الإنسان والكون

بقلم
نبيل غربال
كون أو أكوان
 الكون المرئي
تمثل المسافة المقدرة بقرابة 42 مليار سنة ضوئية أفق الرؤية الكوزمولوجية أي المسافة التي لا يمكن رؤية أي شيء وراءها أيا كان الموقع الذي نحن فيه. إنّها المسافة التي قطعها الضّوء منذ الانفجار العظيم أي وبمعنى آخر إنها مقدار تمدّد حجم الكون منذ الانفجار في أيّ اتجاه نرصده.  لقد سبق وأن تناولنا الضّوء باعتباره الأداة الوحيدة القادرة على مدّنا بالمعلومات اللاّزمة عن ماضي الكون (انظر المقالات 8 و9 و10) وبناء على ذلك فإنّ كلّ ما يمكن أن يصلنا لا يستطيع أن يأتينا بسرعة أكبر من سرعة الضّوء ويتطلب طبعا مدّة زمنية محدّدة. والمدّة الأقصى التي تفصلنا عن بداية الكون هي التي سمحت للضّوء بأن يقطع 42 مليار سنة ضوئية. أمّا الضّوء الذي تبثه مصادر أبعد، فلم يتوفّر له الوقت الكافي للوصول إلينا. من ذلك نستنتج أنّ الكون المعروف أي المرئي هو ليس سوى منطقة محدودة من الكون تشمل المسافة التي قطعها الضّوء منذ حدوث الانفجار الأعظم وله نصف قطر يقدر بـ 42 مليار سنة ضوئيّة . فهل يعني أن الكون يتوقّف عند ذلك الحدّ؟ وهل يمكن أن يكون سوى منطقة صغيرة من «كون» أكبر منه؟ إنّهما سؤالان وأسئلة أخرى من نفس الطّبيعة يكاد يكون طرحها مناقضا لطبيعة السّؤال العلمي في حدّ ذاته إذ كيف يمكننا طرحها ولم تتبين بعد حقيقة كوننا المرئي؟ فالبداية المتمثّلة في نقطة لا أبعاد لها تتحدّى خيال الإنسان، أي إنسان، بل ويعجز العقل الإنساني بكل ما ابتدع من ترسانة مفهومية وقانونية، طبيعية طبعا، ورياضيات على اختراق لغزها. إنّ كل ما نملك من معادلات رياضية تمكّننا من رسم معالم التّاريخ الكوني وفهم تسلسل الأحداث المعلّلة يصطدم بحاجز لا يمكن تجاوزه ورغم ذلك فإنّ الرّغبة الجامحة في تجاوز العجز جعلت العديد من العلماء يفكّرون في فرضيّات وجود «أكوانا» أخرى. 
الأكوان المتوازية
رأينا في المقال السابق أنّ النسبية العامّة ليست عامة بالشكل الذي يمكّنها من وصف الكون منذ النّقطة التي انبثق منها. فالكون في بواكيره ليس مجالها بل مجال نظريّة ميكانيكا الكم. وحتى ميكانيكا الكمّ غير قادرة على وصف الكون إلّا بعدما أصبح حجمه وأصبحت حرارته أصغر من مقدارين محدّدين هما بعد بلانك وطاقة بلانك (أنظر المقال 14). لقد كان الكون صغيرا جدّا لدرجة أنّ حجمه كان أصغر بكثير من حجم الذّرة. وفي تلك الأبعاد الغاية في الصّغر تدعي ميكانيكا الكم (انظر المقال 14) أن لها القول الفصل. ورغم أنّه القول الفصل فإنّه أيضا قول غاية في الضّبابية ويشمل فترة زمنية هي بدورها متأخّرة عن «لحظة» الخلق. فماذا تقول قوانينها؟ 
تقول تلك القوانين أنّ كل قيم المقادير الفيزيائية آنذاك مثل كتلة الإلكترون والبروتون وثابت الجاذبية الثقالية وكثافة المادّة (الطّاقة) وغيرها كانت متقلبة وغير محدّدة وأنّ تلك الفترة كانت فترة الشواش أي أنّ تلك المقادير يمكن أن تأخذ قيما اعتباطية حينها ممّا يعني أن الطبيعة الحقيقية للعالم توجد خارج قدرتنا على إدراكها فضلا عن رؤيتها مباشرة. فما علاقة ذلك العالم المتقلّب بالأكوان المتوازية؟ إنّ القول بأنّ عدد قيم المقادير الفيزيائيّة كثير ويمكن أن يكون لانهائيا  وافتراض تحقّق جميع قيمها الممكنة يعني ظهور مجموعة كبيرة بما فيه الكفاية من الأكوان لكي يكون من بينها ما تتوفر فيه شروط انبثاق الحياة وظهورالإنسان. كما أنّ لكل كون قوانينه المختلفة عن الأخر ممّا يجعل إمكانية التّواصل بينها مستحيلة. إنّ اعتماد فرضية الأكوان المتعدّدة يقدّم تفسيرا سليما إحصائيا وبالتاّلي نظريّا ممكنا لتلك القيم الافتراضية التي تتميز بها العديد من المقادير الفيزيائيّة.  تستمد إذن نظريّة العوالم المتعدّدة شرعيتها من تصوّر للعالم الطبيعي في المقياس ما دون الذّري توفره لها ميكانيكا الكم. إلاّ أنّ الحدّ الفاصل بين مجال الفيزياء ومجال ما وراء الطبيعة يتمثّل فيما إذا كانت النظريّة المتعلقة بتلك الظاهرة قابلة للاختبار تجريبيّا أم لا وفيما إذا كانت قادرة أيضا على القيام بتنبؤات يمكن التأكّد من صحّتها. و يبدو أن هذين المعيارين الأساسيين للعلم التّجريبي يتحققان في النّظريات التي تتنبأ بوجود أكوان متعدّدة. 
الثوابت الفيزيائية
قلنا إنّ ميكانيكا الكمّ لا تسمح بأن تكون قيم المقادير الفيزيائية محدّدة في الظروف الأولية للكون التي كانت تتميّز بطاقة وكثافة عالية جدّا. لكن وفي نفس الوقت ما كان يمكن لكوننا ليتطور ويصل إلى ما هو عليه الآن لو لم يكن في حالة توسّع بمعدل معين. وهذا المعدل بدوره مرتبط بما تمخّض عن الانفجار من ذبذبات في كثافة المادّة كان من بينها المقدار المطلوب لكي يتّخذ الكون بنيته التي نعرفها. فلو كانت الذبذبات في كثافة المادّة أقلّ نسبيّا لكان كوننا عقيما بلا معالم. إنّ وجودنا هنا لكي نتساءل عن السماء وما فيها «مدين» إلى قيم عدديّة دقيقة جدّا لبعض المقادير الفيزيائية حدّدت بضبط يحبس الأنفاس من اللّحظات الأولى للكون. تسمّى تلك القيم «الثّوابت الفيزيائية». توجد تلك القيم في القوانين الفيزيائيّة التي تتحكّم في بنية الكون وتطوّره. ومن أشهر تلك القوانين قانون الجاذبيّة الثقاليّة الذي اكتشفه نيوتن وقانون الارتياب لهايزنبرغ. تطرح تلك القوانين مشكلة فلسفيّة حقيقية وعويصة إذ كيف يمكن أن نفهم أنّ الطبيعة تخضع لقوانين ومن أين جاءت تلك القوانين أصلا؟. وللإجابة عن السّؤال الثّاني يجيب المؤمنون بأنّ الخالق هو الذي أبدعها أمّا الملحدون فيقولون انّه لو لم يكن هناك قوانين فإنّ الكون كما نعرفه لم يكن ليوجد أي أنّه لم نكن هنا لنتساءل عنه. وبقطع النّظر عن تلك الإجابات فإنّ المؤكّد أنّ تطور العلوم مؤسّس على مسلّمة وجود قوانين بسيطة وراء ما يبدو من تعقّد الظواهر وكثرتها في الطبيعة وأنّ تلك القوانين لا تتغيّر في الزمان والمكان أي أنّها تتّصف بالثّبوت.  وهنا نجد أنسفنا أمام معضلة أخرى. فالكون يتطوّر ويتغير ولكنّ القوانين التي تتحكّم فيه لا تتطور. فهل تلك القوانين لا تتغيّر إطلاقا أم إنّها تتغير بصورة تدريجيّة لا ندركها؟ فإن كانت لا تتغّير إطلاقا فكيف تحدّدت مع الانفجار العظيم؟ أما إن كانت متغيّرة فإنّ إمكانية معرفة ما كان عليه الكون في البداية تصبح مستحيلة لأنّ كل معارفنا الآن مبنيّة على مسلّمة أن القوانين ثابتة.
