
 جاء في صحيحي البخاري ومسلم من حديث أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أنا أولى الناس بعيسى بن مريم في الدنيا والآخرة، والأنبياء إخوة لعلاّت، أمّهاتهم شتّى ودينهم واحد». وللحديث صياغات أخرى بنفس المعنى. ومفاده  أنّ الأنبياء عليهم السلام على اختلاف ما أوحي إليهم من شرائع وتفاصيل دعواتهم، ينتسبون إلى دين واحد وهو دين الإسلام ويدعون إلى عقيدة واحدة وهي توحيد الله تعالى وحسن عبادته، كما ينتسب الأبناء من أمّهات مختلفات إلى أب مشترك واحد. ومعنى هذا الحديث يخالف خطأ شائعا بين المسلمين وهو القول بأنّ الرسول محمد صلّى الله صلى الله عليه وسلم جاء بدين الإسلام. والصحيح أنّه ختم دين الإسلام الذي تعاقب المرسلون في بناء حلقاته. وحول هذا التدقيق نتوقّف في هذا المقال لتبيّن بعض دلالات الخاتمية التي تجعل من النبي العربي محمد رحمة للعالمين. 
تفيد آيات القرآن التي تعدّ المرجع الأساسي للمسلمين في سير الأنبياء وخاتمهم عليهم السلام، أنّ المرسلين على اختلاف أزمنتهم وأماكنهم وأقوامهم يتفقون في أنّ مُرسلهم واحد وهو الله تعالى، الذي بعثهم أئمة  للناس يخرجونهم من ضلال الشرك إلى هدى التوحيد، ومن سخف التفكير في تقليد الآباء والأجداد وعبادة ما لا يسمع ولا يبصر ولا ينفع ولا يضرّ إلى إعمال العقل وعبادة الله ربّ المخلوقات جميعا الذي لا شريك له في الخلق والملك والتسيير وإليه المصير. رسلا يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويدعون إلى الفضيلة ومكارم الأخلاق. «وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ وَإِقَامَ الصَّلاةِ وَإِيتَاء الزَّكَاةِ وَكَانُوا لَنَا عَابِدِينَ» .(الأنبياء - الآية 73)
ويدعو القرآن إلى الإيمان بسائر المرسلين دون تفريق بينهم في نبوّتهم. «وَالَّذِينَ آمَنُواْ بِاللّهِ وَرُسُلِهِ وَلَمْ يُفَرِّقُواْ بَيْنَ أَحَدٍ مِّنْهُمْ أُوْلَئِكَ سَوْفَ يُؤْتِيهِمْ أُجُورَهُمْ وَكَانَ اللّهُ غَفُورًا رَّحِيمًا.» (النساء - الآية 152) ويوضّح أنّ دينهم واحد لا يجوز التنازع فيه والتفرّق بسببه. «شَرَعَ لَكُم مِّنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ».  (الشورى - الآية 13) 
ومن رحمة الله تعالى بعباده أن جعل رسله يتعاقبون وكان الوحي عبر التاريخ مواكبــــــا لتطــــور وعـــي الإنســـان، حتى اكتماله ونضجه واستقلاله. «ثُمَّ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا تَتْرَىٰ كُلَّ مَا جَاءَ أُمَّةً رَسُولُهَا كَذَّبُوهُ فَأَتْبَعْنَا بَعْضَهُمْ بَعْضًا وَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ  فَبُعْـــــــــدًا لِقَوْمٍ لَا يُؤْمِنُـــونَ». (المؤمنون - الآية  44). فقد كان الوحي مرشدا للإنسان في صيرورته على الأرض. وكان أنبياء الله عليهم السلام معلّمين للبشرية في ارتقائها وتحرّرها عبر العصور. حتى جاء الرسول الخاتم محمد صلّى الله عليه وسلم ليكون اللبنــة الأخيرة فــــي البنـــــاء النبــــوي. وجاء القــرآن ليعلــن استقـــــلال العقــــل وتوقّف الوحــــي نهائيــــا. « الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِينًا.» (المائدة - الآية 3)
