الإنسان والكون

بقلم
نبيل غربال
الإنسان و السماء - ج14 - تاريخ الكون
 استقرّ الاقتناع بأنّ هناك من الأدلّة ما يكفي للقول بتمدد الكون ومروره في الماضي السّحيق بحالة كان فيها حارّا جدّا وكثيفا جدّا وصغيرا جدّا لدرجة أنّ كلّ المفاهيم التي لدينا الآن عن المادّة والطّاقة والزّمن والفضاء تفقد معناها وتعجز لذلك كلّ القوانين التي اكتشفناها عن تصوير ما حدث في تلك الحالة. ولكن فلنكن واضحين ولندقّق في ماذا يعني العلماء بالبداية عندما يتناولون تاريخ الكون؟ إنّهم يتكلّمون عن البداية الفيزيائيّة للكون أي تلك البداية التي باستطاعتهم أن يقدّموا لها تصوّرا تسمح به ترسانة القوانين المكتشفة إلى يوم النّاس هذا. إنّ البداية التي يقصدها علماء الكونيّات هي الحالة التي يكون فيها الكون قابلا للوصف. فما هي النّظريات العلميّة القادرة على السّفر بنا إلى ماضي الكون السّحيق وإعطائنا وصفا لما يمكن أن يكون عليه الكون منذ انبثاقه أي منذ أن اكتسب حالة يمكن إدراكها بخيالنا العلمي؟  
النظرية العلمية
 ترجم الإنسان القوانين الطبيعيّة التي على «هديها» يتحرّك الكون بمعادلات رياضيّة مثل القوانين التي تجعل القمر يسبح في فلك حول الأرض ولا يصطدم بها وغيرها ممّا ذكر في مقالات سابقة وما سيتناول في مقالات لاحقة.  تُكتب تلك المعادلات برموز تمثّل العناصر الثّابتة والمكونة للظّواهر وتعبر عن العلاقات الثابتة بين أسباب وما يترتب عنها من نتيجة.لتلك المعادلات القدرة على وصف الظّواهر في الماضي والحاضر والمستقبل. يمثّل كل نسق مترابط من القوانين العلميّة والمعبّر عن تصوّر مخصوص للواقع نظريّة علمية. فالنّسبية العامة لاينشتين مثلا هي نظريّة في الجاذبيّة الثقاليّة. إنّها بناء متكامل من القوانين عن المادّة والطاقة والفضاء والزمن وعن طريقة التفاعل بينها. إنها نسق من القوانين سمح بالقول بأنّ الكون يتوسّع وأنّه انبثق من نقطة لا حجم لها.  اعتمدت النّسبية على قوانين نيوتن في أصلها ولكنّها وصلت بمبدأ السّببية إلى مداه في علاقة الفضاء بالمادّة حيث لا فضاء بدون مادّة ولا مادة بدون فضاء بل أن المادّة-الطّاقة هي التي تعطي للفضاء معنى.
