عيون أجنبيّة

بقلم
محمد العشّي
حماية المقدّسات:حركة النهضة الإسلاميّة في تونس و رهان حريّة التعبير
  بما أنّ حركة النّهضة التّونسيّة الإسلاميّة قد تخلّت عن تطلّعاتها الأولى في أسلمة الدولة، فإنّها ركّزت رسالتها الجديدة على الدفاع عن مشروع ثقافي. وينبني ذلك المشروع على تبنّ واضح للهويّة العربيّة الإسلاميّة، ممّا يتضمن موقفا خاصّا من حريّة التّعبير قد تكون خاصيّته الأساسيّة « حماية المقدّسات». إنّها العبارة التي استوحتها النّهضة والتي صدرت في الصيغة الأخيرة للدّستور التّونسي الجديد كما تمّ إقراره في جانفي 2014 من قبل المجلس التأسيسي، وشغل فيه الحزب الإسلامي عددا كبيرا من المقاعد. لقد ضمن الدّستور حريّة التّعبير وما يتبعها من حريّات تتّصل بالضّمير والمعتقد والرأي والفكر والمعلومة والنّشر، غير أنّه في نفس الوقت كلّف الدّولة بحماية المقدّسات والحفاظ عليها. ولم يحدّد الدّستور ما الذي يدخل ضمن المقدّسات، ومن يمكن أن يقرّر بشأن ذلك وما هي الاستتباعات المترتّبة عن مثل تلك الحماية.
ويمكن القول إنّ النّهضة اقترحت على المجتمع خطابا جديدا ومجموعة من القواعد، يكون فيها المواطنون أحرارا في التّعبير عن معتقداتهم الدينيّة، وهذا ما كانوا بوجه من الوجوه محرومين منه تحت النّظام السابق لزين العابدين بن علي ولكنّهم مدعوّون إلى العيش تحت مظلّة دولة تدافع عن القيم الدينيّة. إنّه إقرار لمفهوم خاصّ للهويّة التونسيّة باعتبارها عربيّة إسلاميّة، منتسبة إلى ثقافة أصيلة. وهو نقد لما عُدّ علمانيّة وحداثة غربيّة مفروضة من النّظام السابق كما أنّه يمثّل مجهودا لإدراج الحداثة ضمن مسار عربي إسلامي متميّز.
  ويعتمد هذا المقال على حوارات أنجزت خلال رحلات ميدانيّة في 2013 مع ممثلين شتّى عن النّهضة وسياسيّين من أحزاب علمانيّة منافسة إضافة إلى أدبيّات حزب النّهضة وذلك للبحث في أصول موقف النّهضة من حريّة التعبير وتطوّره. ويقترح أن يُنظر إلى « حماية المقدّسات» على أساس كونها عنصرا هامّا في تطوّر ما بعد الإسلام السياسي post-Islamic evolution للنّهضة، ويذهب إلى أنّ هذا المفهوم صار مفتاح الحركة في  مشروع الأصالة الثّقافيّة.  ويعدّ ذلك جزءا من مسار لا يخلو من التباس لتعيد الحركة تموقعها في الدّيمقراطيّة الناشئة ما بعد 2011. وهو مسار خاضع من جهة لطبيعة المناخ السّياسي ومن جهة أخرى للنّقاشات الداخليّة بين أعضاء الحركة. إنّه لمن موقع دفاعي أن تسعى الحركة إلى ضمّ مختلف وجهات النظر الداخليّة وراء هدف مشترك ومتّفق عليه، وهو علامة تطوّر و تأقلم أن تعيد الحركة رسكلة نفسها في ضوء الحريّات السياسيّة الجديدة المتوفّرة وفي ضوء التّوافقات الجديدة المطلوبة في المسار السّياسي لما بعد الثورة.  
