في العمق

بقلم
محمد الصالح ضاوي
الأوردوغانية....... سحر تركيا الخفي
 وأخيرا، انتصر أردوغان، أو «مؤذن اسطنبول» كما اشتهر في الصحافة العالمية، على أعدائه، في انتخابات ديمقراطية، واكتسح حزبه مقاعد البرلمان، وأصبح «حزب العدالة والتنمية» محطّ أنظار العالم الغربي والإسلامي، واستطاع هذا الحزب الفتي، الذي أنشئ في 2001، أن يجمع حوله الأعداء والأصدقاء، وأيضا: الحسّاد.
لم تكن نتائج الانتخابات الأخيرة، بمعزل عن مسيرة سياسيّة حافلة بالأحداث، لحزب ولد من رحم أحزاب إسلامية تركية [السّلامة الوطني، حزب الرّفاه، حزب الفضيلة]، مثلت تجربة متواصلة وتراكما مسترسلا لدروس في التّعامل مع الوضع التّركي المتميّز. ولم يكن هناك فصل بين الحزب والشّخصية القياديّة المحوريّة لهذا الحزب، الذي ساهمت تجربته الشّخصية في نحت توجّه مختلف لحزبه، اختلف فيه مع «نجم الدين أربكان»، معلمه الرّوحي منذ السّبعينات، والذي لا يخفي تأثّره به وبشخصيته الفذّة.
الشيخ رجب النقشبندي
لا يمكن البحث عن أسرار النّجاحات المتكرّرة لحزب العدالة والتنمية، خارج السّحر الخفيّ، «للشّيخ رجب» كما سمّاه معلّمه في المدرسة الابتدائيّة، كما لا يمكن معرفة أسباب النّجاح لهذا لحزب، وبالتّالي أسباب فشل أحزاب الإسلام السّياسي العربي، خارج المسيرة الشّخصية لأوردوغان، وخارج تجربته الحياتيّة، التي بدأت في أحد أيّام 1954، في حيّ شعبي فقير، من الجزء الأوروبّي من مدينة اسطنبول.
فالرّجل تلقّى تعليما ابتدائيّا علمانيّا، ثم انخرط في معهد ديني ليتخرّج إماما خطيبا سنة 1973، ثم انتقل إلى دراسة إدارة الأعمال، التي سمحت له بالعمل كمستشار مالي لبعض الشّركات، ومديرا لبعضها الآخر، دون أن ننسى عمله الموازي طيلة مسيرته العلمية المتواضعة، في السّوق، يبيع السّميد والبطّيخ لإعانة والده.
لقد تلقّى الرّجل تعليما تقليديّا وتربية تقليديّة في محيطه الأسري، ضمن عقيدة إسلاميّة كلاسيكيّة، لكنّها تميّزت بروح نقشبنديّة، مكّنت الرّجل من استيعاب الآخر، ونبذ الإقصاء. ولعلّ خلوّ الزّعيم التّركي من أيّ أثر وهابي، وخلوّ حزبه من تأثيرات الوهابيّة، التي ضربت الإسلام السّياسي العربي، كانت النّقطة الإيجابيّة الأولى، في نحت معالم الشّخصية السّياسية فيما بعد، والتي جعلت من أردوغان رجل السّلام، أينما حلّ. 
فبفضل هذه الخلفية الصّوفية، التي كان يفتخر بها، تمكن أردوغان من استيعاب كل أعداء تركيا (ماعدى الكيان الصهويني) وحوّلهم إلى أصدقاء ومتعاونين معه في الاقتصاد والثّقافة. فما إن تقلّد حزب العدالة والتنمية سدّة الحكم، سنة 2002، حتى أنهى العداء التّاريخي مع اليونان، والأرمن، وطبع العلاقات مع سوريا وإيران والعراق وأذريبدجان، وصالح الأكراد بإعطائهم حقوقا لأوّل مرّة في الدّولة العلمانيّة.
ولعل أولى الدّروس المستفادة من التّجربة الأردوغانيّة، هي: أنّه لا يمكن للإسلام السّياسي العربي أن ينجح، إلاّ إذا تخلّى عن إرثه الوهابي الإقصائي، والذي يمثّل حجر عثرة في المسيرة السّياسية المطبوعة بالإسلام. فالفكر السّلفي الوهابي، المبني على إقصاء الآخر، وتجميع الأعداء من حوله، وادّعاء امتلاك الحقيقة، والاعتقاد في الفرقة النّاجية، لا يمكن بأي حال من الأحوال، أن يبني تجربة سياسيّة واقتصاديّة رائدة مثل المثال التركي. 
