قول الحق

بقلم
رفيق الشاهد
الخدمة العسكرية
 لحوظا في المشهد الإعلامي الذي بدأ يميل نحو الاستقرار بعد المدّ التسونامي النّاتج عن زلزال الثّورة والذي اجتاح السّاحة وأغرقها فاختلط الحابل بالنّابل وغابت الحقيقة تحت الأنقاض التي خلفتها أمواج الباطل. فقد تراجع المدّ ولكن منسوب المادّة بقي عاليا ومجال الحركة واسعا ومدى التحرّك بعيدا وشاسعا بقدر ما قد ينبئ البعض وقد يحقّون، أنّ لهذه الثورة التي قادها ذات يوم شباب هذه الأمّة صباحٌ بدأت أشعته تنتشر وتنير لولا بعض الغيوم الدّاكنة أحيانا مازالت تؤخر فجره . 
قرأت ببعض الصّحف اليوميّة ما مفاده أنّ أصنافا من الشّباب التّونسي أدّت الخدمة العسكريّة بالجيش الوطني دون أصناف أخرى. وتؤكّد الأخبار المتداولة أنّ أغلب الذين لبّوا النّداء هم المنقطعون عن الدّراسة. أمّا أصحاب الشّهائد العليا وخاصّة الذين تمّ تشغيلهم عادة ما يتغاضون عن الواجب الوطني بعد الإعفاء الوقتي لمواصلة الدّراسة داخل البلاد وخارجها بموارد وفّرتها الدّولة. كما يذكّر المقال بخسائر الجيش المصري خلال العدوان الثّلاثي متعلّلا بضعف قدراته الفنيّة والتقنيّة رغم العدد الكبير للجنود الوافدين من سواد الشّعب محدودي الإمكانات العلميّة والفكريّة فلم يستطيعوا حماية أسطولهم الجوّي الذي دكّ دكّا في مربضه.  
اليوم يحقّ للجميع الحديث بلغة الثّورة. ولكن الله يمقت أن نقول ما لا نفعل. والسّؤال الذي يطرح على السّاحة المضطربة والمضطرمة، كم من الذين أشعلوا فتيل الفتنة من وراء البحار في بلاد الرّافدين وفي بلاد  الشّام وكذا بلدان على شفا هاوية أدّوا الخدمة العسكريّة ببلدانهم وتلقّوا ما يغذي انتماءهم للوطن وعزّة رايته؟ كنت متسامحا، وأجدني اليوم شاهد عصر أحمّل عبء هذه الأمّة من استنزف ذرعها حتّى أدمى واختبأ وراء ذئب مفترس يوسوس له كيف يفترسها دون عناء لعلّه يلحس من وراءه ما أمكنه من بقايا دماء تجمّدت بعد أن كانت حارّة متدفقة ثائرة في شرايينها.
ألم يشبع هؤلاء بعدُ؟ ما أدسم هذه المائدة بشواء بني جنسي متنوّع بين ما يقطر دما وما احترق حتّى التكلس. مِنْ هؤلاء مَنْ هاله ما لم يتوقع وصُدم برائحة النّتن والعفن فانقطعت عنه الشهيّة وانزوى يائسا عاجزا عن إخماد الحريق الهائل الذي لم يشعله ولكنّه أشار  لمن سال لعابه شرهًا إلى الهشيم حيث ألقِيَ الفتيل وتأججت نار الفرقة وارتفعت شجرتها. وكرماد مازال لهيبه حارا أراه تراجع وتهاوى وتقوض كيانه حزنا وندما. هيهات هيهات. 
إنني منهم، من أولئك الذين لم يشاركوا في الخدمة العسكرية ولم يؤدوها لمواصلة التعليم. وإنّ ندمي ليفوق ما سبق ذكره. أراني نسيت أي ضرع رضعت منذ أن فطمت. كيف لا يشمل قانون العدالة الانتقالية مثل هذا الجرم في حقّ شعبي ووطني؟ اليوم أسأل المحاسبة ولن أتسامح حتى يحسم القضاء قوله فيما ذكر. لمؤسسة الجيش الوطني سجلاّت من تمتع بالإعفاء من الخدمة ثم تمنع. 
واليوم ما أحوج بلدي لشعبه. وما أحوج شعبي للعزة ولكرامة خطّها بدمه دستورا جديدا. وما أحوجه لعدالة اجتماعية طالما لطخت لوائح انتخابيّة وصدحت شعارات نسيت في الحين على أرصفة شارع بورقيبة. اليوم ما يمنع أن يوجه الشّاب دون تمييز مباشرة عند بلوغ العشرين سنة ليعزّز صفوف جيشنا العتيد فينهل من نبعه فيض العزّة والكرامة ويتعلّم معنى الزّحف والرّكض والقفز من عل ومعنى التّضحية جوعا وعطشا لقهر عدو محتمل يتربّص بنا من وراء الحدود وعدوّ مستقر بينيا يقاسمنا الخبز والزّيتون. كل المشاريع يمكنها أن تنتظر إتمام الواجب العسكري بما فيها الدّراسة والزّواج. اليوم لا مجال للإعفاء الوقتي ولا الإعفاء الدائم لأي سبب كان. يمكن مساعدة ذوي السند الوحيد مادّيا على أن لا يحرم من الخدمة أحد. 
ما أحوجنا لسواعد وفكر شباب الأمة حتى تتمكن المؤسسة العسكرية من تنويع خدماتها بالداخل والمشاركة في دحض الجهل والفقر.
----
- مهندس
chahed@meteo.tn