قبل الوداع

بقلم
لطفي الدهواثي
الدستور والشتاء
 بدأ الشتاء... 
والشتاء عند الكثيرين محبوب وقد ورد في الحديث الشّريف أنّ الشّتاء جنّة المؤمن نهاره قصير فيصومه وليله طويل فيقومه. 
والشتاء ينعش البدن نهارا ويدفئ الفراش ليلا ويذهب فيه النّاس مذاهب شتّى فى الأكل واللّباس والاجتماع، فهم يعودون الى بيوتهم سراعا ليعدّوا طعاما دافئا وما تيسّر لهم من لوازم السّهر والسّمر.
(1)
ليس الشّتاء واحدا عند الجميع فهو عند الفقراء غيره عند الأغنياء وكلّما حلّ فصل منه كان أدعى للمعاناة وتوجّس منه ذووا الحاجة خيفة. ولا يزال الكثير من النّاس يمقتون هذا الفصل ولا يرحّبون بمقدمه لأنّه يزيدهم شدّة على شدّتهم ويحملهم ما لا يطيقون. 
وما حل هذا الفصل إلاّ وبدأ معه الحديث القديم الجديد عن موجات البرد والزمهرير والثلوج التّي ستحلّ ببعض المناطق وما سيصاحبها من انقطاع للطّرق وشحّ أو انعدام لوسائل التّدفئة وعسر في تدبير المؤونة وغير ذلك ممّا يجلبه هذا الفصل معه من قسوة على النّاس اللّذين لم يجدوا حظّا من أسباب العيش الكريم وسعة الرّزق فهم في غمّ من ساعة حلوله حتّى مغادرته على أمل أن لا يعود إلاّ ومعه ما يعينهم عليه.
(2)
تذكّرنا حديث الشّتاء وقد حلّ وسط احتكار الفضاءات كلّها العام منها والافتراضي للحديث عن «داعش» و «الإرهاب» ، ولا شكّ أن خطر الإرهاب على البلاد والعباد سوف يظلّ الأكثر تهديدا فى المدى القريب على الأقل ولكن بعض الإرهاب فيما يذهب علماء الاجتماع وغيرهم منشأه المعاناة التي يكابدها اللذين لم تعطهم الدّولة ولا المجتمع ما هو حقّهم الطبيعي في التّنمية والمساواة.
كشفت الثّورة الكثير من عيوب هذا الوطن وكانت فرصة حقيقيّة ليعرف المجتمع مقدار ما أحدثته دولة الاستقلال من حيف فى توزيع التّنمية بين المناطق، حين مكّنت مناطق دون غيرها من النهوض والمساهمة فى دورة الاقتصاد وحرمت أخرى من فرصة حقيقيّة في التّنمية والاستثمار حتّى غدت مناطق يفرّ منها سكّانها ويهاجرون إلى مناطق السّاحل مع ما فى ذلك من مشاكل على المستويين الاقتصادي والاجتماعي لمناطق الهجرة أو مناطق الاستقرار على حدّ السّواء.
ولقد أعطت الثّورة فرصة حقيقيّة لإحداث مراجعات جوهريّة لخياراتنا جميعا، فهل تمكّنا من هذه الفرصة أم أنّنا بصدد إضاعتها على نحو ما ضيعنا غيرها من الفرص؟
(3)
ورد في الدّستور الحديث للجمهورية التّونسية ما يدعو صراحة إلى اعتماد «التّمييز الايجابي» تجاه المناطق التي حرمت في العهود السّابقة من أيّ تنمية حقيقية. وقد دأبت كلّ القوى الحيّة فى البلاد وكل نخبها باختلاف مرجعياتهم على التّأكيد على ضرورة العناية بالمناطق المحرومة عناية خاصّة حتى تتمكّن من النّهوض واللّحاق بغيرها من المناطق المزدهرة. ولقد كان هذا الحديث يقترن في الغالب بحديث عن حقوق الانسان بالكلّية وبالتفصيل، ومع التّفصيل يكثر الحديث عن الحقّ فى الكرامة والعمل والسّكن اللاّئق والسفر والتّعليم والثقافة والتنمية وغيرها من الحقوق التى لم تعرفها فئة كانت وما زالت تعيش على هامش المجتمع لم تعرها الدّولة ما كان من حقّها من اهتمام.
لم يقتصر الأمر على الدّستور والنّخب والأحزاب بل امتدّ ليشمل جميع النّاس تقريبا إذ أنّك لا تجد تونسيين ربّما يختلفان على ضرورة تمتيع الجميع بالحقّ فى التّنمية والثّروة والكرامة. ولعل هذا الإجماع الحاصل فى مجتمع ما بعد الثّورة هو الذى جعل التونسيين من عامة الناس يتداعون الى نجدة المناطق المنكوبة شتاء بالفيضانات أو بالثلوج على نحو لم يسبق له مثيل.   
(4)
شتاء يمضي وآخر يعود ...
حديث الشّتاء فى العام الماضي وما سبقه من أعوام كان حديثا ملؤه الشّفقة على هؤلاء اللذين إذا حلّ الشّتاء كان بلاء عليهم، ومع الشّفقة حديث آخر عن ضرورة إحداث التوازن بين جميع المناطق وعن حقّ الجميع فى التخلّص نهائيّا من الحرمان وشضف العيش. ولاشكّ عندي في كون التّونسيين سيتداعون معظمهم أو بعضهم إلى نجد المناطق التى سيكون شتاؤها قاسيا عليها، ولا شك أيضا في عودة الحديث ذاته عن الحقوق يملأ الآذان والفضاءات .
صور المعاناة ذاتها سوف تعود للظهور والحلول ذاتها ستجري على ألسنة الفقهاء والسّاسة والخبراء، فهل سنقول غير آبهين إلى شتاء آخر أم سنحمل الأمر هذه المرّة على محمل الجدّ متسلّحين بما ورد فى دستور البلاد؟