الأولى

بقلم
فيصل العش
هل يعود الاستبداد من الباب بعد هروبه من الشبّاك؟
 مقدّمة
بعد أن قطعنا أشواطا كبيرة في عملية الانتقال الديمقراطي وتجاوزنا عقبات كثيرة كانت في طريقنا كادت تعصف بالتّجربة برمّتها، وبالرغم من أنّ الانتخابات أفرزت منذ سنة مجلسا للشّعب ورئيسا للجمهوريّة وحكومة توافق مدعومة من الحزبين الرئيسيّين المتحصلين على أكبر نسبة من الأصوات، فإنّ العديد من التّونسّيين مازال يخشى الارتداد إلى الوراء وخاصّة في مسألة الحريّات والحقوق الأساسيّة للمواطنين ويعتبر أنّ ما حصل وما هو بصدد الحصول إنّما يهيّئ لعودة الاستبداد. فماذا نعني بالاستبداد؟ وما هي تجلّياته؟ وهل يعقل أن يعود الاستبداد ونحن نعيش أجواء ديمقراطيّة لم تعرفها البلاد من قبل؟ وما هي السبل لحماية مكتسباتنا ومنع عودة هذا الدّاء؟ 
من استبداد الحاكم إلى ثقافة الاستبداد
الاستبداد داء إذا أصاب أمّة تركها تتخبّط في ظلمات الفقر والجهل ولم يترك لها سبيلا للتقدّم ولا حتّى مجالا للعيش الآمن لما له من انعكاسات سلبيّة جدّ خطيرة على مناحي الحياة بما فيها الدّين والعلم والمال والأخلاق والتربية والعمران. وقد عرّف الكواكبي الاستبداد بكونه «صفة للحكومة المطلقة العنان، فعلا أوحكما، التي تتصرّف في شؤون الرعيّة كما تشاء بلا خشية حساب ولا عقاب محقّقين»(1) أي أنّه تصرّف الحاكم بمقتضى هواه الشّخصي أوبمقتضى انتمائه العائلي أو الطائفي أو العقائدي، بلا رقيب ومن دون محاسبة من سلط أخرى موازية كالسّلطة التّشريعية والسّلطة القضائيّة والسّلطة الرّابعة (وسائل التّعبير المكتوبة والمسموعة والمرئيّة)، أو من الرّأي العام سواء بشكل مباشر أو عن طريق مؤسّسات تمثّله. ولعلّ قارئ التّاريخ سيكتشف أنّ هذا الدّاء قد استفحل في جسد أمّتنا منذ أن تحوّل الحكم من خلافة راشدة إلى حكم العائلة الواحدة واتّخذ عبر التّاريخ أشكالا متنوّعة، فكان المستبدّ في بعض الأحيان فردا واحدا أو جماعة في شكل طائفة أو مذهب أو حزب واحد وفي أحيان أخرى قائـدا عسكريّــا أو زعيما آل إليه الحكم عبر انقلاب عسكري أو تمرّد أو ثورة.  
والاستبداد داء عضال إذا هيمن على مفاصل الأمّة، تحوّل بمرور الزّمن إلى ثقافة مجتمعيّة تتجلّى تعبيراتها لدى المستبِد والمستبَد به على حدّ سواء. وأدنى هذه التجليات عدم احترام الغير والضّرر بمصالحه قصد تحقيق مصلحة ذاتية وعدم احترام القانون حتّى في أبسط تعبيراته وعدم القيام بالواجب سواء في وظيفة أوتمن عليها أو في خدمة للغير بمقابل. أمّا أعظم تجلّيات هذه الثقافة فتتمثل في إقصاء الآخر الذي هو شريك في الوطن لكنّه مختلف في المذهب أو في الدّين أو في العرق أو في اللّون أو في الفكرة والسعي إلى القضاء عليه بقوّة السّلاح وهو ما يحدث الآن في أماكن عديدة من الوطن العربي. 
