نقاط على الحروف

بقلم
أ.د.احميده النيفر
إلا رسول الله ..... تفرُّسٌ في مسارات استئصالية
 (1)
تختزل قضية الرسوم الكاريكاتورية الدانمركية الهازئة بالرسول عليه السلام وما شابهها من رسوم لاحقة وما انجرّ عن ذلك من مضاعفات لا تكاد تنتهي أزمةً مركَّبةً وخانقةً بين أطراف واسعة من العالم العربي الإسلامي وجانب هام من نخب الغرب الأوروبي. لذا يصعب القول بأنّ الموضوع في حقيقته صراع بين حداثة غربيّة لا يمكن أن تتخلّى عن حرية التعبير والتفكير وبين شرق مسلم لا يريد التنازل عن مقدّساته ولا يسمح بإهانة رموزه الدينية.
عرض القضية بهذا التعميم لا يساعد على التوقّف للكشف عما يعتمل في الفضاءين (العربي- الإسلامي والغربي الأوروبي) من انسدادات وعوائق وما يثار بينهما من اختلاف في خصوص نظرتهما إلى العالم والذات والمستقبل.
لا يعني ذلك أن حريّة التعبير ليست من المحددات الحضارية في الغرب، كذلك فإنه ليس من قصدنا دعم مقولة بعض النخب العربية التي لم تستهجن تلك الرسوم المسيئة فلم تر فيها أي تبخيس للمسلمين.
ما نودّ لفت النظر إليه في المقام الأول هو أن لا تناقض البتّة بين حرية الصحافة والتعبير وبين احترام المعتقدات الدينية، ذلك أن ما أكّده أكثر من كاتب ومعلّق هنا وهناك اختار اتجاها معاكسا ينطلق من ضرورة تحديد موقف واضح: إما مع الحرية و إما مع التديّن. 
لا أدلّ على تهافت مثل هذا الرأي مما وقع في الصحيفة الدانمركية ذاتها: الــ «يولاندس بوستن» التي كانت قد رفضت في أفريل/ نيسان 2003 نشر رسوم كاريكاتورية للسيد المسيح اعتبرتها مسيئة إليه وإلى أتباعه. إلى هذا نذكر أن هيأة تحرير الصحيفة قد وجدت نفسها في خريف 2005 عند الشروع في مناقشة نشر الرسوم الكاريكاتورية منقسمة بين مؤيد للنشر ومعارض له. 
(2) 
يُثبت هذان المثالان أن حرية التعبير تظلّ محكومة بضوابط حدود الحياة المدنية وما تتطلبه من توازن وتفاهم، يضاف إلى ذلك حالات أخرى عديدة في « الغرب الديمقراطي» تؤكد ما أصبح يًُعرف بــ«استبدادية الاتصال» التي تعرّي الواقع الفعلي للسلطة الإعلامية المتحكّمة في صنع الخبر وتبادله. ما نريده من هذه الأمثلة هو أنّنا نحتاج في حديثنا عن حرية التعبير إلى قدر أكبر من تنسيب في الرؤية وموضوعية في الأحكام.
الأمر -إذن- أعقد من أن يُعرَض في صيغة «مانوية» تبسيطية تدفع إلى ضرورة الاختيار بين حرية التعبير وبين التديّن أي ضرورة الإقرار بالتناقض الجوهري بين عالمين: «عالم التسامح والتحرر» وبين «فضاء الإيمان والتديّن».
رغم هذا فإن ما نشره اثنا عشر كاتبا بينهم «سلمان رشدي» و«تسليمة نصرين» و«برنار آنري ليفي» يؤكد في سذاجة مذهلة هذا التوجه وينافح عنه. نجد في هذا البيان- النموذج الذي أصدرته صحيفة أسبوعية فرنسية أعادت نشر الرسوم الدانمركية دعوةً للتصدّي إلى «الشمولية الإسلامية» والوقوف إلى جانب « قيم العلمانية والحرية والدفاع عنها».
