حديقة الشعراء

بقلم
عبداللطيف العلوي
ام الحزانى
 أُمّي أَنا .. 
تِلْكَ الّتِي عَشِيَتْ،
وَ لَمْ تُخْلِفْ دُعاءَ الفَجرِ يَومًا واحِدًا ..
تلكَ الّتي شَابَتْ، 
ولَمْ تعرِفْ من الدُّنْيَا سوى أَسْمائِنَا ..
وَ حوادِثِ الدَّهْرِ الغريبةِ في قُرى الأحواز ..
لمْ تعرفْ سِوى عامِ الْجَرَادِ، وذكْرياتِ القَحْطِ، 
تجربَةِ التَّعاضُدِ، 
كَرْمةِ الأَجدادِ، والْخيْلِ الّتِي رَحلتْ، 
حكاياتِ الْبَيَادِرِ، أوْ جفافِ العَيْنِ، ...
سُخْطِ الأَوْلِياءِ الصَّالِحِينَ ... و خَوْفِنا ..
أُمّي أَنا .. 
تلْكَ الّتِي انْكسرَتْ ببابِ السِّجْنِ وانتظرتْ طَويلاً ...
كَمْ سَنَــــهْ ... !!
وَ بَكَتْ طَوِيلاً ..
تَحتَ « بُرْجِ الرُّومِ» ضمَّتْ شالَها وَبَكَتْ طويلاً 
يومَ شقَّ وشاحَها السّجّانُ، 
« لستِ سوى بَغِيٍّ فاجِرَهْ !!»
لَوْ كُنتِ صالِحةً، 
لمَا أَنْجَبْتِ هذا ابْنَ الْحرامِ ...
و ما أَتَيْتِ اليَومَ خلْفَهُ صَاغِرَهْ .. !
وبَكَتْ طوِيلاً ... كَمْ سَنَــهْ !!
أُمّي أَنا .. 
تلكَ الّتِي عاشَتْ ككُلِّ الطّيِّبينَ بِلاَ غَدٍ ...
تلكَ الَّتِي سَقَطَتْ يَداهَا فَجْأَةً 
وحَنَتْ جَبِينًا، 
طَوَّحَتْهُ الرِّيحُ دوْمًا كالشِّراعِ وما انْحَنَى ...
تِلْكَ الَّتي جَاعَتْ على مَرّ الفُصُولِ ومَا شَكَتْ 
وَ تَحمَّلَتْ آلاَمَ رُكْبَتِها وَ كَرْبَتِها معًا ..
وَ جميعَ أَوجاعَ الْحياةِ الْمُمْكِنَهْ ..
أُمّي أَضاعَتْ مِنْ سِنِينَ بِطاقَةَ التَّعْرِيفِ،
لَمْ تَعْبَأْ كَثيرًا أو تُفَكِّرْ أَنْ تُجَدِّدَهَا ...
وكانتْ ..
بابْتِسامتِها ترُدُّ اللَّومَ: ليسَ الآنَ ...
لاَ أَحْتاجُها إِلاَّ لِيَومِ الاِنتِخابِ ... وَمَنْ أَنا .. !!
ما حاجَتِي أَصْلاً بِها؟
و أَنا أَعيشُ كَجرَّةٍ مَنْسيّةٍ تحتَ التُّرَابِ ..
أَنا أَعيشُ كَما أَعِيشُ وَ لاَ أُغادِرُ بَيْتَنَا ..
أُمِّي أَنا ...
هِيَ لمْ تكنْ أَبدًا تُريدُ الاِنتِخابَ أَوِ العَنَا ..
كانَتْ تَرى في الأُفْقِ طَيْفَ حَمامَةٍ زَرْقَاءَ، 
تَفْحَصُها بِعَيْنيها صباحًا أَوْ مساءً، 
وَ هْيَ حائِرةٌ تَقُولُ: « أَخافُ أَنْ أُخْطِئْ .. !!»
هُنا أَضَعُ الْعَلاَمةَ أَمْ هُنَا ..؟؟
تِلْكَ الَّتِي صارَتْ تَخافُ منَ الظَّلامِ ...
وَمِنْ مراسِيلِ الظَّلامِ ..
تخافُ منْ حَرسِ الْمُرُورِ، ومِنكَ يا سَاعِي الْبَرِيدِ 
تَخَافُ قُطَّاعَ التَّذاكِرِ في مَحطَّاتِ القِطارِ،
تَخافُ عونَ الْكَهْرَبَاءِ إذَا أَطلَّ بزِيّهِ الرَّسْمِيِّ 
مثلَ مُفَتِّشٍ ...
وتَخافُ مِنْ نبْحِ الْكِلاَبِ إِذا دَنَا ...
صارَتْ تَخَافُ هَدِيرَها،
سيَّارَةَ «الْجِيبِ» اللَّعِينَةَ،
كُلَّما اقْتَرَبَتْ ... وَ حَامَتْ حوْلَنا ..
أُمِّي أَنا ..
تلكَ الَّتِي، مَوجوعةَ النَّظَراتِ، دَوْمًا ..
تَقْتُلُ الإِنْسانَ فِيَّ لِلَحْظَةٍ ...
وَ تَعُودُ تُحْيِيهِ بِوَعْدٍ غَامِضٍ ..
أُمِّي أَنا ...
اليومَ رَنَّ الْهاتِفُ الْخَلَوِيُّ، 
كانتْ مثلَ طِفْلٍ بِالْبِشارَةِ يَلْهَجُ: 
« نَخّبْتُ»يا ابْنِي .. كنتُ واثِقَةً وَ لَمْ أُخْطِئْ .. !!
تمامًا مثلما عَلَّمْتَنِي .. !!
اليَومَ يا كَبِدِي فقطْ، يَرْتاحُ قَلْبِي ..
بعدَ أَعوامِ الضَّنَى ..
صَمَتَتْ ... 
وصارَ الْهاتِفُ الْخَلَوِيُّ يَبْكِي بَيْنَنا ...
وَمَسَحتُ دَمْعَتَها الَّتِي نَزَلَتْ على قَلْبِي ...
لآخرِ مَرَّةٍ ..
أُمِّي أَنَا ...
------
- شاعر تونسي
alouiabdellatif222@gmail.com
من ديوان : « عادات سيف الدولة «