فلسطين بوصلتنا

بقلم
مصطفى يوسف اللدّاوي
انتفاضة المدية والخنجر والسكين
 لكل انتفاضةٍ ما يميزها وما يمنحها هويتها الخاصة وطابعها المميز، ولكلٍ منها سلاحها وأدواتها، ومفرداتها وأساليبها، وأهدافها وغاياتها، كما لها أبطالها ورجالها، ورموزها وقادتها، ولو أنها تقاطعت في بعض الأحيان في الشكل والأسلوب، وفي الأداة والوسيلة، نظراً لقلة الخيارات، وانحصار الأدوات ومحدوديتها نتيجة الإجراءات الأمنية المشدّدة، والمتابعة والملاحقة الدّقيقة، التي كانت تحول دون التّنوع والتّبديل، والابتكار والاختراع، فضلاً عن عمليّات الاعتقال الواسعة جدّاً، والقمع الشديد المتواصل بقصد وقف الانتفاضة وإنهاء فعالياتها، إلاّ أنّ الفلسطينيّين في انتفاضاتهم السّابقة والجديدة الثّالثة، لا يعدمون وسيلةً، ولا يعلنون اليأس والاستسلام، بل كانوا دائماً يبتكرون الجديد، ويتواءمون مع الواقع، ويختلقون وسائل تتناسب والظروف، وتصمد في وجه التحديات، وتعجز سلطات الاحتلال عن محاربتها والتصدي لها.
فإن كان الحجر هو سلاح الانتفاضة الفلسطينيّة الأولى التي سمّيت باسمه واشتهرت به، وعرفت في العالم كلّه بانتفاضة أطفال الحجارة، وفيها كان الحجر هو الرّمز والشّارة، وهو الصورة والحقيقة، وإن كان قد تطوّر بعد ذلك قليلاً، ودخل المقلاع «الشُدِّيدة» في المعركة، وأحسن الشّبان الفلسطينيّون استخدامه وتصويبه، فكانوا يصيبون به بدقّة، وكان مداه أبعد من الحجر الملقى باليد.
هدم الفلسطينيون بيوتهم ليتّخذوا من حجارتها سلاحاً، يقذفون بها الجنود وآلياتهم، ويعيقون حركة سياراتهم ودورياتهم، ويشجّون بها وجوههم، ويرضخون رؤوسهم، ويدمّون أجسادهم، وبعض الحجارة أصابت عيونهم وأعمتها، وكانت تؤذي وتجرح، وتعطب وتعيق.
كان الحجر متوفّــراً بكثرة، فلا يشكو الفلسطينيّـــون من قلّته، ولا يخافـــون من منع استيراده، والحيلولة دون وصوله إلى أيديهم، فهو سلاحهم الوطنــي، المصنوع من تــراب الوطن وطينـــه، وإن كانت سلطـــات الاحتلال في بداية الانتفاضـــة الأولـــى قد عمدت إلى جمع الحجارة ودفنهـــا، وكانت تجبر الفلسطينييــّن على جمعهـــــا من الشّوارع والأزقّة ودفنها في جوف الأرض، ظنـــاً منهــم أنّهم بذلك يجردون الفلسطينيّيـــن من سلاحهـــم، وينزعــــون من أيديهم عامــل القـــوّة وعنصر التّفوق.
أمّا الانتفاضة الثّانية فقد تميّزت بعملياتها الاستشهاديّة، والمتفجّـــرات المتنقّلــــــة بين «القــــدس» و«العفولـــة»، و«تل أبيب» و«الخضيرة»، و«أسدود» و«عسقلان» وكــــل المــــــدن والبلدات الفلسطينيّة، التي فجّر فيها الاستشهاديّون الفلسطينيّـــون الحافلات ومحطّاتها، وتجمّعات الجنود والمقاهي، والسّيارات الصّغيرة والشّاحنات الكبيـــرة، وفيها سقط المئــات من الإسرائيلييّن قتلى، وسكن الرّعب في قلوبهم جرّاء سلسلة التّفجيرات المتنقّلة، وامتنعوا عن ركوب الحافلات والجلوس في المقاهـــي والتّجمــع أمام المحطّات أو الأماكن العامّة، مخافة أن يقوم فلسطيني بتفجير نفسه بينهـــم، وتوزيع الموت عليهم، وقد تسبّبت العمليّات الاستشهاديّـــة إلى جانب الذّعـــر الذي بثّته في الأوســـاط الإسرائيليّـــة، إلى سقوط أعدادٍ كبيرة من القتلـــى في صفوفهـــم، الذين كانــــوا يسقطون فــرادى وبالجملـة أحياناً.
