الكلمة لأهل الإختصاص

بقلم
د.محرز الدريسي
النخبة في تونس: المتاهة و قلق الإصلاح (1) المنسوب المكثف لمفهوم النخبة

 النخبة في تونس: المتاهة و قلق الإصلاح

(1) المنسوب المكثف لمفهوم النخبة

 

 

 

 

 

 

هناك ثلاثة مداخل في مباشرة النخبة في تونس:

(1) تتبع الأصول الاجتماعية للنخبة وانتماءاتها المجتمعية ،وقد يؤدي ذلك  إلى تشريح اجتماعي عام  مع تصنيفات فئوية، إلا أن ذلك قد يحجب عنا الهجرات الاجتماعية في اتجاهاتها المختلفة.

(2) التناول التأريخي المحض لخطابات النخبة ومنزلتها وأدوارها، وهذا يتطلب الاشتغال على تفاصيل المكونات النظرية و المفهومية والمنهجية، وقد يفضي ذلك إلى الانغماس في مقارنات غير خصبة الآن وهنا.

(3) تطبيق مفهوم المثقف العضوي الغرامشي، مما يثير مشروعيته الابستيمولوجية وفاعليته المفهومية والمنهجية، وقد يترتب عن ذلك استنتاجات متشائمة دون  نجاعة معرفية.

ننطلق في ورقتنا هذه، مستفيدين من كل المداخل دون الانزياح لمدخل دون آخر، لأننا نعتبر أن الظاهرة المعقدة  complexe) ) تتطلب منهجية معقدة، وأن ظاهرة النخبة كظاهرة متشابكة تستوجب منهجية تعقدية وتركيبية، تدمج مختلف المداخل في شكل يحلل المفهوم- الظاهرة واستخداماته المتكاثرة، ونحن نعلم أن النظر في النخبة يستدعي أسئلة حارقة أكثر من الإجابات المطمئنة. لهذا حين سئل المرحوم محمود درويش أن يحدد ماهية "المثقف العربي" أجاب" من السهل أن أحدد جنس الملائكة من أن أعرف المثقف العربي"(صحيفة القدس العربي).

ذلك أن النخبة مفهوم ملتبس وتحفه العديد من الدلالات والظلال، تخص التصنيفات القطاعية أو الجغرافية أو المجالية، التي ليست ذات أهمية في تناولنا، إنها مندمجة في صنف النخبة المثقفة. إضافة أنها مفهوم استشكالي من جهة دلالته الاشتقاقية النافية للجماهير ومن جهة تصنيفاته اللامحدودة وتنوع أدواره، ومن جهة مضامينه وايحاءته، و تتحرك النخبة كمفهوم وكمجموعة ضمن المواجهة  والتصدي للتحديات، بإنتاجها الرموز الثقافية وإضفاء المعنى،وهكذا تتزحزح النخبة بمبرر فضفاض نحو مجموعة محددة، وتتقلص في نخبة مثقفة كمؤسسة للنخب بكل أصنافها. من الممكن استخدام النخبة في تفسير التغيرات والتحولات، كما يمكن تحويله إلى مفهوم إسفنجي نقوله دون أن يقول شيئا، وبالتالي يصبح مجرد عائق ابستيمولوجي أمام الفهم والتحليل. و نظرا لكثافة استعمالاته وتكاثر تصنيفاته ينزلق ببساطة نحو مفهوم مقنع(بفتح النون) لا مقنع(بكسر النون) بمعنى مفهوما مؤد لجا ويتلبس بالإيديولوجي باستمرار. ومع ذلك تبقى النخبة كمفهوم يختزن إمكانات منهجية لفتح مساحات نظر جديدة وآفاق واعدة في تحليل الظواهر الفكرية والتحولات السوسيولوجية شرط تحريره من الاحتكار الإيديولوجي أو رمزية التحقيب التأريخي أو الإحالات المجتمعية المختزلة. وهذا يخفف عنا العبء الابستيمولوجي والشحنة التحديدية الدقيقة  وحمولاته السياقية، لا تفصيا من التعريف، بل الانطلاق من النخبة كفرضية تفسيرية،مع إدراكنا جيدا أن مفهوم النخبة مفتت ولا يعكس في مضامينه معنى بلوريا ولا يعبر عن حوامل شفافة،إذ منسوب دلالاته مكثف، و يزخر بمعاني متحركة ودلالات مرنة تستوعب الإثراء والتعديلات والنقد، و يمكن التعاطي معها كمفهوم- مفتاحي في تحليل الأفكار وتطورها أو في الحد الأدنى كفرضية نظرية خصبة.