تطوّر ما بعد الإسلام السياسي (أو الإسلام السياسي الجديد)
 ينبثق موقف النّهضة من حريّة التّعبير انطلاقا من سياقين متداخلين. يعود أوّلهما إلى ظاهرة واسعة الامتداد تنعت غالبا بالإسلام السّياسي الجديد post-Islamism. و يمكننا تعريف الإسلام السّياسي بشكل عام بكونه إيديولوجيا سياسيّة تعمل على السّيطرة على الدّولة لفرض نظام إسلامي خاضع لقوانين الشّريعة. ويشمل ذلك مشهدا واسعا يمتدّ من المجموعات الجهاديّة العنيفة إلى المنظمات غير العنيفة السّائدة التي تسعى إلى تحقيق ذلك الهدف عن طريق صندوق الاقتراع. أمّا الإسلام السياسي الجديد فهو محاولة لتوصيف تحوّل الحركات الإسلاميّة  التي تخلّت عن الهدف الأوّل لتتّجه نحو التشكّل في أحزاب اجتماعيّة محافظة تقبل بقواعد النّظام المدني الديمقراطي التعدّدي وتتخلّى عن المطالبة بفرض الشّريعة مع الإبقاء على المرجعيّة الإسلاميّة كمصدر للاستلهام. ويعود سبب هذا التحوّل حسب أولفر روا Olivier Roy إلى أنّ الإسلام السّياسي عجز عن السيطرة على الدولة كما أنّه استنفد حماسته الثوريّة. (...)
  بالنسبة إلى حركة النهضة فقد كان نشوؤها في أواخر السّتينات وبداية السبعينات باعتبارها جماعة دينيّة أخلاقيّة تركّز على الدّعوة والدراسات القرآنيّة. وفي 1981 تبنّت مسارا سياسيّا مميّزا تحت إسم « حركة الاتّجاه الإسلامي» متحدّية النّظام التسلّطي البورقيبي. وممّا هو لافت للنّظر حول الحركة أنّها منذ تلك المرحلة المبكّرة غضّت الطرف عن مسألة تطبيق الشّريعة كمجموعة قوانين مخصوصة وانخرطت في التعدّديّة السّياسيّة، سنوات عدّة قبل غيرها من حركات الإسلام السّياسي في المنطقة. وبعبارة أخرى فإنّ بعض عناصر الإسلام السّياسي الجديد كانت حاضرة لديها منذ مرحلة مبكّرة. وفي برنامجها الأوّل ضمّنت الحركة ما يمكن اعتباره دعوة إلى إقامة الدولة الإسلاميّة وذلك من خلال حرصها على تقديم « صورة معاصرة لنظام الحكم في الإسلام». وفي الأثناء كيّفت الحركة نفسها سريعا مع التوجّه الديمقراطي وعملت في أواخر الثمانينات وفق مقتضيات دولة مدنيّة ديمقراطيّة.(...)
  و باسثناء بعض الحوادث المعزولة فإنّ الحركة تبنّت في مواقفها المعلنة التزاما واضحا بالتوجّه الدّيمقراطي والتحوّل السلمي للسّلطة (من ذلك قبولها بالهزيمة في الانتخابات التشريعيّة لأكتوبر 2014) والتعدّديّة السياسيّة والحريّات. وقد وضع قياديّو الحزب ذلك في إطار المقاصد العليا للشّريعة. (...) وتحوّلت النهضة بذلك إلى حزب محافظ بوضوح يناصر الهويّة والموروث الثقافي و يجعل الأسرة لا الفرد النواة الأساسيّة للمجتمع.(...)