أن يقع هذا من قِبَـل بعض مثقفي فرنسا المتشبثين إلى الآن بعلمانية استئصالية ترفض ما يعتبرونه « حرمانا للمسلمين من حقوقهم في المساواة والحرية والعلمانية باسم احترام الثقافة أو التقاليد» ، مثل هذا الموقف يمكن أن يُفهَم دون أن تكون له حظوظ في التفهّم. أما أن ينضمَّ إليهم لفيف من كتاب وصحفيين تتحدّر غالبيتهم من عالم إسلامي أحد إعاقاته الكبرى صنعتها نخبُه التحديثية المكرّسة للقطيعة مع مجتمعاتها وثقافتها المحلية، فتلك هي الشناعة بعينها. 
إن أول ما يثير الاستهجان في الرسوم الكاريكاتورية وما تولّد عنها من ردود فعل بين «الشرق» و«الغرب» هو أن الذين يعتبرون أنفسهم خصوم العقائد الشمولية والأصوليات الإيديولوجية لا يفعلون شيئا آخر سوى تقوية ذلك التيار ونشره. يحصل ذلك لأنهم يستميتون في الدفاع عن قضية تتوالى الأحداث موضوعيا في إثبات فشلها لكونها أفضت إلى أصناف من القهر والتعسف حالا دون أي إبداع أو تحرر.
(3)
لا غرابة إن شهدنا منذ عقدين من الزمن سقوط مقولة العلمنة اللادينية في العالم الإسلامي والغربي على السواء. ما جرى في إيران الشاه ثم ما تحقق في تركيا أتاترك بعد ذلك بأسلوب آخر يقضي بنهاية العلمنة المناضلة كأحد أبعاد عملية التحديث.
على المستوى العالمي كان سقوط الاتحاد السوفياتي في جانب من أهم جوانبه إلغاء للفكرة القائلة بأن التحديث يؤدي بالضرورة إلى إقصاء الدين. 
كيف – والحالة هذه - لم ينتبه ناشرو الرسوم الدانمركية ومؤيدوهم أنهم يسيرون ضد حركة التاريخ و أن علاقة الدين بالسياسة علاقةُ تمايزٍ ترفض القطيعة والإقصاء ؟ 
من جهة أخرى فإن الرسوم الكاريكاتورية وما شابهها من أعمال وتصرفات تبخيسية للمسلمين تثير تساؤلا آخر موصولا بقضية الحدود الفاصلة بين المجتمعات والثقافات والأديان. ما تفضي إليه الثورة المعلوماتية ووسائل الاتصال المتطوّرة هو تغيير حتمي للعلاقات بين الدول والمجتمعات والثقافات والمعتقدات. من ثم فإنّ الحديث عن عالم واحد وحضارة واحدة للجميع ليس شعارا أجوف بل هو حقيقة تفرض نفسها تدريجيا على الحواجز القديمة وما يرتبط بها من مفاهيم كالاستقلالية الكاملة والسيادة المطلقة والعوالم المنفصلة.
ضمن هذا السياق يكون السؤال الأنجع كيف تساهم الخصوصيات العرقية والثقافية والدينية في التأسيس لعالم تصاغ فيه الحدود القديمة بشكل يحقق تعايشا رغم الاختلاف بل وبفضله؟. إن ما تجاهلته هذه الأعمال النابعة من العنصرية الثقافية في أوروبا وأمريكا وأعرضت عنه غالب ردود الفعل العنيفة أننا أصبحنا مدعوّين إلى أن نعيش معا ومختلفين.
(4)
ما تقترفه هذه الدعوات هو رفض لواقع مستقبلي هو قيد التشكّل بخطى وئيدة وأكيدة تتجه نحو عالمية ثقافية تأسس لحداثات مختلفة وكونيات متحاورة، من أبرزها حداثة وكونية إسلامية. ما يصنعه واضعو الرّسوم وناشروها كان أكثر كاريكاتوريّة من الرّسوم نفسها لأنه كشف عن جهل فاضح وسوء تقدير لمسيرة التاريخ البشري في راهنيته.
ذلك أن معنى الرسوم – من الزاوية الحضارية المعاصرة – هو أن أصحابها يفكرون من داخل حصون افتراضية متداعية يعلو فيها بكاء على عالم يتجه إلى الانقراض، عالم شعاره: «الشرقُ شرقٌ والغرب غرب ولن يلتقيا». كاريكاتورية الرسوم تعيد السحرَ على الساحر لأنها تعبّر عن سذاجة القائلين بحداثة واحدة ووحيدة يسعى إلى النيل منها «البرابرة» من أبناء محمد وبناته.