عمدة اسطنبول
في منتصف السّبعينات، دخل الشّيخ رجب المجال السّياسي عبر الانخراط في حزب «السلامة الوطني»، بقيادة نجم الدين أربكان. وكان لهذا اللّقاء بين الرّجلين تأثير بالغ على المسيرة الأردوغانية الحافلة بالأحداث والمواقف. ولم يدم طويلا نشاطه في حزب السّلامة الوطني، حيث حدث الانقلاب العسكري سنة 1980، وألغيت الأحزاب ومنع العمل السّياسي، حتّى سنة 1983، لمّا عاد الشّيخ رجب إلى الحياة السّياسية عبر حزب «الرّفاه»، سرعان ما تدرّج في مسؤولياته، فأصبح رئيس فرع الحزب في اسطنبول. وقبل أن يصبح عمدة مدينة اسطنبول سنة 1994، خاض أردوغان تجربة الانتخابات البرلمانيّة سنتي 87 و91 ولم يفلح في دخول البرلمان التّركي.
ما يهمّنا في هذه المرحلة الهامّة من حياة أردوغان، أنّه استطاع أن يبدأ تقلّد المسؤوليات السّياسية من أسفل الهرم، من قاعدته الشّعبية، من مكان التّواصل الجماهيري، والاتّصال المباشر مع هموم الشّعب التّركي في مدينة اسطنبول، التي يسكنها خمس سكّان تركيا.
لقد تمكّن أردوغان، خلال 5 سنوات فقط من تحويل مدينة اسطنبول إلى مفخرة لسكّانها، حيث قضى على مشكلة المياه التي أرّقت ربّات البيوت، وحلّ مشاكل السّكن والفقراء والبيئة، وحارب الفساد والعجز المالي للبلديّة، وقام بجلب استثمارات كبيرة وحقّق فوائض ربحيّة، شكلّت صدمة لدى المتابعين، ورسخت صورته لدى عموم منتسبي المدينة. 
وفي هذه المرحلة، ظهرت شخصيته كزعيم سياسي نظيف، بعيد عن كل أنواع الشبهات والفساد، متواضع، وزاهد، ملتصق بالجماهير، يطرق أبوابهم عن حين غفلة ليتقاسم معهم طعامهم، ويسألهم عن حاجاتهم، يشارك في مقابلات كرة القدم في مباريات تقام في مناسبات متعددة.
ولعل الدرس الأردوغاني في هذه المرحلة هو: البداية بالمستوى المحلي كي تنجح في نحت صورة جماهيرية تؤهلك لتحكم البلاد، وتستمر في الحكم. كما أن التجربة المحلية، تضمن لأصحابها من الإسلام السّياسي، القدرة على تحويل الشعارات إلى وقائع وبرامج، كما تمكن أهل السّياسة من معاينة الواقع بلا مساحيق ولا أقنعة. عدا أنها تجربة في الإدارة والمالية والتخطيط العمراني والسياسة المحلية والتنمية الشاملة. إضافة إلى نحت صورة جماهيرية، قابلة للتحسن بفعل الزمن ولا تنسى أبدا.
من المفيد مقارنة الوضع التركي من خلال تجربة أردوغان في عمادة اسطنبول، مع أحزاب الإسلام السّياسي العربي في بعض الأماكن، حيث ينتقل الإسلامي من وضع سجين الرأي والمناضل الحقوقي المنفي، إلى مسؤول حكومي، بفعل ثورات الرّبيع العربي، تنعدم لديه الخبرة، ومفتقد لأيّ صورة تسويقيّة سياسيّة، تؤهّله للاستمرار والاستقرار في موقعه. كما أنّ إصرار البعض الآخر من الإسلاميين العرب على البدء بالسّلطة التّنفيذية، والرّئاسة، يضع الفكر السّياسي العربي الاسلامي موضع سؤال وتحفّظ.  
تجربة السجن
ما كانت تجربة اسطنبول لتنجح دون أن تكثر من حول أردوغان الأعداء، خاصة من جانب العلمانيين المتشدّدين، والذين هاجمهم الشّيخ رجب حين تسلّم مفاتيح مدينة اسطنبول، وخطب في الجماهير قائلا: «لا يمكن أن تكون علمانيّا ومسلما في آن واحد. إنّهم دائما يحذّرون ويقولون أنّ العلمانية في خطر. وأنا أقول: نعم إنّها في خطر. إذا أرادت هذه الأمّة معادات العلمانيّة، فلن يستطيع أحد أن يمنعها. إنّ أمّة الإسلام تنتظر بزوغ الأمّة التّركية الإسلاميّة. وذاك سيتحقق. إنّ التمرّد ضدّ العلمانية سيبدأ».