فالإسلام من منظور القرآن هو دين الله تعالى الذي جاء به سائر المرسلين ممّن اصطفى الله تعالى من العالمين وجعلهم أئمة هادين مهتدين، إخوة من أمّهات شتّى  ودينهم واحد، تعاقبت رسالاتهم وتكاملت وكان بعضهم يصدّق بعضا، حتّى تمّ بناء صرح الإسلام العظيم، الذي اكتمل برسالــــة محمّد خاتم النبيئيـــــن. «إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْــــلَامُ». (آل عمران - الآية 19) «مَّا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِّن رِّجَالِكُمْ وَلَكِن رَّسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيما.» (الأحزاب - الآية 40)
وقد لخّص الرسول الخاتم دلالة الخاتمية في أحاديث مشهورة على نحو قوله صلّى الله صلى الله عليه وسلم: «إن مثلي ومثل الأنبياء من قبلي كمثل رجل بنى بيتا فأحسنه وأجمله، إلا موضع لبنة من زاوية، فجعل الناس يطوفون به ويعجبون له، ويقولون هلاّ وضعت هذه اللبنة قال: فأنا اللبنة وأنا خاتم الأنبياء» (رواه البخاري ومسلم) وقوله «إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق.» ( رواه مالك ) فقد اكتمل البناء النبوي وازدان بالرسول الخاتم (بكسر التاء أو فتحها) الذي شهد له الله تعالى بكمال أخلاقه.«وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ» (القلم - الآية 4)
 كما جذّر القرآن الرّسالة المحمديّة في محيطها العربي الديني والتاريخي والرمزي، حين ربط الرسالة المحمدية برسالة إبراهيم الخليل عليه السلام الجدّ المشترك للرسالات الثلاثة الكبرى الأخيرة الموسويـــة والمسيحيــة والمحمديـــة وذكر أنّه أوّل المسلمين. «قُلْ إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِـــي وَمَحْيَـــايَ وَمَمَاتِــي لِلّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ لاَ شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَاْ أَوَّلُ الْمُسْلِمِيـــنَ» (الأنعـــام - الآيتان 162و163) ومن خـــلال ردّ القــــرآن تسمية «المسلميـــن» إلى إبراهيـــم. «وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُــمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُــمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِّلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِيـــنَ مِن قَبْلُ وَفِي هَذَا لِيَكُونَ الرَّسُــــولُ شَهِيدًا عَلَيْكُمْ وَتَكُونُـــوا شُهَدَاء عَلَى النَّـــاسِ فَأَقِيمُوا الصَّــلاةَ وَآتُوا الزَّكـَـــاةَ وَاعْتَصِـــمُوا بِاللَّهِ هُوَ مَوْلاكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِـــيرُ». (الحجّ - الآية 78) ومن خلال خاصـــة فريضة الحــــج إلى بيت الله الحرام الذي أقام قواعـــده إبراهيـــم وإسماعيــل عليهما الســـلام ولم تنقطع العـــرب عن الحـــج إليه، حتـــى في مراحل الشرك، منذ أذّن إبراهيم في الناس بالحج.
كان الرّسل من قبل يُبعثون إلى أقوامهم خاصّة، وأرسل الله محمدا للنــّـاس كافّة بشيرا ونذيرا. «وما أرسلناك إلا كافة للناس بشيرا ونذيرا ولكن أكثر النــاس لا يعلمــون.» (سبأ  - الآية 28) وقد استطاعت الفتوحات الإسلامية العسكرية والتجارية والثقافية أن تنقل الإسلام في صيغته المكتملة من جزيرة العرب التي كان لها شرف الاحتضان إلى أصقاع العالم، ليصبح الإسلام أحد الديانات الكبرى في العالم وتنتشر معه اللغة العربية (لغة القرآن) وليكون الرسول العربي الخاتم للرسالات النبوية أحد الشخصيات العظيمة في التاريخ. 
