شخصيات

بقلم
التحرير الإصلاح
عدنان مندريس
 «في هذه اللحظة التي أنا فيها على شفا مفارقة الحياة أتمنى السّعادة الأبدية لبلدي وأمتي». بهذه الكلمات سلّم ضيفنا رقبته لجلاّديه ليتم إعدامه شنقا بعد محاكمة صوريّة واتهامات أثبت التاريخ أنّها كانت باطلة. إنّه «علي عدنان إرتكين مندريس» أول زعيم سياسي منتخب ديمقراطياً في تاريخ تركيا، كان رئيساً للوزراء بين عامي 1950 و1960 الملقب بـ «شهيد الآذان» والذي انقلب عليه الجيش في تركيا في 27 ماي 1960. 
عدنان مندريس ذو أصول تتارية، وُلِدَ بالعام 1899 لأسرة من كبار الملاّك الزّراعيين زاول تعليماً أجنبياً قبل أن ينتقل لجامعة أنقرة ليدرس بكلّية القانون. بدأ حياته السياسية  بالمساهمة في تأسيس الحزب الجمهوري عام 1930، الذي سرعان ما تمّ حلّه بأمر من أتاتورك. فانضمّ إلى صفوف حزب «الشعب الجمهوري» الذي أسّسه «مصطفى كمال أتاتورك»، و انتُخب نائبا في البرلمان في عام 1931 عن دائرة «آيدن». وفي العام 1945 انسلخ عن حزب الشعب الجمهوري نتيجة موقفه المعارض لخليفة أتاتورك وحامي ميراثه العلماني «عصمت إينونو» ليؤسّس مع ثلاثة نواب آخرين «الحزب الديمقراطي» الذي دعى إلى التعامل مع العالم بأسلوب جديد أكثر إنفتاحا يجعل من تركيا دولة متقدّمة تؤمن بالتّعددية والتّداول السّلمي على السّلطة وذلك بالقيام بتعديل مسار الجمهوريّة الجديدة وتصويب أخطائها عبر تبنّى خطّ الحرّيات وحقوق الإنسان، وإعطاء مساحة أكثر من الحرية داخل المجتمع التركى والإهتمام بالطبقات الإجتماعية الفقيرة والطبقات المتوسطة التى تضررت من إجراءات «أتاتورك». لم يطالب بإلغاء الجمهورية أو عودة الخلافة أو القضاء على العلمانية ولكنّه دعى إلى احترام الإسلام بطقوسه وشعائره وتبنى إلغاء القرارات والإجراءات المعادية للدّين التى أتخذها أتاتورك والتى إستفزت قطاعات عريضة من الشعب التركى. 
في عام 1946 شارك الحزب الجديد في الانتخابات العامة، لكنه لم يحصل إلا على 62 مقعدا، ثم عاد ليشارك في انتخابات عام 1950 ليحقق المفاجأة بفوزه بالأغلبية السّاحقة وتشكيله الحكومة (53% من الأصوات) ثم أعاد الكرّة في الانتخابات الموالية سنة 1954 بنيل 57 % من الأصوات وبذلك وضع حدا لهيمنة حزب الشعب الجمهوري وإبعاده عن الحكم الذي سيطر عليه منذ إعلان الجمهورية عام 1923.
كان مندريس قد خاض حملته الانتخابية على أساس وعود بإلغاء الإجراءات العلمانية الصارمة، وحينما فاز، قام بتنفيذ وعوده حيث أعاد الآذان إلى العربية وأدخل الدروس الدينية إلى المدارس العامة وفتح أول معهد ديني عال إلى جانب مراكز تعليم القرآن الكريم، ورغم ذلك فإنّ «مندريس» لم يكن يحمل أجندة إسلامية بأى حال من الأحوال فقد قام بوأد جميع محاولات إنشاء أحزاب دينية في عهده وتمسك بالعلمانية كمنهج أساسى للحكم. 
أمّا على المستوى الاقتصادي فقد استفاد ماندريس من إنجازات أسلافه خاصة في الصناعة ودعّمها ونجح في تحقيق تنمية شاملة في الميدان الزراعي بإدخاله المزيد من التكنولوجيا الزراعيه وإقامة السدود مما زاد من رقعة الأرض الزراعية ونمت حركة التصدير الى أوروبا بشكل لافت. لكنّ الاقتصاد التركي تراجع في الفترة من 1955 الى 1960 ليتكبّد خسائر كبيرة سهّلت مهمّة العلمانيين والانقلابيين في حشد قوى اجتماعية لاسيما طلاب الجامعات والجيش لمعارضة سياسات الحكومة، فوقعت أحداث شغب ومظاهرات كبيرة في شوارع إسطنبول وأنقرة، فسهّل مهمّة العسكر في تنفيذ انقلابهم على «مندريس» في 27 ماي 1960 وتقديمه وزملاؤه لمحاكمات شكلية انتهت بالحكم بإعدامه مع وزير خارجيته ووزير ماليته وتنفيذ الحكم في 17 سبتمبر 1961.
حاول قادة الانقلاب هز صورة «مندريس» أمام الشعب التركي المحافظ، فوجهت له تهم مثل الزنا إلى جانب تهم الانقلاب على النظام العلماني وتأسيس دولة دينية في تركيا، كما تم استخدام وتوظيف المؤسسات الدينية الرسمية في تشويه الرجل وإقناع الشعب بالخطر الذي مثله «مندريس» على الأمة التركية ومستقبلها وبدور الجيش الوطني في إنقاذ الدولة، فتحدث مفتي إسطنبول بلسان الانقلابيين وطالب برجم الرّجل.
كان الموقف الدولي من الانقلاب مخزيا، فرغم اتباع «مندريس» خطّ الالتصاق بالمعسكر الغربي وتوطيد علاقته بالولايات المتحدة والانضمام إلى حلف الناتو، فقد تمّ التخلّي عنه بعد أن دعّمت الولايات المتحدة السّلطة العسكريّة وتعاملت معها بل لم تجد حرجًا من وصف ما حدث بالثّورة غير الدّموية ووصف قائد الانقلاب بالرّجل المعتدل!
أُعدم «عندنان مندريس»، ليأتي بعد ذلك بأكثر من 40 عامًا من يؤسّس حزب «العدالة والتنمية» ويذكر في صدر برنامجه أنّه وريث الحزب الدّيمقراطي ويحقّق الحزب الجديد ما فشل فيه «الشهيد»، فيقود الدّولة إلى حالة استقرار سياسي مكنته من تحقيق طفرة اقتصادية وإنجازات غير مسبوقة لعلّ أبرزها إنهاء وصاية العسكر على الحياة السّياسية وتعديل الدّستور بما يجرّم الانقلابات العسكريّة. وفي أفريل  1990 أصدرالبرلمان قانونًا يردّ الاعتبار لعدنان مندريس وزملائه، ومن بين أشكال ردّ الأعتبار للرّجل تسمية مطار أزمير والعديد من الشّوارع والمدارس والجامعات بإسمه امتنانًا لدوره في الحياة المدنية، وإدانة لإرث الانقلابات العسكريّة.