و يستمر المفهوم في استفزازنا كحمال أوجه للتساؤل، هل يمكن وصف النخبة بأنها مفهوم إيديولوجي في عصر انهيار الإيديولوجيات؟ فهل هو مفهوم فاعل أم أحيل على "التقاعد" واللاجدوى التحليلية والمنهجية؟ وهل اللجوء إلى مفهوم النخبة واستخداماته وتوظيفه مؤشرا على انحصار الجماهير وتقلص دورها؟ وهل يفهم أنه تكرار لاواعيا لمفهومي العامة والخاصة وأهل الحل والعقد؟ وهل فاعلية النخب تخفي فاعلية الجماهير وتطمسها ؟ أم أن فاعلية النخب تصنع فاعلية الجماهير وتعزز تراكم فاعليتها وتبعثها من تحت الرماد؟

و هي تحيل بصفة عامة إلى فئات ذات حظوة متميزة داخل حقل اجتماعي معين، و يمكننا أن نحدد النخبة ببساطة أولية أنها تلك التي تنتج الأفكار أو تلك التي تنتج وتروج وتنشر الرموز والأفكار والقيم الاجتماعية، وأن رأسمالها الرمزي "منتوجها الثقافي"، و لها صفات تميزها، فهي نخبة تتخذ من الثقافة مجالا لعملها وتمارس دورا مؤثرا في المجتمع، ويمتلك عناصرها القدرة على التقييم والتطلع والحلم، و يشكلون فيما بينهم وحدة معنوية.

إلا أننا نرى أن هناك إحراجات واقعية وإكراهات تاريخية تدفعنا لإعادة تعريف النخبة كمفهوم وكمجموعة، والتساؤل حول دورها الطليعي ووظيفتها التربوية، وأن النخب هي التي تحرك التاريخ مثل المدرسة الإيطالية (غرامشي) والمدرسة الألمانية (مانهايم)، كما تلقت النخبة انتقادات شديدة في ادعاءاتها حول دورها الطليعي ووظيفتها التنويرية والوصائية بما أنها تتحدث "نيابة" عن الجماهير الواسعة. ومع النقد المكثف للنخبة كمفهوم إجرائي دقيق، فإننا نستثمر المفهوم في تعبيراته العامة عن "المثقفين" أو الذين لهم دور تثقيفي عبر إنتاجاتهم، مع اقتناعنا بأن النخبة تتسع لتستوعب قطاعات جديدة وفئات أشمل، وأنها يمكن أن تكون مسمى لمسميات جديدة ومفردة معبرة عن حمولات اجتماعية وثقافية مستحدثة.

لهذا نختلف مع هشام شرابي(1)  الذي يميز بين المثقف والمتعلم، فالمتعلم من أحسن القراءة والكتابة، بينما المثقف يختص بصفتين الوعي الاجتماعي والدور الاجتماعي، في حين أن النخبة اخترقت حدود "نخبويتها" الكلاسيكية وتجاوزت "فئويتها". فهل مفهوم النخبة مازال مفهوما فاعلا وناجعا أمام اتساع أعداد المتعلمين والمثقفين؟ و هل تتشكل النخبة حين يتشكل فضاء متسعا من المثقفين والمتعلمين و يضمر دورها وتختزل فاعليتها وتنتفي نجاعتها؟ و هل العلاقة تكاملا أم تضادا؟

إن ما هو بنيوي في تعريفها أنه يمتنع الفصل ابستيمولوجيا بين النخبة والفعل، فالنخبة تفعل في الواقع وفي الماضي وفي المستقبل وفي الحيز الزمني وفي الحيز المكاني، ولذا يصعب تحييد النظر في النخبة بعيدا عن فخاخ السياسة، و تفحصها خارج المنبت السياسي،فالنخبة تصنع ورشاتها لإنتاج الفكرة وتوليد اتجاهات التفكير ومحدداته ومنافذه. فكيف مارست النخبة نخبويتها؟ ممن اقتربت وممن ابتعدت؟ و هل بقيت أفكار النخبة وثقافتها في "تيه" تدور في المتاهة دون أن تخرج منها لبلورة مشروع إصلاحي؟ و هل شكلت النخبة محضنة الجدل والاقتراح والتطلع وتخصيبه؟ و هل نجحت في إنتاج مساحات للفكر وفضاءات للتنمية السياسية: فكرا وقيما ورموزا؟ أم أن النخبة انزلقت في دعم الدولة أو إيديولوجيا الدولة؟ وهل التهمها الفعل السياسي ؟            

 

--------

(1) - هشام، شرابي.مقدمات لدراسة المجتمع العربي، الأهلية للنشر والتوزيع، بيروت، 1985.