نظرية ميكانيكا الكمّ
اكتشـــف الإنســــــــان فــي العشرينات من القرن العشرين مكونــــــــات الذّرة أي النــواة والكهارب التي تدور حولها. ولم يكن بمقدور النظرية التي تصف قوة الجذب ألثقالي (الميكانيكا الكلاسيكية لنيوتن والنسبية العامة لاينشتين) ولا النظريــــــــة التي تصف الكهرمغنطيــــس تفسير ذلك. ولوصف الظواهر التي تحدث على المستوى مادون الذّري بنيت نظريّة جديدة سمّيت ميكانيكا الكم. تقول النّظرية أنّ عالم مادون الذّرة عالم احتمالي. فما يحدث داخل الذّرة لا يمكن معرفته بدقّة مثل ما تسمح به الميكانيكا الكلاسيكية من معرفة دقيقة مثلا لحركة الأجسام ومواقعها في العالم الأكبر من الذرة. يتمّيز العالم مادون الذري عن العالم الذي تعودت عليه حواسنا بدرجة من الضبابية لا تمكن مثلا من التنبؤ بسلوك جسيم إلا من خلال القيام بحساب احتمالات عديدة. فلا يمكن القول أن الإلكترون يدور حول النّواة بل الدّقيق هو القول بأنّ للإلكترون احتمالا كبيرا أن يكون في مكان ما بالنّسبة للنّواة. وبفضل معادلات ميكانيكا الكم اكتشف العلماء قوتان جديدتان هما القوة النووية القوية والقوة النووية الضعيفة. فالأولى تجمع بإحكام شديد البروتونات والنيترونات داخل النواة أما الثانية فهي المسؤولة عن التّحولات الطبيعيّة التي بموجبها يصبح النيترون بروتونا وبالعكس وتصحب العمليّة تحرير كمية عالية من الطاقة على شكل إشعاعات مثل ما يدور الآن في قلب الشمس وهي عملية تدين لها الحياة بالوجود. فاجأت ميكانيكا الكم الذين صاغوها إذ تبين أنها قادرة على وصف القوة الكهرمغنطيسية التي تربط الذرات بعضها ببعض والتي بفضلها أمكن للكائنات وكل ما نراه من حولنا أن يتكون. 
كتابة تاريخ الكون
أصبح الإنسان قادرا على القيام بعملية سبر لأغوار الماضي السحيق للكون بفضل ما توفّر لديه من أدوات نظريّة وتقنية ثبتت نجاعتها بالتجّربة. فالمراصد الضخمة أصبحت قادرة على التقاط الضّوء القادم إلينا من أجرام أبعد فأبعد وبالتالي السّفر في الماضي أكثر فأكثر. فالضّوء الذي يأتينا بالمعلومات له سرعة محدّدة وبقدر ما يكون مصدر الضّوء بعيدا بقدر ما تكون المدّة الزّمنية التي يقضيها في السّفر للوصول إلينا أطول. إنّ الضّوء الذي يصلنا بعد عشرة مليارات سنة من مغادرته للجرم السّماوي سيمدّنا حتما بمعلومات عن ذلك الجرم ولكنّها قديمة جدّا. إنّه سيخبرنا عن حالة الجرم ليس الآن قطعا بل قبل عشرة مليار سنة من الآن. أمّا الأدوات النظريّة فتتمثّل في النّسبية العامة التي تصف الكون على المستوى الكبير وميكانيكا الكم التي تصف و بدقة عالية العالم ما دون الذّري. فماذا  تقول تلك النظريات والمشاهدات الرّصدية عن تاريخ الكون؟ إنّ السيناريو الذي يجمع عليه علماء الكونيات والمتمثل في أهم الأحداث التي مرّ بها الكون من «اللّحظة» التي أصبح فيها قابلا للوصف بما نمتلكه من أدوات إلى الآن هو ما سأسعى لإيجازه في الفقرة التالية.
تاريخ الكون
عندما أراد العلماء كتابة تاريخ الكون اصطدموا بـ «جدار» اسمه «جدار بلانك» نسبة إلى العالم ماكس بلانك (1858 – 1947). فقد بيّن هذا العالم أنّ هناك مقادير صغيرة جدّا للزّمن والطّول لا يمكن النّزول تحتها. فلا يمكن تصوّر جسما طوله أصغر من جزء من 1035 جزء من المتر وسمي بذلك «طول بلانك». كما أنّه لا يمكن التّحصل على برهة زمنيّة أصغر من جزء من 1034 جزء من الثانية وسمي لذلك «زمن بلانك». وحتى الطّاقة فإنّ أكبر كمية يمكن التعامل معها هي «طاقة بلانك» وتقدر بـ 1028 فولت إذ وعند طاقات أعلى فإنّ كل تمثلاتنا للفضاء والزّمن تفقد كلّ صلة بالواقع.  يشير جدار بلانك إذا إلى مرحلة خاصّة بالكون، مرحلة مرّ بها وتتميّز بأنّ ما «قبلها» (إن صح التعبير) عصي على الوصف بكلّ ما نمتلكه من نظريّات. أمّا الأحداث التي وقعت عندما أصبح عمر الكون مساو لزمن بلانك فقد صيغت في نموذج يسمّى النّموذج المعياري للكون. 
