شخصيات

بقلم
التحرير الإصلاح
محمد بن عبدالكريم الخطابي
 نظر إلى جموع الثوار الذين اجتمعوا حوله لقتال المستعمر الغاصب وخاطبهم قائلا : «أنا لا أريد أن أكون أميرا ولا حاكما وإنّما أريد أن أكون حرّا في بلد حر، ولا أطيق من سلب حريتي أو كرامتي» وعندما انتصر في المعركة توافد عليه رجال الريف بأعداد غفيرة ليعلنوه سلطانا عليهم فخاطبهم قائلا: «لا أريدها سلطنة ولا إمارة ولا جمهورية ولا محمية، وإنما أريدها عدالة اجتماعية، ونظامًا عادلاً يستمد روحه من تراثنا». ولمّا  سقط أسيرا في يد أعدائه نظر إليهم بتحدّ وقال: «افعلوا بي ما تشاءون، من اليوم، فأنتم ظالمون على كل حال، ولا تنتظروا مني شيئًا، غير هذا... أنا مسؤول عن هذا الشعب الذي يجب أن يبقى حيا .فقد أهزم أنا ولكن الأجيال القادمـة لايجب أن تنهزم لقد إستسلمت ليبقى هذا الشعب حيا وبذلك أعطيه فرصة الإنتصار مستقبلا فأذهب أنا و... يبقى الشعب». ويُذكر أن « تشي غيفارا»، الذي كان رفيق الزعيم الكوبي فيدل كاسترو في كفاحه، حرص عند زيارته القاهرة على لقائه وتحيته كأحد أوّل الملهمين لحركات التّحرر في العالم وقال له : «أيها الأمير … لقد جئت إلى القاهرة خصيصًا لكي أتعلم منك». إنّه الزعيم المغربي «محمد بن عبدالكريم الخطابي» الذي قضّى جزء كبيرا من حياته مناضلا ضدّ الاستعمار الاسباني وأنهى حياته مهاجرا بعيدا عن وطنه وعن الريف الذي عشقه وضحّى من أجله بالغالي والنفيس. 
ولد «الخطابي» في بلدة «أغادير» في منطقة جبال الريف المغربي بين «مليلية» و«تطوان» سنة 1301هـ/ 1883م في وسط عائلي متدين من قبيلة بني ورياغل إحدى قبائل الأمازيغ البربر، تربّى تربية صالحة على يد أبيه منذ نعومة أظافره، حيث قام بتعليمه اللغة العربية وتحفيظه القرآن، ثم أرسله إلى جامعة «القرويين» في مدينة «فاس» ليتعلّم هناك الحديث والفقه الإسلامي. نال قدرا وافرا من التعليم، واطلع على الأدب والعلوم الغربية، وعمل في بداية حياته معلما وصحفيا في صحف ناطقة بالإسبانية، كما عمل مترجما من الإسبانية إلى العربية والعكس، وكان ذلك منفذا جيدا له لتوسيع علاقاته بالإسبان، ووصل به الأمر إلى ترجمة وثائق الجيش والمخابرات، الأمر الذي أعطاه أفضلية تكتيكية في حربه المستقبلية ضد المحتل. وماهي إلا سنوات حتى أصبح قاضي القضاة في مدينة «مليلية» في عام 1332هـ/ 1914م وعمره آنذاك لم يتجاوز الثالثة والثلاثين.
بعد ظهور نزعته الاحتجاجية واعتراضه على عدد من تصرفات السلطات الإسبانية، وكثرة المواقف الجريئة التي لم ترق المستعمر الاسباني، والتي تسببت له في اصطدامات مباشرة مع الكيان المستعمر، تم فصله من العمل وأودع السجن بتهمة التخابر مع الألمان. وبعد إطلاق سراحه عاد إلى مسقط رأسه ليقاتل مع أبيه وسافر عبر قرى الريف من أجل استنهاض السكان وتعبئتهم ضد المحتل، وتزعّم قبيلته بعد وفاة والده مسموما سنة 1338هـ/1920م وحمل راية الجهاد، وهو ابن  التاسعة والثلاثين، وقد حَنَّكَتْهُ التجارِب وصقلته الأيام، ووَحَّد هدفه، فاستكمل ما كان أبوه قد عزم عليه من مواصلة الجهاد، وإخراج الإسبانيين من البلاد.
الخطابي محمد - مولاي موحنّد كما يسميه الأمازيغ- ليس أول من بدأ مقاومة المستعمر، ولكن مقاومته كانت أذكى وأقوى مرحلة في تاريخ طرد المستعمر من المغرب من 1339هـ/1921م إلى 1345هـ/1926م، فلم يكن الخطابي مؤمنا بقضية شعبه فقط بل في غاية الوعي بها و بحدودها، وهذا ما كسى نضاله منطقًا وعقلًا وطريقًا واضحا. لم تكن مقاومته ثأرية فقط، بل كانت حركة بناء تستخدم العنف حين لا يوجد حل آخر، كان لديه تصور واضح لما ينبغي فعله وحدود واقعه وقدرته، والأهم كانت لديه رؤية لحالة ما بعد الصراع (الدولة/الوطن) فكان مثلا يحدث أنصاره دائما عن فكرة التحرير وإقامة دولة وليس فقط المقاومة حتى يرحل العدو. فبعد أن كبّد الاسبان خسارة فادحة وفرض عليهم التراجع أسس في المنطقة المحررة جمهورية سماها «جمهورية الريف» كان لها بنك ووزارات وعملة خاصة، وأجرى تحديثات مدنية هائلة في الرّيف من شقّ الطّرق وربط القرى بشبكة الهواتف، وأصدر عددًا كبيرًا من القوانين والقرارات التي ساهمت في حياكة نسيج متين لمجتمع حديث وليس مجرد مجموعة قبائل قد تتناحر في أي وقت.
شكّلت انتصارات الخطابي في الريف سواء على المستوى العسكري أو المستوى الداخلي في صنع خطاب وطني وبناء هيكلي للدولة، خطرًا على كل الدول المستعمرة للعالم العربي، فتحالفت فرنسا مع اسبانيا بدعم أمريكي وألماني للقضاء على مشروع الخطابي واستعملت في المعارك كل أنواع الأسلحة والغازات السامة إلى أن استسلم الخطابي وتمّ نفيه إلى جزيرة (ريونيون) إحدى جزر المحيط الهندي، حيث قضى فيها إحدى وعشرين سنة. ورغم استسلام الخطابي فإن كتّابا غربيين كثرا أجمعوا في مناسبات عديدة على أن الخطابي خسر عسكريا لكنه بلا شك انتصر أخلاقيا وجسّد خلال رحلته أن قوة الحضارة أسمى وأبقى من حضارة القوة. 
وفي عام (1367هـ/1947م) هرب إلى القاهرة وظل مقيمًا فيها، يتابع نشاط المجاهدين من أبناء المغرب العربي المقيمين في القاهرة، ويمدهم بنصائحه وإرشاداته، حتى لقي ربه في (1 رمضان 1382هـ= 6 فيفري 1963م).