وكثيرا ما تُقارن حركات مثل النهضة- حتى من قِبَل أعضائها- بالأحزاب المسيحيّة الديمقراطيّة الأوروبيّة. ويوجد بالفعل بعض نقاط التّشابه، من ذلك الأهميّة المسندة للمسائل الثّقافيّة والأخلاقيّة (مثل التّربية الدينيّة في المدارس) ومناصرة القيم الليبراليّة الديمقراطيّة والانتماء إلى حركة اجتماعيّة واسعة تشمل الجمعيّات الخيريّة والشبابيّة والتربويّة. غير أنّ هناك نقاط اختلاف أيضا. فالدّيمقراطيّة المسيحيّة نشأت في أوروبا أواخر الأربعينات جزئيّا كمجهود لإنقاذ الكنيسة الكاثوليكيّة بعد الحرب وفي مواجهة للشّيوعيّة والفاشيّة وهو سياق مختلف عن التحوّل التدريجي لبعض حركات الإسلام السياسي. ومن ناحية أخرى فإنّ الديمقراطيّة المسيحيّة تطوّرت وتجسّمت في أحزاب ديمقراطيّة اجتماعيّة في وقت كانت فيه الديانة المسيحيّة في تراجع. وفي المقابل فإنّ مظاهر التديّن في البلدان ذات الأغلبيّة المسلمة مثل تونس هي اليوم أقوى من السابق. وتتبع الأحزاب الديمقراطيّة المسيحيّة سياسة اقتصاديّة تتوسّط ما بين الرأسماليّة والاشتراكيّة في حين أنّ النهضـــة والأحزاب المشابهة لها ( وخصوصا حزب العدالة والتنمية في تركيــــا) تدافع عن حريّة الســوق وعن المشروع الرأسمالــي وتعتمد على قروض صندوق النقد الدولي عوضا عن اقتراح مقاربــــات بديلة. إنّ السياق التاريخي للديمقراطيّة المسيحيّة وللإسلام السياسي الجديد مختلفان بوضوح غير أنّ الجامع بينهما هو المحافظة الثقافيّة.
وقد يكون من المفيد أكثر في الجدل حول الإسلام السّياسي الجديد أن نفسّر الصّعوبات التي وجدتها حركة النّهضة في بلورة برامجها وفق السّياق الديمقراطي لما بعد 2011. إنّ تطوّر الإسلام السّياسي الجديد لا يعني تخلّي الحركة عن التّأثير الإسلامي ولكنّه بالأحرى إعادة صياغة لدور الإسلام، فهي تسعى إلى فرض الهويّة الثّقافيّة الإسلاميّة في صلب الحوار المجتمعي. وقد أثار «روا» هذه النقطة عندما لاحظ أنّ المعايير الدينيّة هي بصدد إعادة التشكّل في شكل قيم محافظة. وذهب إلى أنّ المرجعيّة الدينيّة تحوّلت إلى « أجندا سوسيوثقافيّة» وأنّ إيديولوجيا الإسلام السياسي الجديد لا تمثّل برنامجا للحكم بل «خطابا عاطفيّا وعامّا» ... و في نفس السياق لاحظ «بيات» Bayat أنّ منعرج الإسلام السّياسي الجديد مازال في الغالب غير مجرَّب في علاقته بالحريّات وحقوق الأقليّات وحقوق الجندر وحريّة التفكير والمعتقد ونمط العيش. وقد تمحورت الحوارات داخل النّهضة بعد سقوط نظام بن علي حول المسألة التّالية تحديدا: ماذا يعني أن تتبنّى القيم الدينيّة مرجعا وعلامة على الهويّة الثقافيّة في حين لا يتمّ إدراجها في صيغة قوانين واضحة؟ وبوضوح أكبر طالبت النهضة في بداية 2012 أن يقع التّنصيص في الدّستور الجديد على أن تكون الشّريعة الإسلاميّة مصدرا للتّشريع ثمّ ما لبثت أن تراجعت عن ذلك الطرح معتبرة إيّاه مقسّما للمجتمع في المناخ السّياسي الجديد. و تطوّر تصوّرها للشريعة - كما يُصرّح بذلك الآن - من كونها مجموعة قوانين مسطّرة إلى اعتبارها إطارا موسّعا للاستلهام.