علّم محمد صلّى الله صلى الله عليه وسلم العرب وكانت أوّل كلمات القرآن «اقرأ» وأخرجهم من الجاهلية ليجعل منهم أمة رائدة وخالدة. «هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الأُمِّيِّينَ رَسُولا مِّنْهُمْ يَتْلُـو عَلَيْهِمْ آيَاتِـهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَـابَ وَالْحِكْمَــةَ وَإِن كَانُوا مِن قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُّبِينٍ وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُـوا بِهِمْ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيـمُ» (الجمعة - الآيتان 2 و3). كان القرآن نبوّة الرسول الخاتـــم ومعجزتـــه ورسالته في آن واحد. وقد حفظه الله تعالى فانتشر بين الناس بالمشافهـــة والكتابة بما حفظه من التحريف. وهو نبع عظيم من المعاني المتجدّدة وكأنّه من كثرة تفاسيـــره والرغبة في تفاسيـــر جديدة له يتنزّل على النـــاس مجدّدا في كل مرحلــة. «قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِمَــاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَــدَدًا»  (سورة الكهف - الآية 109) يدعو الإنســـان إلى تدبّر معانيـــه، دون احتكار تأويلــه أو ادّعاء التطابــق مع مراد الله تعالــى منـــه. «وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَــهُ إِلَّا اللَّهُ». (آل عمران - الآية 7). ليكون القــرآن بذلك هاديـــا للعقــل لا وصيّا عليه.
دعت الرّسالة المحمديـــة النّاس كافّة إلى المساواة والتّعارف والتآخـــي والتعـــاون على البرّ والتقوى وإقامة العـــدل وحفظ الحيـــاة والعقـــل والمـــال والنســـل والإحسان إلى الجار وصلة الرحم ومحبّة الغيــر والشورى في تسييـــر الأمور وعبـــادة الله تعالى وحـــده والتقرب إليه بتحقيـــق صفاته الحسنى في النفس وفي المجتمع حتى تكون العبادة تقرّبا إلى الله من جهة القصد وطريقا إلى الكمال الذاتـــــــي والاجتماعـــــــــــي من جهة النتيجة. وبهذه المعاني والمقاصد وغيرها من تعاليم الإسلام السمحة وقيمه النبيلة يكون الرسول العربي الخاتم محمد صلّى الله صلى الله عليه وسلم ومن تبعه بإحسان إلى يوم الدين رحمة للعالميــن. «وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين.» (الأنبياء- الآية 107)
أحبّ الرسول الخاتم الناس فلم يبال بما أصابه في سبيل دعوتهم. كان حريصا على هدايتهم وعلى مصلحتهم، كريما متسامحا يردّ السيئة بالحسنة ويستغفر لصحابته وللمؤمنين والمؤمنات. « لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتم حريص عليكم بالمؤمنين رؤوف رحيم فإن تولّوا فقل حسبي الله لا إله إلا هو عليه توكلت وهو رب العرش العظيم.» (التوبة - الآيتان 128و129) كان عنيــــدا في مواجهة أعدائه حتّى ردّ بغيهم ونصره الله تعالى عليهم وكان عفوّا عند المقدرة فقال يوم فتح مكة لمن فاتلوه وناصبوه العداء وكابروا في رفض الهدايـــة «اذهبوا فأنتم الطلقاء.» وقد أحبّه أصحابه لما وجدوا فيه من لين المعاملــــة وقوّة الحجة والإقنــاع. «فَبِمَـــا رَحْمَةٍ مِّنَ اللَّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنفَضّـــُواْ مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ إِن يَنصُرْكُـــمُ اللَّهُ فَلاَ غَالِبَ لَكُـــمْ وَإِن يَخْذُلْكُمْ فَمَن ذَا الَّذِي يَنصُرُكُـــم مِّن بَعْدِهِ وَعَلَــى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ.» (آل عمران - الآيتان 159و160) فلم يتخلّوا عنه في حياته وواصلوا دعوته بعد وفاته  صلّى الله صلى الله عليه وآله وسلّم.
-----
- كاتب صحفي
goumani.med@gmail.com