هذا الخطاب الصّدامي مع العلمانيّة، والذي حشد له التّأييد الجماهيري، حشد له أيضا العداء العلماني، في دولة، يحرس علمانيتها الجيش، ويتمتع بالقدسيّة الوطنيّة. ويتمادى الشّاب الشّيخ في إرساء خطاب إسلامي، تصطدم مفرداته مع الخطّ العام للدّولة، ومع ما يسمح به من حريّة، تقف عند عتبات الدّين الإسلامي، إلى أن جاء يوم من أيام 1998، حين خطب الشّيخ رجب في لقاء جماهيري، وحملته حماسته وطلاقة لسانه واتّقاد ذهنه وبلاغة كلامه، إلى الاستشهاد بأبيات شعريّة، لشاعر تركيا العظيم: «ضياء غوك ألب»، يقول فيها:
«مساجدنا ثكناتنا ... قبابنـــا خوذاتنا  ... مآذننا حرابنــا
والمصلون جنودنا ... هذا الجيش المقدس: يحرس ديننا».
وبالرغم من أن هذه الأبيات تدرس في الكتب المدرسيّة، إلاّ أنّها كانت جريمة لأنّها خرجت من فم زعيم إسلامي، فاتّهم بإحداث الفتنة الطّائفية، وحكم عليه بأربعة أشهر سجنا.
ذهب إلى السّجن في موكب جماهيري مهيب، وخطب في النّاس من أمام السّجن، وطلب منهم أن يفكّروا في مستقبل تركيا من خارج السّجن وأنّه سيفعل نفس الشيء من داخل الأسوار. وبالفعل، خرج أردوغان من السّجن بأفكار جديدة وأسلوب جديد ورؤية جديدة، تختلف عمّا عليه معلّمه الرّوحي: أربكان، وأتباعه.
ولعل هذه الرّوح الثّورية، هي التي أثّرت فيما بعد في مواقفه السّياسية الخارجية، حيث وضع حدّا للعمالة للأمريكيّين، واستطاع قول لا للولايات المتّحدة عندما رفض المشاركة في الحرب على العراق، وتمكّن من فضح المجرم بيريز في مؤتمر دافوس، حيث وصفه بقاتل الأطفال، وانسحب محتجّا.
مسلم ديمقراطي
كانت تجربة السجن، على قصرها، تحوّلا هامّا في تفكير الشيخ رجب، وفي سلوكه السّياسي وقناعاته القيميّة. لقد فهم اللّعبة الديمقراطيّة، ولعبة القضاء، وعداء العلمانيّة. لقد استوعب الدرس الأتاتوركي، الذي لا يزال يهيمن بثقله على المشهد السّياسي التركي. كان عليه أن يرسم لنفسه، ولحزبه الذي سيولد سنة 2001، مسارا مغايرا لمسارات أحزاب الإسلام السّياسي التركي والعربي. كان يمهد لتدشين مرحلة جديدة، ليست بالأتاتوركية ولا بالعثمانية، إنها مرحلة: الأردوغانية. المرحلة الثالثة، والطريق الثالث.
ولما أسس حزبه: العدالة والتنمية، أعطى ضمانات بعدم محاربة العلمانية، وعدم الدّخول في مماحكات مع الجيش التركي، حارس العلمانيّة والجمهورية، وقال: «سنتبع سياسة واضحة ونشطة من أجل الوصول إلى الهدف الذي رسمه أتاتورك  لإقامة المجتمع المتحضر والمعاصر في إطار القيم الإسلامية التي يؤمن بها 99 % من مواطني تركيا».
لقد قبل أردوغان بالعلمانية إطارا جامعا للأمّة التّركية، وأعاد تعريفها بأنّها النّظام الذي يسمح للمتدينين بممارسة طقوسهم وحريتهم في كنف الحريّة والمساواة مع غيرهم. ولم تعد العلمانيّة في نظر أردوغان حاملة لواء الحرب على المتدينين.