ولعلّ البعض يتساءل عن سبب الخوف من عودة الإستبداد بعد أن قصمنا ظهره وأطردنا الطاغية ثمّ نجحنا في تحقيق انتقال ديمقراطيّ وأنجزنا انتخابات نزيهة أفرزت برلمانا منتخبا؟ والجواب أنّ الحاكم حتّى وإن كان منتخبا قد ينزلق نحو الاستبداد ما لم يكن تحت المراقبة الشّديدة والمحاسبة التي لا تسامح فيها. فمن «الأمور المقرّرة طبيعيّا وتاريخيّا أنّه ما من حكومة عادلة تأمن المسؤولية والمؤاخذة بسبب غفلة الأمّة أو التّمكن من إغفالها إلاّ وتُسارع إلى التّلبس بصفة الاستبداد، وبعد أن تتمكّن فيه لا تتركه»(2) ولنا في التاريخ أمثلة عديدة من بينها «أدولف هتلر» الذي وصل إلى سدّة الحكم في ألمانيا عبر الانتخاب، لكنّه سرعان ما استبدّ بالأمر و«أنطونى دى أوليفيرا سالازار» رئيس البرتغال الذي فاز في انتخابات عام 1930 ثمّ أخرس كل الأصوات المعارضة وأقام نظاما استبداديّا صارخا. وبالتالي فلا مجال للإطمئنان ما لم تُبن مؤسّسات الرّقابة وتُمكّن من صلوحيّاتها كاملة لتطبيق القانون وما لم يتمّ القضاء على ثقافة «قابلية الاستبداد» ويرتقي الوعي المجتمعي إلى مستوى يمكّن المجتمع من مراقبة الحاكم ومحاسبته. فالثورة وحدها ليست كافية للإطاحة بالاستبداد، ما لم تكن متبوعة بعملية إصلاح شامل يجتث العوامل التي دعمته.. فصفة الاستبداد «كما تشمل حكومة الفرد المطلق الذي تولّى الحكم بالغلبة والوراثة، تشمل أيضا حكومة الجمع ولو منتخبا لأنّ الاشتراك في الرأي لا يدفع الاستبداد وإنّما قد يعدّله الاختلاف نوعا، وقد يكون عند الاتفاق أضرّ من استبداد الفرد. ويشمل أيضا الحكومة الدستورية المفرق فيها بالكليّة قوة التشريع عن قوة التنفيذ وعن القوة المراقبة لأن الاستبداد لا يرتفع ما لم يكن هناك ارتباط في المسؤولية فيكون المنفذون مسؤولين لدى المشرعين وهؤلاء مسؤولون لدى الأمّة، تلك الأمّة التي تعرف أنّها صاحبة الشأن كلّه وتعرف أن تراقب ...»(3) 
القضاء على الفساد مدخل للتّحرر من الاستبداد
المدخل الرئيسي للقطع مع الإستبداد والقضاء عليه هو محاربة الفساد بمختلف أشكاله (السياسي والقضائي والإداري والاقتصادي) من جهة وفكّ الارتباط بين الاستبداد وثالوث الدّعم المتمثل في الدّين والجهل والمال من جهة ثانية. فأمّا محاربة الفساد فلا أمل في نجاحها ما لم تنطلق من إرادة سياسيّة ثابتة لا تعتبر السّيطرة على الفساد ومقاومته مجرد قضيّة أخلاقيّة وإنّما هي قبل كلّ شيء حاجة ملحّة للإقلاع، فتأخذ على عاتقها المبادرة بالمكافحة ويتجلّى ذلك حين تنطلق في مكافحة الفساد من أعلى قمّة الهرم وليس من أسفله فتبدأ برؤوس الفساد ومنابعه الرّئيسيّة قبل أن تتبّع صغار المفسدين، لأنّ «تنظيف الفساد مثل تنظيف الدّرج.. يبدأ من الأعلى نزولا إلى الأسفل»(4). علينا أن نبني أوّلا نظاما نظيفا تديره حكومة نظيفة، أمّا أن نضع القوانين ونكلّف هيئة لمكافحة الفساد بمهام تنظيف حكومة فاسدة ونظام فاسد فالنتيجة ستكون سلبيّة لا محالة.
فكّ الارتباط بين الاستبداد وثالوت الدّعم « الدّين والجهل والمال» 
لأنّ الدّين هو عصمة أمر هذه الأمّة وبه بنت حضارتها ومنه استمدّت وحدتها وقوّتها، فقد سطى عليه المستبدّون وأفرغوه من مضمونه وحوّلوه إلى مطيّة لطغيانهم وسلاحا يمتشقونه باستمرار في سياق ممارستهم للاستبداد، إمّا من خلال اتّخاذهم لأنفسهم صفة قدسيّة يتشاركون فيها مع الله، فتعطيهم مقاما ذا علاقة معه، وإمّا باتخاذهم بطانة من الفقهاء وأهل الدّين لا يتحدّثون إلاّ عن طاعة أولي الأمر فيعينونهم على ظلم النّاس باسم الله. ويتحوّل الدّين إلى مجرّد طقوس يتعاطاها النّاس كمسكّن لآلامهم وزوايا ومقامات يتبرّكون بها ويفقد بذلك دوره الرئيسيّ في تنوير الإنسان وتحرّره. 
ولهذا فإنّ تحرير الدّين من هيمنة السّلطة سواء كانت سياسيّة أو دينيّة أمرٌ في غاية الأهمّية إذا رغبنا في القضاء على الاستبداد. تحرير يمرّ عبر تجديد الفكر الدّيني فيقطع مع المقولات التي تقزّم دور العقل وتجعل المؤمن أسيرا لأحكام وآراء الفقهاء بالإضافة إلى ضمان استقلالية دور العبادة من خلال تشريك المؤمنين في اختيار من يشرف عليها مع الإبقاء على الدور الرّقابي للدّولة. ولعلّ ما نراه اليوم من صراع على دور العبادة ومحاولة السّلطة الهيمنة عليها إلاّ عنوان لانتكاسة في مسار التّحرر من الاستبداد والقضاء عليه.
