الأولى

بقلم
فيصل العش
حزب العدالة والتنمية التركي وحركة النهضة التونسية... أيّ تشابه؟
 نجح حزب العدالة والتنمية التركي نجاحا باهرا في الانتخابات البرلمانية الاخيرة وحقق ما كان يحلم به من أغلبية مريحة تسمح له بمواصلة حكم البلاد بمفرده وتنفيذ برامجه. وقد حظيت هذه الانتخابات باهتمام كبير لدى مختلف الأطراف السّياسية والإعلاميّة ببلادنا لاسيّما الإسلاميّة منها، وشعرنا كأغلب المتتبعين للسّاحة السّياسية التونسية بمدى فرحة أبناء حركة النهضة والقريبين منهم بهذا الفوز باعتباره انتصارا لحزب إسلامي في وقت تأزم فيه وضع الإسلام السياسي في تونس والمنطقة العربية بصفة عامّة (1) وطفت على السطح مقولات من هنا وهناك تقارن بين حزب حركة النهضة وحزب العدالة والتنمية وترى أنّهما ينتميان إلى نفس المدرسة الفكرية والسياسية بل أن البعض تعمّد تذكيرنا بتصريحات أردوغان في مناسبات كثيرة حول إعجابه بفكر الشّيخ راشد الغنوشي، وأنّه يغبط الشّعب التونسي بأن له مفكرًا وسياسيّا مثل الغنوشي(2). 
لئن كان لنجاح حزب العدالة والتنمية التركي الأخير أثر معنوي كبير على التيار الإسلامي بصفة خاصّة وأثر واقعي هام في السّاحة السّياسية العربية بصفة عامّة بحكم الدّور الكبير الذي تلعبه تركيا في المنطقة، فإن الاهتمام بهذا الحدث والتّركيز على التّشابه بين حزب العدالة والتنمية وحزب حركة النهضة يجعلنا نتساءل عن مدى نسبة هذا التشابه، وهل بإمكان حزب حركة النهضة تجسيد تجربة العدالة والتنمية في تونس رغم اختلاف الواقع التركي عن نظيره التونسي؟ أمّ أن ذلك يدخل في خانة تبنّي نجاح الآخرين وتوظيفه سياسيا لا أكثر ولا أقل ؟
اختلافات جوهرية
إن محاولة مقارنة حزب العدالة والتنمية التركي بحزب حركة النهضة من حيث الهوية والسّياسات الدّاخلية والخارجيّة لا يستقيم وقد يحمل بعض التعسّف تجاه حركة النهضة نتيجة اختلاف العوامل الداخلية والخارجية المحيطة بالتجربتين ممّا يجعل مهمّة النهضة تبدو شاقّة وتتطلّب تضحيات جساما وعملا متواصلا إذا ما فكّرت أن تصل إلى  ما وصل إليه أردوغان وجماعته وسنكتفي بذكر أربعة عناصر أساسيّة حاسمة في هذه المسألة.
طبيعة الحياة السياسية 
تأسس حزب العدالة والتنمية  وترعرع ونما في وضع يمتاز بوجود حياة سياسية حقيقيّة وتقاليد ديمقراطيّة تعود بداياتها للعام 1945 وهو العام الذي انتهت فيه سياسة حكم الحزب الواحد، بالرغم من محاولات الجيش لتشويهها ومن الأكيد أنّ تكون للتّجربة التّعددية التّركية التّأثير البالغ في صقل الأحزاب ذات الخلفيّة الإسلاميّة ومعارضيها من حيث الإختيارات والرّؤى والعلاقات السّياسية بين الفرقاء، أمّا حزب حركة النهضة فقد نشأ في فترة حكم استبدادي ارتكز على علمانية متطرفة تجاه الدّين وحياة سياسية مشوّهة تقوم على حكم الزعيم الأوحد ولا تعرف من الديمقراطيّة إلاّ اسمها. حيث عانى المنتمون إلى هذا الحزب والمتعاطفون معه الأمرّين وذاقوا أنواعا من العذاب والسجن والتدمير الممنهج بشكل يفوق بكثير ما عانته بقية التّيارات السّياسية، فاضطروا إلى العمل السرّي لمدّة عقود ومن الطبيعي أن يؤثر ذلك في توجهات الحزب وتعامله مع خصومه من التّيارات الفكرية الأخرى والأحزاب خاصّة التي ولدت من رحم النظام القديم بلونيه البورقيبي والنوفمبري، الأمر الذي يتطلب مجهودات جبارة لتجاوز تلك التأثيرات.