منتهى ما يمكن أن نقترحه من جانبنا العربي الإسلامي كإضافة إلى الرسوم وكتعليق عليها هي عبارة نقتبسها من كتاب تداولناه قديما بيننا : «حصوننا مهدّدة من الداخل». 
يبقى بعد هذا الطرف المقابل وكيف عبّر عن موقفه من الإساءة التي انضافت إلى سلسلة طويلة من الإهانات والاستباحات؟ 
غالب ردود فعل الطرف العربي المسلم كانت إما غير مقنعة وإما مثبتة لصفة الهمجية التي عمل على إلصاقها أصحاب الرسوم الدانمركية بالمسلمين. 
هذا الصنف الأول من المواقف والكتابات كان تعبيرا عن فجيعة قديمة –متجددة لقسم هام من المسلمين. إنها – حسب عبارة صاحب سراج الملوك- الفجيعة «من الدهر الخؤون، دهرٍ ذهب صفوه وبقي كدره فالموت تحفة لكل مسلم...»
(5)
نسبةٌ أقل من ردود الفعل كانت مغايرة في طبيعتها ووجهتها لما انساقت فيه الجموع الغاضبة المفجوعة والمندّدة والمهدّدة. من بين هذه الأقلية الواعدة ارتفع شعار: « إلاّ رسول الله» تعبيرا واعيا عن رفض الإساءة إلى الرسول عليه الصلاة والسلام، هذا أولا .
ثم لأنّ في هذا الموقف قبولا بحضارة كونية تعبُر الثقافات والمجتمعات لكنه قبول لا يرضى بالتنميط وإلغاء الاختلاف. عبارة « إلا رسول الله» ترفض دخول الحداثة القهقرى، دخولَ السخط على الأزمنة الحديثة والتبّرم من الدهر الخؤون. إنها عبارة تعلن الاشتراك في صنع عالم حديث بمقاييس مرجعية مختلفة.
أخيرا
« إلا رسول الله» رفضٌ للعنصريات الثقافية المؤذية لأنها تربط ربطَ تأبيد بين العنف والعدوانية وبين الرسول عليه السلام وأتباعه. مؤدى ذلك أن الإسلام شرٌّ محض وأن جوهر المسلمين لا يمكن أن يقبل أي ارتقاء أو أي تغيير. هي رؤية «جوهرانية» للإسلام ومؤسسه وأتباعه، تحشر الجميع في حضيض التدنّي والهمجية لا يستطيعون منهما براحا.
في ضوء مقولة : « إلا رسول الله» يبرز جانب أساس من أصالة الرسالة المحمدية كما صاغها القرآن الكريم. أصالةٌ يسعى الاستئصاليون لطمسها في حين أن الرسالة المحمدية ما تحققت إلا نتيجة ثقة في الآدمي وقدراته فاتحة بذلك آفاقا غير محدودة للبشرية. تجاهل هذه الحقيقة هو حصر للعنف في جهة واحدة هي جهة المسلمين وحدهم بما يجعل ديانة كبرى مصدرا للشر لا ينضب. يحصل هذا بينما يتميّز الخطاب القرآني برهان دائم على آدمي له من القدرات ما يتيح له وقوعا في أخطاء لكن يقرّ له بالصعود عبر الحرية التي أعطاه إياها الخالق. 
هكذا تندرج عنصرية المركزيات الثقافية المعاصرة في جوهرانية البؤس مدمر، إنها في اعتقادها بتفوّقها الذي لا يُطاول لا ترى في الآخر إلا مجموعة من الثوابت والطبائع المتناقضة الحاجزة عن كل تغيير.
في مواجهة هذا تأتي مقولة « إلا رسول الله» مع مواقف قليلة أخرى لتضيء دروب مستقبل للإنسانية أكثر رحابة وثراء.
  -----
- مفكر إسلامي معاصر
ennaifer.hmida@gmail.com