الاستبداد والجهل لفقان لا يفترقان بما أنّ المستبد لا يستعبد إلاّ رعيّة حمقاء تسبح في ظلامة الجهل ولهذا يسعى دائما إلى إطفاء نور العلم ومنع كل محاولة إصلاح لمناهج التعلّم والتربية وبالتالي فإنّ الحرب على الاستبداد تمرّ حتما بنشر العلم وتقدير العلماء وتغيير المنظومة التعليميّة التي حكم بها المستبد بمنظومة جديدة عصريّة تجعل من التعلّم هدفا ومسعى لكلّ الناس فإذا علموا وتعلّموا أصبح من العسير التلاعب بمواقفهم واختياراتهم. 
ولأنّ المال قوام الأعمال كما يقولون، فإنّ المستبدّ يعمد إلى السّيطرة على الثّروة فيتحكّم فيها ويصرف جزء منها في تحقيق رغباته وأهوائه وجزء ثان لشراء الذّمم وجزء آخر لإغداقه على أعوانه وعيونه الذين بهم تشتدّ شوكته ويُحمى حكمه. وأمّا أصحاب المال فهم يساعدون على تقوية شوكة الاستبداد ويشاركون فيه باعتبار أنّ قربهم من الحاكم يسهّل عليهم التلاعب بالقوانين ويجعلهم في مأمن من كل التتبعات.
وكلّما حصل تغيير في الحكم واعتلى العرش حاكم جديد إلاّ وأسرع إليه  أصحاب المال للتقرّب منه قصد ضمان مصالحهم وحماية مكتسباتهم. ولقد رأينا في ما رأينا خلال السنوات الفارطة كيف أغدق هؤلاء المال على بعض السّياسيين والأحزاب حتّى تحقّق النّجاح في الانتخابات، وقد كان لهذا المسعى تأثير بالغ على نتائج الانتخابات وموازين القوى في السّاحة السّياسية. ولهذا فإنّ غلق منافذ عودة الاستبداد لا تتمّ إلاّ عبر منع المصاهرة بين المال والسّلطان بمراقبة مسالك تمويل السّياسيين سواء كانوا في الحكم أو في المعارضة وتحديد سقف للتّمويل لا يمكن تجاوزه ومحاسبة صارمة لأصحاب المال لمعرفة مصادر أموالهم عبر إرساء نظام دقيق للمحاسبة لا يأخذ بعين الاعتبار قرب هؤلاء من السّلطة حتّى يعلموا أنّ لا طريق لحماية أموالهم إلاّ طريق الاستثمار المشروع الذي لا يخالف قانونا ولا يجامل سلطةً.  
الخاتمة
لقد رأينا أنّ الاستبداد ثقافة وأنّه يستمدّ قوّته وشوكته من غياب مؤسّسات الرّقابة ومن ضبابيّة دور الدّين والمال في الحياة العامّة، والتّجربة الديمقراطية التي نعيشها اليوم هشّة مازالت في بداياتها ولن يكتب لها النّجاح إذا ما واصلت نخب الحكم والمعارضة افتعال معارك جانبيّة عديدة وتجاهل مواجهة القضايا المحوريّة التي تهمّ الناس. فهذا السلوك  يؤدّي إلى ما نراه اليوم من انسحاب ولامبالاة سائدة بين الجماهير المنهكة ممّا يفقد البلاد أحد الضمانات لعدم انحراف المسار وهو الشعب. ولن تكون البلاد في مأمن من عودة الاستبداد سواء حكمها الثوّار أو القوى المعادية للثّورة ما لم يتمّ فكّ الارتباط بين السّلطة وثنائي « الدّين والمال» من جهة والانطلاق في عمليّة إصلاح جذري للتّربية والتعليم من جهة ثانية بالتّوازي مع إرساء ثقافة تغيّر طريقة تفكيرنا في فهم الأشياء وإدارة الأمور. أمّا عكس ذلك فسيمكّن الاستبداد الذي خرج من الشّباك منذ أعوام قليلة من العودة من الباب متى شاء أن يعود.  
الهوامش
(1) عبدالرحمان الكواكبي، طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد- دار الشروق الطبعة الثانية 2009 - ص23
(2) ن.م صفحة 25
(3) ن.م صفحة 24
(4) «لي كوان يو» رئيس وزراء سنغافورة الذي قاد بلاده إلى الرقي وحوّلها من دولة فقيرة إلى دولة غنيّة ذات اقتصاد متطور والتي استطاعت على مدى عقدين من الزمن أن تنتقل من تصنيفها في الستينيات كواحدة من أسوأ الدول في الفساد، إلى واحدة من أقلّ دول العالم فساداً، وذلك بناءً على تصنيف منظمة الشفافية الدولية.
 -----
- مدير المجلّة
faycalelleuch@gmail.com