قول الحق

بقلم
رفيق الشاهد
مناخات وطقوس
 لا يتمنى المرء لهذه البلاد إلا الخير. وإن اختلف الناس في معنى الخير وظواهره وكيفية تحقيقه –وإن كان أحيانا عبر الجوائح والمحن- فهم لا يختلفون حول معاني الشر الذي قد يلحقهم من وراء المصائب والنكبات.
للناس حدس يستشعر قرب حدوث الفاجعة ومدى الضيم الذي قد ينزل بهم والعناء الذي سيتكبدون. ولمّا يصيب الأمّة مكروه يقدّم العلاج بتضميد الجراح وتسكين الأوجاع رحمة بالضّحايا ثم بعد ذلك يستوجب وقائيّا تحديد الأسباب وأخذ التّدابير اللاّزمة لتفادي عودة الوجع. وبقدر ما تهمّ معرفة من كان السّبب تهمّ معرفة السّبب ذاته وليتكفّل التّاريخ وكتبته ببيان وتدقيق مجريات الأحداث وتمحيص الحقيقة وتوثيق زلاّتنا ونجاحاتنا وأنّ يخبر الأجيال القادمة بتفاصيلها فيمجد المصلح وينكل بالمفسد عبرة لمن يعتبر.
نستخلص الدّروس أوّلا من قراءة الواقع. المهمّ مهمّ والأهمّ أهمّ. والسّؤال الذي قد يطرح في ظلّ مفهوميّ الدولة والجمهورية، كيف يمكن قلب مفهوم التّضحية في سبيل الوطن حتى يرتقي المواطن - على النّمط الإسرائيلي - من موقع الضحيّة لموقع المعتدي؟ كيف لا يحقّ لي من أجل وطني أن أرفع دون تردد ولا انكسار شعار «العاجز من لم يستبد» أو بالأحرى «لا عاش من لم يستبد» ؟
وباعتبار الدّولة فوق كل اعتبار والدّولة أوّلا، كيف لا أعدّل مواقفي وبعض أفكاري بعد أن أتيح لي الإطلاع والتعرف على أفكار جديدة وجيهة ومقنعة تصون الدّولة أرضا وشعبا؟ وأبعد من ذلك، ألا يحقّ لي أن أضحي ببعض المبادئ من أجل تثبيت الدّولة والجمهوريّة التي يرنو إليها كلّ حرّ؟ لقد ذهب في هذا الخيار منظرو الاستعمار في إفريقيا وأمريكا ومازالت إلى اليوم أنظمة بنيت وتوسعت على خلاف مبادئها تقدس الهدف الأسمى الذي أصبح لديهم عقيدة تتبعها طقوس. وهذا الاعتقاد الذي تحول سلوكا وطقسا أغرت نتائجه كل طامع وطامح في سلطة، فسارع إليه كل متطرّف فقدّموا أخلاقهم ومعتقداتهم قرابين وسجّلوا انتصارات وتوسّعا يرعب ويرهب. 
وبالرجوع إلى الحسّ الجماعي بالوطنيّة فقد أصبح يتطلّب ترسيخا عميقا بإعادة النّظر في مناهل التربية النفسيّة والمدنيّة والاجتماعيّة وكذلك مفهوم التّضحية الذي طغى عليه مدلوله الدّيني وأصبح عقائديّا بحتا في حين رأيناه سياسيّا ورقة عبور للارتقاء والتّقدم وامتلاك القوّة ومتطلبات  السّلطة حتّى التّسلط. لقد فهم الإسلاميون المتطرّفون أنّه لا يمكن بلوغ السّلطة بدون دفع الثّمن غاليا وهو التّخلي عن عقد العقيدة. 
إن استكثرت عليّ خيرك، فارفع عني شرّك
أصبح اليوم ضروريّا إعادة النظر في مفهوم التّضحية من أجل الوطن. ولا أدعو إلى التّضحية بعقائدنا ولا بالمبادئ والقيم على غرار ما تمّ بإسرائيل وبأوروبا اعتمادا على النّظرية الماكييفيلية التي مازالت صالحة وفاعلة رغم الانتقادات اللاّذعة - وقد لا يلام أصحاب القرار السّياسي اعتمادها دون التّشهير إن كان في الصالح العام -، بل أريد بيان مفهوم التّضحية البنّاءة والملائمة للشّخصية الإفريقيّة العربيّة الإسلاميّة والتي شرّفت هذه الأمّة كلّما ذكرت على صفحات التّاريخ الحديث والقديم حاضرا ومستقبلا. وعلى خلاف ذلك رمى الأمريكان بتاريخهم وادّعوا أنهم سيصنعون ويكتبون تاريخا يشرفهم وقد صدقوا قولا وفعلا.
لقد ارتبط مفهوم التّضحية عندنا بمدى الصبر على الأذى والاعتداءات ورفع شعارات أهمها «نموت نموت ويحيا الوطن» وهو لعمري أضعف الإيمان لعاجز لا حول له ولا قوة. وعلى قدر ما يتباهى العرب بعدد شهداء الأمّة يتباهى الإسرائيليّون أكثر بقتلهم هؤلاء الفلسطينيين واستعدادهم لمزيد القتل تضحية في سبيل الوطن. وهذا يفهم من الجانبين، لكل مناخ طقوسه، ولا ينقص من عزم الأمّة العربية في مقاومة الاستعمار واحتلال الأراضي ولا ضاع حقّ وراءه طالب.  
أما اليوم، صدق من قال «الرفاهة تبلّد العقل» فاقتصر مفهوم التضحية لدينا بالبلاد العربية في القيام بشكل أو بآخر بأي عمل وإن كان في إطار عقد شغل. وأصبح الخلط واضحا بين ما هو واجب يتعرّض المخلّ به إلى العقوبة وما يعتبر تطوّعا. ولم يبق للتّضحية من معنى إلاّ داخل المؤسّسة العسكريّة التي تُعِدّ هياكلها وجنودها وتعوّدهم على طقوس تقديس وتقبيل العلم المفدّى وترديد عبارات الولاء للوطن والشهادة من أجله تضحية بهدف دحر عدوّ واقعي أو افتراضي ومحتمل وجب تحديده والكشف عنه.
إنّ السّلطة وحدها تملك حقّ استعمال العنف على الضّالين من أولادها المواطنين طالما يهدّدون أمن البلاد. والمفارقة أنّها تسلّط عنفا أكبر على أولادها البررة أولائك الجنود في الخدمة على الميدان وجنود الاحتياط على أهبة الاستعداد لمواجهة العدو دون تردّد. وكلّما اقتضت الحاجة إلى الدّفاع عن الوطن وحرمته وتأمين أرواح مواطنيها ونشر الطمأنينة، يمكنها أن تسلط عنفا أشدّ بدفعها لهؤلاء الجنود على خطّ النار لمواجهة أعداء غزاة من الخارج فما بالك بدفعهم لمواجهة إخوة ظلِّلوا فاختاروا العِداء من الداخل. 
أن أضحّي بعزيز بدفعه للموت بالجبهة أو بقبول وضع المعتدي دون الضّحية أو أن أقتل في سبيل الوطن. أي معنى للتّضحية أختار؟. 
كلنا جندي في موقعه. وأطفالنا شباب ورجال المستقبل، هل قبّل أحدهم العلم تقديسا ورفع صوته عاليا «لا عاش من لم يستبد»؟.