قبل الوداع

بقلم
لطفي الدهواثي
هجرة الأحرار
 (1)
كانت دعوة النّبي محمد صلى الله عليه وسلّم في مكّة في بدايتها دعوة للأقربين ولمن يؤمل إسلامهم، وكانت سرّية حذرة لا ترغب في أيّ صدام مع المجتمع المكّي، وحين بدأ انتشارها يزيد وأتباعها يزدادون عددا بدأ أهل مكّة في محاربتها والتضييق عليها وبدأت بوادرصدام حتمي تلوح في الأفق. ولم يكن هذا الصّدام متكافئا ولا كان متبادلا، فقد كان المسلمون مسالمون، لا يرغبون في شيء سوى ممارسة حقّهم الطبيعي في اختيار دينهم وعبادة ربّهم على النّحو الذي أراده منهم، ونشر دعوتهم سلميّا في مجتمعهم وما حوله من قبائل العرب. أمّا قريش فقد كانت تتوجّس من دعوة الرّسول وتستشعر فيها تغييرا جذريّا سوف يطيح بنفوذها بين قبائل العرب ويضرب مصالحها الاقتصاديّة والسياسيّة والاجتماعية في العمق كما أنّ الدّعوة الجديدة سوف تأتي بدين جديد لا أوثان فيه والعرب تمجّد أوثانها وتقدّم لها القرابين وتحجّ إليها حجّا.
حين بدأ الحصار يشتدّ على المسلمين وبدأت الأرض تضيق عليهم ليصبحوا فئة منبوذة يجري تشويهها في كلّ حين وبشتّى أنواع الافتراء، فكر الرسول في فتح مجال جديد للعيش بأمان أمام أتباعه فكانت الهجرة للحبشة فرصة لبعث الطمأنينة في النّفوس وفك الحصار عنها ولو قليلا.  
(2)
لم يكن غرض الرّسول من دعوة أتباعه للسّفر إلى الحبشة إلاّ التّخفيف من معاناتهم وتمكينهم من فضاء أرحب يمكنهم فيه ممارسة حريتهم في المعتقد بدون ضيم ولا إكراه، وليس لقيمة الحرّية في حينه شأنها الذي هي عليه اليوم وذلك ما يزيدنا اعتقادا في كون الرّسول كان داعيا للحقّ بدون إكراه ولكنّه كان شديدا لا يساوم في حقّ أتباعه في امتلاك حرّيتهم وممارستها ولو كان ذلك على حساب الجماعة التي لم يشتدّ عودها بعد.
كانت قريش وما حولها تدرك خطورة المنهج النّبوي في تحرير إرادة النّاس وترك حرّية الاختيار لهم جميعا بدون تمييز في اللّون أو العرق أو الجنس أو الانتماء الطّائفي أو غيره ممّا يفرّق الناس. وكان الرّسول يدرك فيما نعتقد أهمّية الحرّية كمدخل إنساني و عقائدي يدعم به دعوته للتوحيد و ترك ما دونه من الأوهام تدعيما لحق الانسان في الاختيار الحرّ ولو تعلّق الأمر بمسألة غاية في الأهميّة والتعقيد وهي مسألة الايمان بالله أو الكفر به.
(3)
اتّخذت قريش ومن ناصرها من قبائل العرب سبلا شتّى في التّشنيع بالرّسول ومقاومة دعوته الجديدة. ولم تكن تستثنيه من الحرب ومن التشنيع رغم ما كانت تحفظه له من شيم العرب وما عرفته عنه قبل الدّعوة من رفعة الأخلاق وحسن السّريرة والأمانة والمروءة والصدق في القول والعمل، وذلك شأن الاختلاف في المصالح والصراع بين الحقّ والباطل. قالت عن الرّسول بأنّه ساحر وكذّاب ومفتر ومجنون وغير ذلك ممّا كانت تجدّ في ترويجه بين النّاس مع ما كانت تنهجه من نهج التّهكم والسّخرية والمطاردة وغيرها من الأساليب التي لا تقارع الحجّة بالحجّة والبرهان بالبرهان وإنّما تعتمد التّشويه والمغالطة نهجا في إدارة الاختلاف. ولم يكن أمام الرّسول سوى دعوة أتباعه للصّبر والتكتّل ومواصلة ذات النّهج القويم في الدّعوة الى الحقّ بالكلمة الطّيبة والموعظة الحسنة والمخالطة بالمعروف وذلك نهج الأنبياء عامّة في دعوتهم الى الله والى القيم التي أمروا بإرسائها بين النّاس في مجتمعات يغلب عليها ملأ من المناوئين من أصحاب المصالح والنفوذ.
لم تكن قريش ومن معها لتكتفي بالحرب النّفسية والاعلامية ولا بالتّعذيب النّفسي والبدني لأصحاب النّبي وإنّما تدرّجت في ذلك مع اشتداد عود الدّعوة حتى وصل بها الأمر الى حصار المسلمين ودعوتهم حصارا تامّا وعزلهم في شعاب مكّة والامتناع تماما عن أيّ معاملة اجتماعيّة أو اقتصاديّة مهما كان نوعها أو حجمها هو حصار كاد يفتك بالجماعة في سنوات ثلاث هي بحقّ سنوات عجاف لا يشبهها في الرّاهن إلا حصار الفلسطينيّين في غزّة مع بعض الاختلاف.
(4)
لم تثن تلك المكابدة رسولنا ولا أصحابه عن مواصلة ذات النّهج في الدّعوة الى ما عندهم من معتقد وقيم وأفكار، وبذلك استطاع الرّسول أن يُحدث اختراقا كبيرا في أهل يثرب من غير أن يتعجّل الأمر أو يتعسّف فيه لا على أصحابه المهاجرين ولا على أهل المدينة التي أقبل بعض أهلها على دعوته طائعين مؤمنين متحمّسين مدركين لما بعد هذا الايمان من ضريبة قد يدفعونها جميعا كما دفع أهل مكّة من المؤمنين من قبل ضريبة فادحة نتيجة تمسّكهم بحقّهم في التّفكير والمعتقد وحريتهم الكاملة في ممارسة هذا الحقّ.
دخل رسولنا الكريم المدينة كما دخلها صحبه من قبل وسط ترحيب من أهلها وما لبثوا أن عقدوا له لواء الحكم والقيادة مصدّقين مقبلين متحابّين متحمّسين لدينهم الجديد ولكل القيم السّامية التي أتي بها. كانت هجرته هجرة رجل حرّ وهجرة داعية تحرّر وكذلك كان شأن صحبه في هجرتهم من مكّة وغيرها تاركين أموالهم ومنافعهم وكلّ دنياهم ليفرّوا بحرّيتهم التي لا قيمة لحياتهم من دونها وقد أحدثت فيهم الدّعوة الجديدة ثورة عزّ و كرامة وفتحت لهم آفاق العالم . لم تعد مكّة تسعهم ولا صارت المدينة مبلغ ما يريدون وإنّما صارت قاعدة انطلاق لهم جميعا لبناء المجتمع الحرّ الذي آمنوا به وليستكمل الرسول دعوة الحقّ التي أُمر بها برعاية من الله في ما بقي من البعثة وباستلهام تام لمقاصد الدّين و قيمه فيما بقي من الدّهر.