يصف النموذج المعياري الكون منذ «الانفجار العظيم» بمعنى منذ المرحلة العالية الكثافة والحرارة التي مر بها قبل 13,8 مليار سنة. فقد كان حجم الكون أصغر من طول بلانك وكانت طاقته أكبر من طاقة بلانك مما يعني استحالة وصفه . وقد تضلّ تلك المرحلة غائبة عنّا إذا لم تقع ثورة مفاهيمية في الفيزياء كما يمكن أن تبقى من الغيبيّات وإلى الأبد. مباشرة إثر تلك المرحلة تضخّم حجم الكون بمقدار خيالي وضخت فيه كمّية من الطّاقة بمقدار تتجاوز الدّقة التي ضخّ بها كلّ ما يمكن تخيّله إذا ربطنا ذلك بما سيؤول إليه تطوّر الكون لاحقا وخاصّة ما سيوفّره من بيئة قادرة على جعل الحياة تنبثق والإنسان يظهر. وبعد التّضخم واصل الكون في تمدّده ولكن بوتيرة أضعف بكثير وقد صاحب ذلك التمدد انخفاض في الحرارة والكثافة ممّا أتاح الظروف الملائمة ليتحوّل جزء من الطّاقة إلى جسيمات أوّلية مثل البروتونات والنيترونات والكهارب وقد ظلت تلك الجسيمات ومعها فوتونات الطّاقة في حالة غليان جنوني مكوّنة ما يشبه «الحساء» إلى أن بلغ عمر الكون 380000 سنة. 
عند ذلك العمر انخفضت الحرارة إلى درجة صار بمقدور الكهارب عندها احتلال مواقعها حول البروتونات وظهور ذرات الهيدروجين والهليوم بنسبة ثلاثة أرباع وربع ممّا تكون من مادة حينذاك. 
صاحب احتلال الكهارب لمواقعها حول الأنوية الذّرية تحرّر الفوتونات وانطلاقها حرّة في الفضاء الكوني بعدما كانت غير قادرة على ذلك بفعل اصطدامها بالجسيمات الأوّلية التي كانت تتوزّع عشوائيّا في كلّ الفضاء. وتمثّل الفوتونات تلك ما نصفه الآن بالخلفيّة الإشعاعيّة للكون إذ ضلّت تلك الفوتونات تنتشر في الكون في كلّ أرجائه ممّا جعلها تمتلك نفس حرارته الآن وهي 270 درجة مئوية تحت الصّفر أي 3 درجات مطلقة. لم يعد بمقدور الحرارة التي أصبح عليها الكون بعد 380000 سنة أن توفّر الشّروط الضّرورية لظهور العناصر الكيميائية الأثقل من الهليوم مثل الكربون والأكسجين والحديد وغيرها. وممّا زاد الطّين بلّة هو مواصلة انخفاض الحرارة بالتّزامن مع التوسّع الكوني ممّا يعني استحالة ظهور تلك العناصر.  لكن شاءت القدرة الإلهيّة أن تظهر النّجوم الأولى بعد 400 مليون سنة لتطبخ في باطنها العناصر الكيمائية الأخرى والضرورية لنشأة الكواكب والحياة والإنسان. وعندما صار عمر الكون حوالي 8 مليار سنة تسارعت وتيرة تمدّده بسبب مجهول الطبيعة  لحدّ الآن أطلق عليه اسم «الطاقة المظلمة». وقبل 4,6 مليار سنة من الآن تكوّنت الشّمس بمجموعتها الشّمسية وإثر تكون الأرض مباشرة نشأ القمر وكان ظهوره حاسما لخلق بيئة ملائمة لظهور الحياة التي بدأت ملامحها تبرز قبل 3,8 مليار سنة.
------
- أستاذ بالجامعة التونسية
ghorbel_nabil@yahoo.fr