الوعي الشعبي 
يمثّل الوعي السياسي الشّعبي فارقا كبيرا بين التّجربتين التّركية والتّونسية، فبينما يهتم الشعب التركي في أغلبه بالشأن السياسي ولديه القدرة على قراءة الأحداث واتخاذ المواقف تجاهها، ينفر التّونسيون من كلّ ما هو متعلّق بالسّياسة نتيجة عقود القهر والاستبداد، حيث ارتبطت كلمة «سياسة» بالسجن والتّعذيب والتجويع. ويتجسّد هذا الاختلاف بشكل واضح في نسب المشاركين في الانتخابات، فبالرغم من أهميّة الانتخابات التشريعيّة التونسية للعام 2014 التي أتت في نهاية مرحلة الانتقال الديمقراطي التي بدأت بعد الثورة وتعدّ أول انتخابات تشريعية ديمقراطيّة متعددة الأحزاب، فإنّ نسبة المشاركة الشّعبية كانت هزيلة لا ترتقي إلى مستوى الحدث حيث لم تتجاوز37 % من عدد التّونسيين الذين يحقّ لهم الانتخاب (3) في حين نجدها تجاوزت عتبة 85 %  في الانتخابات التّركية الأخيرة وهي نسبة لم تبلغها قطّ الدّيمقراطيات الحديثة والقديمة. 
وإذا أضفنا إلى ذلـــك نسبة الأمّيــة بين النّاخبيــن التي تجاوزت 18 % بتونس مقابـــل 5.8 %  فقط بتركيا، فإنّنا سندرك الفرق بين الواقع الذي يتحرك فيه حزب العدالة والتنمية والواقع التونسي الذي تشتغل فيه حركة النهضة. فالمنافسة السّياسية في بيئة تمتاز بنسبة عالية من الوعي والتّعلم تختلف كليّا عن المنافسة في بيئة يغيب فيها الوعي السّياسي وترتفع فيها نسبة الجهل سواء من حيث أدواتها أومضامينها.
الهويّة الحزبية : بين العلمنة والأسلمة
يذهب الكثير من المتابعين لمسيرة حزب العدالة والتنمية التركي سواء كانوا من مؤيديه أو من خصومه، إلى اعتباره حزبا إسلاميّا وتعبيرة تركيّة للإسلام السّياسي، ويرى البعض منهم أن هناك تشابها وقرابة على مستوى الهويّة بين هذا الحزب وحزب حركة النهضة وهذا في تقديرنا مجانب للصواب إذا ما أخذنا بعين الاعتبار الأسس الفكريّة والسياسية التي قام عليها الحزبان، فالعدالة والتنمية التركي حزب ليبيرالي علماني يستند إلى الخلفية الإسلاميّة وليس حزبا إسلاميّا يتبنّى الليبرالية كحزب حركة النهضة. 
ولا يعرّف حزب العدالة والتنمية نفسه بأنه حزب إسلامي مطلقا، ولا يعلن اتّباعه لأي أجندة إسلامية حيث أعلن منذ تأسيسه القطيعة الأيديولوجية مع أسلافه من التيار الإسلامي السياسي التركي (حزب الفضيلة ثم حزب الرفاه) وبالتالي فهو حزب علماني كما صرّح بذلك أردوغان مرارا وتكرارا (4)  يحترم دستور تركيا العلماني ويتبنّى رؤية «معتدلة» للعلمانيّة لا تتحكّم الدّولة وفقها بالتّدين الشّخصي للمواطنين، ولا تحكم وفق «الشّريعة الإسلاميّة»(5).
