قول على عجل

بقلم
محمود جاء بالله
استبداد ولكن
 منذ أن خلق الله آدم واستخلفه في الأرض جعل له شرعة ومنهاجا قائمين على أساس الاختيار طوعا لا كرها لعبادته سبحانه، يقول تعالى « كُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا» (المائدة 48). لقد تحمّل آدم أمانة الاستخلاف في الأرض بالرغم من جهله بمقتضيات تنزيل وتفعيل هاته الأمانة وبالتالي ظلمه لنفسه، قال تعالى «إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً» (الأحزاب 72)، فكان  أصل الاستخلاف قائما على الاختيار الحرّ وعلى التّحرّر من كلّ ربقة وقيد. ومنذ ذلك العهد بدأ النّزاع والتّطاحن بغية التّسلط وفرض الرّأي والاستبداد. إنّ التّحرر الى الله ورفض القيود أسّس  لثقافة  العباد، عبادة لله وطاعته، داحضة بذلك ثقافة العبيد القائمة على الاستغلال والاستضعاف، وما أمر الله الملائكة بالسّجود لآدم إلاّ إقرارا بمبدأ التّكليف وإعلاء لرسالة الاستخلاف القائمة على أساس التّحرر من كل عبوديّة لغير الله. ومع هذا التّكليف وتحمّل آدم للأمانة بدأ النّزال الأول بينه وبين الشّيطان واستقرّ الأمر على نزول آدم وإبليس الى الأرض ومع هذا النّزول بدأت الرّحلة وبدأ الصّراع بين الخير والشرّ، بين الحقّ والباطل، بين العدل والجور، بين التّحرّر والاسترقاق. ومع ازدياد عدد البشر على وجه هاته البسيطة بدأت تظهر تعقيدات إنجاز رسالة الاستخلاف وتحقيق أمانة التّكليف ومبادئها. لقد كان أساس  بعثة الرّسل  جميعا،  عليهم السلام، تذكير البشر بمقتضيات الأمانة وتجنّب كل مظاهر الاستعلاء والاستكبار والطّغيان، قال تعالى « فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَن تَابَ مَعَكَ وَلا تَطْغَوْا إنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ»(هود 112). إن كثيرا من النّاس من يجنح الى الطّغيان والاستبداد وفرض آرائهم وسلطانهم بدون وجه حقّ وعدم إنفاذ العدل والقسط بين البشر . ضرب الله سبحانه مثل فرعون كسلطة متجبّرة متكبّرة كأبشع صورة للاستبداد والطغيان فقال « اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى» (طه 34). فكان أن تشكّل بهذا المثل، مثل فرعون، المنظومة النّمطية للفساد فصارت بذلك نموذجا تقاس به أشكال الحيف والظّلم. وليس من الغريب أن نجد سيمات المنظومة الفرعونيّة تعاد وتتكرّر مظاهرها على مرّ التّاريخ وفي مختلف المجتمعات، وما كان لهاته المنظومة أن تصاغ في أشكال متنوّعة وتحت مسمّيات متعدّدة الاّ بتوفّر الأسباب المولدة والدّاعمة لها ولعل من أبرزها : 
* تركيز ثقافة الاستعباد بين الناس والمعبّر عنها بقبول الاستخفاف والخنوع  والاستكانة والتّسليم والرّضاء بما يقرّره المستبد والطّاعة المطلقة له، قال تعالى « فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ، إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِين»َ (الزخرف 54)، فما كان لفرعون أن يتكبّر وأن يستبدّ لولا وجود رضوخ وهوان وذلّ لدى قومه ولقد أكّد علماء الاجتماع أنّ طغيان الحكّام تعبير عن ذُل المحكومين. 
* اعتماد سياسة التّفرقة وتقطيع أواصر المجتمع وضرب الّنسيج المجتمعي وإذكاء روح الطّائفية والفوارق الاجتماعيّة وحتّى الجنسيّة  واستعمال كلّ أشكال القمع والتّنكيل لفرض هاته السّياسة تصديقا لقوله تعالى «إنّ فِرْعَوْنَ عَلَا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِّنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ» (القصص 4). إنّ الاستعلاء والاستبداد لا يقومان الاّ على أساس ضرب الرّوابط المجتمعيّة والإنسانيّة وإشعال بوادر الفرقة والانقسام وزرع بذور الفتنة والاقتتال وهذا ما تشهده اليوم كثير من المجتمعات التي تحكمها منظومة مستبدة. 
* تكريس مبدأ الاستعلاء والاستكبار والزّعامة الواحدة واختزال السّلطة في الفرد الواحد، فينتهي الأمر الى دكتاتوريّة وإنشاء هيمنة قاتلة لكلّ نفس تحرّري وإبداعي ولقد عبّر القران الكريم  واصفا نهج فرعون في الاستبداد والانفراد بالرأي بقوله « قَالَ فِرْعَوْنُ مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَى وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشَادِ» (غافر 29). 
* زرع ثقافة التّيه والضّياع في المجتمع البشري وإنماء روح العجز وقصور المبادرة والاستقالة ونشوء سلوك التّبرير والتّهرب من المسؤوليّة وهذا دأب واختيار المستبدّين مع أقوامهم يقول تعالى « وَأَضَلَّ فِرْعَوْنُ قَوْمَهُ وَمَا هَدَىٰ» (طه 79).