وقبل أردوغان بالنّظام الدّيمقراطي، وبدولة القانون والمؤسّسات، وعمل طيلة عقد ونيف من الحكم الدّيمقراطي، على التّغيير السلمي القانوني، والإصلاح الديمقراطي المؤسّساتي، دون أن يطلق رصاصة واحدة. لم يتورّط الشيخ رجب في العنف، وكان يدعو أنصاره لعدم الاستجابة لاستفزازات العلمانيّين المتشدّدين، وبأنّ الرّد عليهم يكون في صندوق الاقتراع. كان أردوغان يرفض تهييج الجماهير ونقل المعركة إلى الشّوارع، خوفا من الانزلاق إلى مربّع العنف، وإيجاد ذريعة للعسكر ليتدخّل.
كان يرفض أن يوصف بالإسلامي، وكان يعرف نفسه بأنّه: مسلم ديمقراطي، وبأنّ العدالة والتنمية حزب أوروبي محافظ، والأكيد أنّه كان يغازل الدّيمقراطيات الأوروبية، في إطار محاصرة لصيقة للعسكر. كان يقول عن نفسه: «أنه رئيس متدين لحكومة علمانية». وعندما يسأل عن سبب النّجاحات التي حقّقها، كان يحيلهم على الرّسول الأكرم، ويقول عنه أنّه قدوته، صلى الله عليه وسلم.
وبفضل قبوله للّعبة الديمقراطية، مع كل ملحقاتها العلمانيّة والقضائيّة والعسكريّة، استطاع أردوغان أن يلاعب الجميع بأسلحتهم، وأن يقلب عليهم سحرهم، ويبطله بنفس أساليبهم، في إطار سياسة ناعمة لا تتنكر لمبادئه، حتى أصبح عدوّ الديمقراطية هو الجيش، بعد أن كان الإسلاميّون عنوان العداء الأبدي للدّولة العلمانية.
لقد تميّز أردوغان عن كل الإسلاميّين العرب، بقبوله بالدّيمقراطية، والانسجام مع لعبتها وقواعدها، والقبول بعلمانيّة الدّولة، مع تقليم أظافر العسكر تدريجيّا، ودفعه إلى مربّعه التقليدي، وإبعاده عن السّياسة وعن الحياة المدنيّة، كل ذلك عبر سلسلة من الإجراءات القانونيّة والتّغييرات الإدارية والقضائيّة، بأسلوب رصين، جلب له حب الجماهير واعتراف الخارج له بالنجاح والتفوق.
ولعل الدرس المستفاد من هذه المرحلة، أن الإسلام السياسي يمكنه النمو والتطور حين يتأقلم مع بيئة علمانية وديمقراطية. بل إنه من المشروع القول، بأن أي نجاح للإسلام السياسي في عصرنا الحاضر يتوقف على مدى علمنة المجتمع والدولة، ومدى انتشار الدّيمقراطية وتطبيقها، باعتبار أنّهما: العلمانية والديمقراطية، العنصران المفعلان لإنتاج تجربة سياسية إسلاميّة معاصرة، ناجحة وبراغماتيّة، تستطيع الإجابة عن مختف هموم المواطن العربي، وتحلّ مشكلاته الاقتصاديّة والاجتماعية والبيئية والسّياسية.
خاتمة
لقد أعطى أردوغان قبلة الحياة لرجل أوروبا المريض، وحوله إلى رجل العالم المعافى، بفضل عدّة عناصر توفّرت في قناعاته وسلوكه وعقيدته. وحريّ بنا إطلاق اسم: «الأردوغانيّة» على تجربة الإسلام السّياسي في تركيا، المختلفة عن مثيلتها في العالم العربي. 
إنّ الدّرس التّركي اليوم، يتوجّه إلى العالم العربي بنصائح، مفادها: تخلّصوا من الإرث الوهابي، ابدؤوا العمل السّياسي من القاعدة، اقبلوا بالدّيمقراطية ودولة القانون والمؤسّسات، وانحتوا لأنفسكم طريقا ليّنا وثابتا للإصلاح، ولا تقعوا في استفزازات المنافسين والأعداء، ولا تنجرّوا إلى المعارك الثّانوية، كونوا أمثلة في السّلوك النّظيف وفي الزّهد، واجمعوا من حولكم رجال الإصلاح والعلم والإبداع، واستمعوا لهم بانتباه، وتبنّوا كلّ عمل صالح،  تحصدون النّجاح بإذن الله.
الهوامش
(1) عبارة وردت في كتاب: الشيخ الرئيس رجب طيب أردوغان، مؤذن اسطنبول ومحطم الصنم الأتاتوركي، لشريف سعد الدين تغيان. دار الكتاب العربي، دمشق-القاهرة، ط 1، 2011.
-----
- كاتب وصحفي تونسي مقيم في الجزائر
dhaoui66@gmail.com