أمّا حركة النّهضة فإنّها مازالت لم تحسم أمر هويّتها وهي تعيش لحدّ الآن فجوة مهمّة واضحة بين ما يحمله عدد كبير من أفرادها والمتعاطفين معها من أفكار ورؤى وبين ما يطرحه بعض قيادي الحركة وعلى رأسهم زعيمها الشّيخ راشد الغنوشي. فهل ستنجح الحركة في مؤتمرها القادم في الحسم في هذه المسألة وتقوم بتغيير رؤيتها الفكرية التي تبنتها منذ عقود وتقدّم للتونسيين رؤية جديدة تحدّد فيها مرجعيتها الفكرية وتواكب نصوصها التّطور الملحوظ الذي لمسناه في ممارساتها خاصّة خلال السنتين الفارطتين؟ وهل بمقدورها تبنّي هويّة علمانيّة (على الأقل على المستوى السّياسي) تهدف إلى بناء دولة تعاقدية مدنيّة يتساوى فيها الجميع أمام القانون وتكون على مسافة واحدة بين التّدين وعدمه؟ فتُضيع بذلك الفرصة على خصومها وتقطع نهائيّا على الأقل من جهتها مع الاستقطاب الثنائي العلماني الإسلامي الذي أضرّ بالثورة وبعملية الإصلاح المتعثّرة؟
السياسة الخارجيّة
لم يكن حزب العدالة والتنمية لينجح في مسيرته السياسية والهيمنة على الساحة لمدّة طويلة لولا نجاحه في تحقيق تنمية شاملة للبلاد وتحويل تركيا من بلد مُستدين إلى مدين لتحتل مرتبة متقدّمة ضمن الدّول المتطوّرة بعد أن كانت في ذيل القائمة. ولم تكن استراتيجيته الاقتصاديّة هي السبب الوحيد في تحقيق هذا النّجاح بل إنّ لسياسته الخارجيّة دورا فعّالا في ذلك. فقد حافظ حزب العدالة والتنمية عند تسلّمه السّلطة على موقع تركيا ضمن الحلف الأطلسي بصفتها أحد مؤسّسيه وطوّر علاقاته بالولايات المتحدة الأمريكية التي تمتلك أهم قاعدة عسكريّة جويّة في الشّرق الأوسط على الأراضي التركية ، وهي قاعدة (إنجرليك)، وحافظ على علاقاته بالكيان الصهيوني بالرغم من بعض لحظات الفتور التي صاحبت موقف أردوغان الدّاعم لغزة (6) . ولقد ضمن بذلك حزب العدالة والتنمية عدم عرقلة هذه القوى الخارجيّة لمسيرته التنموية على المستوى السّياسي والاقتصادي.
أمّا حركة النّهضة فقدرها أن تتبع سياسة خارجيّة مغايرة تماما لسياسة اردوغان نتيجة اختلافات جذريّة تتجسّد أساسا في البعدين القومي والإقليمي، فنجاح التجربة التونسية لا يمكن أن يتحقق إلاّ عبر التركيز على فلسفة الوحدة بداية من المغرب العربي في اتجاه وحدة عربية واسعة يكون محركها الأساسي موقف واحد داعم لفلسطين وهي وحدة بدونها لا يصلح الحديث عن تنمية اقتصادية واجتماعية ولا عن سيادة ونبذ للتبعية.
الهوامش
(1) قال الغنوشي، رئيس حركة النهضة الإسلامية التونسية، في تدوينة على صفحته الرسمية على فيسبوك يوم الفاتح من نوفمبر 2015 إنّ الفوز «يبث الفرحة لكل محبي تركيا في العالم العربي، وهو فوز للربيع العربي وخسارة لمشاريع الفوضى والانقلابات والثورة المضادة في المنطقة».
(2) من تصريح أردوغان عند زيارته لتونس 15 سبتمبر 2011
(3) النسبة المعلنة الرسمية بلغت 61.8 % غير أنه تمّ حسابها على أساس عدد المسجّلين في دفاتر الانتخاب والذي بلغ عددهم 3266214 نسمة مقابل العدد الحقيقي للتونسيين الذين يحق لهم الانتخاب البلغ 8739644 ( احصائيّة انتخابات المجلس التأسيسي 23 اكتوبر 2011) .
(4) صرّح أردوغان في حوار على قناة العربيّة بتاريخ 14/9/2011 بأنّ: «العلمانية تعني حسب دستور تركيا عام 1982 وقوف الدولة على مسافة متساوية من جميع الأديان، أما الأشخاص فلا يكونون علمانيين، اذ يستطيعون أن يكونوا متدينين أو ضد الدين أو من أديان أخرى. فهذا شيء طبيعي»  
(5) في حوار مع الصحافة المصرية اثناء زيارة أردوغان إلى القاهرة  14 سبتمبر 2011، وعندما وصف أحد الصحافيين موجها الخطاب إلى أردوغان بأن حزبه اسلامي كان رده حازماً حيث قال (إن حزب العدالة والتنمية ليس حزبا اسلاميا) مضيفاً (لا يوجد ما يسمى حزب اسلامي ديمقراطي، فهذا تعريف خاطئ).
(6) رغم الاعتداء العسكري الصهيوني على «مرمرة» كبرى سفن أسطول الحرّية الهادف إلى فكّ الحصار على غزّة (31 ماي 2010) والذي راح ضحيته ثمانية أتراك وبلغت العلاقة بين الكيان الصهيوني وتركيا حدّا كبيرا من التوتّر إلاّ أنها لم تشهد انقطاعا ولا مراجعة إلاّ على مستوى الخطاب لا غير.
  -----
- مدير المجلّة
faycalelleuch@gmail.com