أما الانتفاضة الثّالثة التي نعيش فصولها هذه الأيام، ونقلب صفحاتها كلّ ساعة، ونترقّب جديدها ونتابع تطوّراتها، فإنّه يغلب على سلاح الفلسطينييـــّن فيها السّكين والمدية والخنجر، إذ لا شئ يملكونه اليوم إلى جانب الحجـــر غير السّلاح الأبيض القديم، فقد تعرّضت المقاومة في الضّفة الغربيّـــة إلى حصـــارٍ خانقٍ وملاحقةٍ قاسية من المخابرات الإسرائيلية ومن الأجهزة الأمنيّة الفلسطينيّة، فلم يعد بين أيدي الفلسطينيّن أسلحةً ناريةً يقاومون بها، وقد لا يريدون استخدامها في هذه الانتفاضة، أو في هذا الوقت بالتّحديد.
إن كان الفلسطينيــون لا يريدون استخــدام الأسلحة الناريـــة في الانتفاضـــة الجديدة، فإنّهم جميعاً يملكــون فـــي مطابخهم سكاكين حــادّة، وعندهــم خناجــر ومعــاول ومِدَى حادّة، وغير ذلك ممــّا حدّ نصلـــه ودقّ طرفـــه، فيه يقاومـــون ويقاتلون، وبه يواجهون ويصدّون، ورغم أنّ القتال بهذه الأسلحة البيضـــاء يلزمه إرادة وشجاعـــة كبيرة، لأنّ القتال به يلزمه مواجهة مع العدوّ وجهاً لوجه، أو طعنه من مسافة صفـــر، ومع ذلك فإنّهم يقدمون على المواجهة والتّحدي، بل ويتنافســـون في أن يكونـــوا أوائل وسبّاقين، ولو كلفهم ذلك حياتهم، وهو غالباً ما يحدث، إذ يقـــوم الإسرائيليّـــون في مكان الحادثة بإطلاق النّار على المهاجم ويقتلونه، ولو كان مصابـــاً فإنّهم يجهزون عليـــه، رغم أنّه أحيانـــاً لا يشكّل خطراً عليهم، ولا يتسبّب في أذى، إلاّ أنّهم يصرّون على قتله، بل على إعدامـــه ميدانيّاً، أو يتركونه إن لم يقتلـــوه فوراً ينزف حتّى الموت، أو يمتنعون عن تقديم المساعـــدة الطبّيـــة له، ويتأخّرون في نقلـــه إلى المستشفـــى، أو ينقلونـــه بطريقةٍ سيّئـــة تعجّل في مقتلـــه.
تحاول وسائل الإعلام الإسرائيليّة تصوير الفلسطينييّن بأنّهم إرهابيّون، وتصفهم بأنهم داعش، يقتلون بوحشيّة، ويطعنون بهمجيّة، ويبطشون بالضّحية، ولا يفرّقون في عملياتهم بين مستوطنٍ وعسكري، وطالبٍ ورجل دين، وأنّهم يتباهون بالسّكاكين والأدوات الحادّة التي يحملونها، ويفاخرون بعملياتهم، ويحضّون الشّباب على القيام بمثلها، والتّنافس فيها، ويرفعون صور منفذيها، ويحتفلون بالشّهداء منهم.
ينسى الإسرائيليّون أنّهم والسّلطة الفلسطينيّـــة ما أبقوا في أيــدي الفلسطينييّن سلاحـــاً يقاتلون به، في الوقت الذي يستفزّونهم ويعتـــدون عليهم، ويدنّسون مسجدهـــم، ويحاولون اقتسام أقصاهم أو السّيطرة على بعض الزّوايـــا فيه، كما أنّهم يعتدون قتلاً وضرباً وإساءة للرّجال والنّساء على السّـــواء، ويقتلون الفلسطينييّن على الشّبهة والهيئــــة والشّكل واللّسان وما يحمل، ثم يستغربون مقاومة الفلسطينييّن ويستنكـــرون غضبتهم، ويرفضـــون انتفاضتهم، ويعترضون على أسلحتهم، ويرفضون ابتكاراتهـــم، ويشكــــّون من نجاحهم وتفوّقهم، وكأنّهم يريدونهم نعاجاً يستسلمون للذّبح، ونوقاً تستنيخ بذلٍ، وما علمــــوا أنّ الفلسطيني حــــرٌ ولو كان سجينـــاً، وثائرٌ ولو كان طفلاً صغيـــــراً، ومقاومٌ ولو لم يكـــن يملك في يـــده غير سكّينٍ تجــــرح، وشوكةٍ توخزُ، وعصاً تضرب وتؤلم. 
------
- كاتب فلسطيني 
moustafa.leddawi@gmail.com