* الاجتماع في كتل وأحزاب متفرّقة لا يجمعها الخير، تقطّعوا أمرهم بينهم والكلّ يشيع فرحا زائفا بما لديه والحقيقة أنّهم لا يكسبون شيئا بل هم وقود شعلة الاستبداد، يقول تعالى « فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُم بَيْنَهُمْ زُبُرًا ۖ كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ» (المؤمنون 53) . 
* بناء سياسة استعلائيّة من أعلى الهرم الى أسفله وكلّ  يستعبد من هو أدنى منه في رتب ومواقع تحدّدها المنظومة المستبدّة  إحكاما للسّيطرة وإنفاذا لسلطانها بعيدا عن أيّ شكل من أشكال الانفلات أو التّحرر والانعتاق . 
* إشاعة الفساد في المجتمع بكلّ مظاهره وضرب كلّ القيم فتضيع بذلك مقومات الفضيلة وتعمّ الرّذيله وينخر الفساد كل جوانب الحياة وهو ما ييسّر استمرار منظومة الاستبداد، قال تعالى « وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيِهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللّهُ لاَ يُحِبُّ الفَسَادَ» (البقرة 205) . 
 إنّ منظومة الاستبداد تبنى دوما على أطماع ومصالح فئة صغيرة على حساب مجتمع بأكمله وهي تعمل على تجميع كلّ المقدرات لحماية هاته المصالح وإنفاذ سلطتها استنادا الى أحزمة واقية لها تتّخذ مواقع متعدّدة في المجتمع، فمنها الاقتصادي وموارد الثّروة لتحقيق السيطرة المطلقة ومنها القوة لضمان أمنها ومنها الإعلام والأخبار للتّرويج لصورتها وتلوين وتزيين استبدادها وظلمها وفسادها ومنها صناعة الأتباع والأوصياء الذين يصرفون ويديرون هذه المنظومة. واللاّفت للنّظر اليوم أنّ كثيرا من المجتمعات تعيش الاستبداد في أرقى مظاهره بدءا بمحاصرة لكلّ نفس تحرّري وصولا الى حدّ الاجتثاث واستئصال كلّ من يعارض . 
إنّ توق الشّعوب للتّحرر من كلّ أشكال الاستبداد والاستغلال وإن كان حقّ  مشروع لا نزاع  فيه الاّ أنّه لا يمكن أن يحدث بالوكالة أو بالتّمني أو بالتّخلي عن المسؤوليّة ونحسب أن ما يمكن أن يحقّق هذا الانعتاق وكسر قيود الظّلم :
* بناء رؤية موحّدة تجمع كلّ الأطراف مهما كانت وجهتها دون فرز أو إقصاء يتسابق فيها الجميع نحو الخير، يقول تعالى « كُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ» (البقرة 148) .
*الانخراط الجماعي والفاعل في البناء ومقاومة معاول الهدم دون استقالة، وتعتبر مقاربة «ذو القرنين» أرقى تمشّــي في بناء المنظومة العادلة الذي رفض الخراج والعطاء من قومه لبناء سدّ لعزل منظومة الفساد، المتمثّلة في مجموعة يأجوج ومأجوج، مقابل  استقالتهم، فحرّضهم على الإسهام الإيجابي ومدّ يد العون، قال تعالى « قَالُوا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجًا عَلَىٰ أَن تَجْعَلَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ سَــدًّا* قَالَ مَا مَكَّنِّي فِيــهِ رَبِّي خَيْرٌ فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْمًــا» (الكهف 94-95). 
* منع استنبات منظومة الاستبداد ومقاومة وتحطيم كلّ ركائزها حفاظا على سلامة المجتمعات ونماء الخير .
* إشاعة العدل وبناء دعائمه وإشراك الجميع في المحافظة عليه . 
وخلاصة القول أن الاستبداد والظّلم ما كان لينبت لو لم يجد من يزرعه ويسقيه ويحرص على إنماءه وما كان له ليستمر لو لم يجد حرّاس يقومون على حمايته، وعليه فإنّ أيّ هدم ونسف لهاته المنظومة لا يكون بحركات واهية وتغيير فوقي لا يستأصل شأفة الظّلم والاستبداد بل استنادا على قيم وعمل على تحقيق هذه القيم . يقول أحد علماء الاجتماع « إنّ الثّورات التي لا تستند الى قيم ولا تعمل من أجل تحقيق تلك القيم هي لا تفعل أكثر من تغيير مواضع النّفوذ والاستغلال والاستبداد». إنّ التّغيير العميق الذي لا يقطع مع هذه المنظومة الفاسدة  ولا يجتثها من جذورها لا يفعل أكثر من إعادة صياغتها  وتعليبها في أوعية جديدة ومنمّقة ويعاد التّرويج لها وإيجاد مبرّرات إعادتها ويكون من طردناه بالأمس وأسقطنا عرشه نرجعه محمولا  على الأعناق معتذرين له، مسبحين بحمده وكأن شيئا لم يكن .
------
- مهندس وماستير في التصرف
Jabmoda@gmail.com