أهم الثوابت الفيزيائية 
(1) كثافة المادّة في بداية الكون
تقول نظرية «الانفجار العظيم» وهي السائدة الآن حول نشأة الكون أنّ الكون كان في حالة حارّة جدّا وشديدة الكثافة ومضغوطا في «حيّز» أصغر بكثير من حجم الذّرة الواحدة. انفجرت تلك الحالة معلنة انبثاق الكون وكان الانفجار مصحوبا بضخّ كميّة فائقة من الطّاقة. بدأ الكون منذ ذلك الزّمن السحيق بالتّمدد إلى أن وصل إلى ما هو عليه الآن. تسلّط المادة على مجموع مكونات الكون قوة ثقاله جاذبة تحدّ من توسعه. فلو كانت  الكثافة الأصلية  للمادّة كبيرة لتوقّف توسع الكون وتقلص حجمه وانهار على نفسه واختفى بسرعة (مليون سنة أو قرن أو ساعة) لا تستطيع معها الحياة بالظهور. أما لو كانت تلك الكثافة صغيرة فلن يصبح بمقدور قوى الجذب ألثقالي تجميع الهيدروجين وتكوين النجوم ممّا يعني استحالة بروز الحياة. إنّ الكثافة ضبطت بدقة تحبس الأنفاس وفي بيئة انفجارية عنيفة جدّا. دقة ضرورية لتتوفّر الظروف الملائمة (الزمن) لنشأة الإنسان.
(2) الشحنة الكهربائية للبروتون و الإلكترون
لو كانت شحنتي البروتون والإلكترون المكونان للأنوية الذريّة مختلفة ولو بجزء من مائة ألف مليون جزء فلن تكون حينئذ الذرّات محايدة الشّحنة ممّا يؤدي إلى تنافرها بفعل القوة الكهرمغنطيسية واستحالة ظهور الجزيئات وبالتالي الأجسام المادية. 
(3) نسبة القــــــــــــــــــوة الكهرمغنطيسية لقوة الجذب ألثقالي.
لإدراك الضّبط الدّقيق لمقدار القوة الكهرمغنطيسية  وقوة الجذب ألثقالي نتخيل كونا جاذبيته الثقالية أكبر من ثقاله كوننا بـ 10 أضعاف ممّا يعني أنّها أضعف من القوّة الكهرمغنطيسية بـ 1035 مرّة و ليس 1036 مرّة. في مثل هذا الكون ستكون النّجوم صغيرة جدّا ولن يتعدّى قطرها الـ 2 كم عوضا عن المليون وأربعة مائة ألف كم للشّمس ولن تعمر أكثر من سنة عوضا عن الـ 10 مليار سنة للشمس. في هذا الكون تصبح الأجسام صغيرة والأحداث متسارعة. فالكواكب تصبح قريبة جدّا من الشّمس و تدور حول نفسها في ثانية. إنّ اختلافا بسيطا في نسبة القوّتين كاف ليتغيّر الكون جذريّا ممّا يعني استحالة ظهور الحياة. إنّ ظهورنا رهن لاختلاف يقدر بجزء من مليار مليار مليار مليار جزء بين مقداري القوتين اللذان هما عليه الآن. 
أخيرا
وقبل أن ننهي المقال من المفيد تقديم وجهة نظر «الملحدين» الذين هم الأكثر إصرارا على إثبات العوالم المتعدّدة باعتبار ذلك بديلا عن الخلق كما يتوهّمون. فهؤلاء المرعوبون من فرضيّة وجود خالق للكون يرون أنّ ضبط مقادير الثوابت الفيزيائية بالدّقة التي أدّت إلى انبثاق كوننا كانت نتيجة لصدفة عمياء. ونقول نحن وبلغة متسائلة أنّنا فهمنا من موقف «الملحدين» أنّه بفضل الصدفة أو ربّما رغما عنها وجدنا وبفضلها وربما رغما عنها أيضا أصبحنا كائنات واعية نفرح ونحزن، نسعد ونشقى، نتعدى ونظلم بعضنا البعض ولا حسيب ولا رقيب إلاّ من طالته يد العدالة القصيرة جدّا والتي لا تطال إحصائيّا إلا الضّعفاء ممّا يعني أنّ الصدفة كانت فعلا عمياء بل جديرة حقّا بالكفر بها وبما أنتجت من لا معنى. ولا ننسى أن نذكّر أبناء نوعنا من الملحدين أنّهم هم من خلق الصدفة فهي، أي الصدفة، فكرة في دماغهم وجدت بوجودهم ولم تكن البتة موجودة في أدمغة القردة العليا التي وجدت قبلهم.
------
- أستاذ بالجامعة التونسية
ghorbel_nabil@yahoo.fr