قبل الوداع

بقلم
لطفي الدهواثي
نحتفل بالنبي لنهتدي
 تجدّد جدل الغارقين في التّفاهة والتّنميط كلّ عام ومعه تتجدّد أسئلة ظلّت تطرح بلا ملل، هل احتفل الرّسول صلّى الله عليه وسلم بيوم ميلاده حتى نحتفل به؟ هل احتفل به الخلفاء الراشدون من بعده وتابعوه؟ وهل يجوز هذا الاحتفال أم لا يجوز؟ وهل يكون الاحتفال بالعصائد والمآكل أم بالذكر والتدبّر؟ 
ينبري للإجابة على هذه الأسئلة كلّ عام شيوخ في الدّين وآخرون وقلّما يهتدون إلى بيان وقلّما يعيرالناس اهتماما لما يقولون، أمّا الاحتفال بالمولد النبوي الشّريف فقد كان وسيظل عند النّاس واجبا وتعبيرا تلقائيّا عن مدى حبّ المسلمين جميعا لنبيّهم العظيم.
لا يخصّ المسلمون صاحب السّيرة العطرة والمكانة الفريدة بالتّبجيل والتقديس دون غيره من الناس ولا يخصّونه بالمحبّة التى لا ترقى إليها محبّة فقط، بل تراهم يعظمون ذكره في نفوسهم ويصلّون عليه كلّما ذكروه أو ذكر عندهم. إنّه حبل المودّة والعرفان والشّكر والتّقديس والتبجيل والوفاء والفداء، وهو ما ظلّ يصل الرّسول الأعظم باللذين اهتدوا بهديه من أوّل أبى بكر إلى آخر مؤمن به لا يختلف فى ذلك اثنان ولن يختلفا فيه إلي يوم الدّين.
ولقد ورد فى الأثر أنّ عليّا بن أبي طالب كان يغسل الجسد الشّريف للنّبي تهيئة لدفنه فكان يضمّ الجسد وهو يقول: «بأبي أنت وأمي ما أطيبك حيّا وميتا». كما ورد في الأثر أنّ سيدنا بلالا لم يبتسم من بعده وأنّ حزن الصّحابة على فقده قد بلغ بهم مبلغا عظيما حتّى كاد يفقد بعضهم صوابه. ولعل هؤلاء الصّحابة محقّين فى حبّهم الشّديد له وفي حرصهم على اتّباع سيرته والتزاحم على إرضائه والعمل على افتدائه بأرواحهم وكل ما يملكون، فقد كانوا له من المعاشرين وبسيرته من العارفين ولخلقه الكريم من المجربين ولم يكن عندهم أدنى شكّ في نبوّته ولا فى كونه قد جاء ليتمّم مكارم الأخلاق. وهم قبل ذلك وبعده أعلم بما كانوا عليه قبل بعثته من هوان وحيوانية وجور وما صاروا عليه بعد اتّباعه من عزّة وأنفة وعلو في دنياهم بعد أن اشترى الله منهم أنفسهم وأموالهم ووعدهم جنّات عرضها السماوات والأرض. 
وما محمّد إلاّ رسول وما هو إلاّ بشر، وهو محمد الأمين قبل البعثة وهو محمد الأمين على الوحي والرسالة، لم يجد الأوّلون ولا الآخرون هنة له بل ولم يجدوا في ما قال وما فعل إلاّ ما يزيده فى أنفسهم علوّا ومحبة، ومكانة لم يصل إليها قبله بشر حتّى صلى الله عليه وملائكته وأمر المؤمنين أن يصلّوا عليه ويسلموا تسليما. وما محمد إلاّ نبي لمن شاء أن يؤمن، وصاحب رسالة لمن أراد أن يلقي السّمع وهو شهيد، ولا يزال المسلمون في هوانهم الذي هم عليه حتّى يدركوا أن شأن الأوّلين لم يعلُ بمحمد البشر وإنّما علا بالنّبوة التى اصطفاها الله للبشر جميعا وللعرب خصوصا ليكون القرآن كتابا عربيّا مبينا.
نحتفل بمحمد في أنفسنا ونحن نشكر له ما أدّاه لنا من الأمانة وما بلّغه لنا من بيان مدركين أنّ الصّحابة لم يدعوا حبّه وإنّما أحبّوه صدقا حتّى كان أحبّ إليهم من أنفسهم وأهليهم، وهم لم يحبّوه مكتفين بحبه وإنّما كانوا عونا له في أداء الأمانة وتبليغ الرّسالة ونشر قيم العدل والحرّية والانعتاق وتأليف النّاس تحت راية التّوحيد والخلق العظيم. ولا غرو أنّنا نحتفل بالذي هدانا وأخرجنا من الظّلمات إلى النور وفي أنفسنا ألم من حال المسلمين اللّذين تداعت عليهم الأمم كما تداعى الأكلة إلى قصعتها ليصير القتل فيهم والهوان فيهم والذل والفقر فيهم، ولم يعودوا كما أراد لهم نبيّهم أعزّة على الأعداء رحماء بينهم .
هل نحتفل وهل يجوز الاحتفال؟ أليس في سيرة النّبي ورحمة النّبي وصدق النّبي وعزّة النّبي ونبل النّبي وخلق النّبي وهدي النّبي ما يوجب الاحتفال؟ هل نرى المجرمين اللّذين يقتلون باسمه والأفّاقين اللذين يكذبون عليه وعلينا ولا نحتفل لعلنا نهدى ونهتدي؟ وهل كان أهل قريش أشدّ حاجة منّا إلى نبيّ يهديهم وهل كانوا أكثر أهليّة منّا ليهدوا ويهتدوا؟ 
جاءهم الحبيب محمّد هاديا مهديّا فاهتدوا به إلى العزّة وما زال النّبي فينا وقد خلوا،  وما أرانا نحتفل به ونحيي ذكراه إلاّ لأنّنا اليوم أشدّ حاجة له ممّن سبقونا، فنحن نحتفل بمولد الذي جاء هاديا للنّاس كافّة  لعلّنا نهتدي إلى ماعمت عليه الأبصار والقلوب ونأخذ قبسا من نور النّبي الأمّي الذي جاء رحمة للعالمين برسالة ملؤها الحبّ والخير وبئس من يدّعي في الأمر ما لا يحتمل.
صلى عليك الله ياسيدي يا رسول الله...