ولكن ماذا يعني استدعاء المرجعيّة الإسلاميّة عندما يتعلّق الأمر بتشكيل تصوّر مجتمعي جديد؟ لقد برزت بسرعة مسائل حريّة التعبير والحدود التي يفترض وضعها لاحترام القيم الدينيّة كمسائل ملحّة.(...)
تنافس الرؤى حول الهويّة
السياق الثاني الذي يعتمده هذا المقال لفهم موقف النهضة من حريّة التعبير هو التنافس التاريخي الذي لم يحسم بعد حول الهويّة الوطنيّة لتونس بين التاريخ العربي الإسلامي لتونس وبين التأثير الغربي الذي مال إليه «بورقيبة» منذ الخمسينات وما بعدها. لقد أكّدت النهضة طويلا على البعد الثقافي في برنامجها باحثة عن الأصالة في مجتمع يُعتقد أنّه مغترب عن ثقافته الأصليّة. وبهذا المعنى يكون دفاع الحركة عن إعادة إدماج المشروع العربي الإسلامي امتدادا لانخراطها في سجال ليس له حلّ حول الهويّة الوطنيّة منذ عهد بورقيبة. وذلك ما سمّاه سامي الزّمني بـ « المعركة السياسيّة على الذاكرة التاريخيّة» وهو نتاج لعقود من التّنافس السّياسي حول النّفوذ السّياسي والرموز والخطاب بين النظام العلماني لبورقيبة و بن علي و بين الحركة الإسلاميّة. وما بعد الثورة لم يعد ثمّة معركة حول النّظام السّياسي بما أنّ الرّؤى حصل فيها إجماع افتراضي ولا بين الإيديولوجيّات السّياسيّة المتنافسة ولكن بالأحرى حول « نمط عيش التّونسيّين» الذي يحدّد ما هو سويّ ومناسب في المعتقد والسلوك في المجتمع التونسي ما بعد 2011. « فالنخبة التونسيّة لا تخوض معركة بين خصوصيّات الأنظمة الإيديولوجيّة وبين تصوّراتها الخاصّة للدّولة بل إنّها بالأحرى تتناقش وتتصارع وتعبّر عن مخاوفها إزاء الحفاظ على أنماط العيش الفردي وإزاء تصوّرها لمفهوم الحريّة في الحاضر» كما عبّرت عن ذلك مليكة الزغل. (...)
النهضة و مسألة حريّة التعبير    
طيلة سنوات القمع التي مارسها بن علي على الإسلاميّين بُعيد انتخابات 1989 اعتبرت النهضة حريّة التعبير مطلبا أساسيّا كغيرها من حركات المعارضة. ومنذ بداية الصدام عطّلت جريدة «الفجر» الناطقة باسم الحزب وأودع مديرها «حمادي الجبالي» السجن وضيّق على النشاط الداخلي للحركة بشكل كبير بين 1990 و2000. وفي سنة 2005 شاركت الحركة جزئيّا في الائتلاف الواسع للمعارضة الذي أطّره الحزب الديمقراطي التقدّمي لتوحيد جهود المعارضة ضدّ النظام بإعلان إضراب جوع مشترك في 18 أكتوبر من نفس السنة. وتمخضت عن الائتلاف «هيئة 18 أكتوبر للحقوق والحريّات» التي أنتجت نصّا في أواخر 2007 يمثّل توافقا بين الأحزاب المشاركة حول تصوّر للمستقبل الديمقراطي لتونس.
ونجد من بين نقاط النّص إضافة إلى حقوق المرأة ومدنيّة الدولة والانتخابات الحرّة النزيهة قسما مفصّلا حول حريّة الرأي والضمير وهي تعكس التزامات طيف واسع من المعارضة يمتدّ من النّهضة إلى وسط اليسار إلى حزب العمّال الشيوعي. والمحصّل أنّه رغم تعارض الحركات المرتبطة بإيديولوجيّات ومرجعيّات مفهوميّة متباينة فإنّها جميعا اتفقت على حريّة الضمير والاختيار الفردي بما في ذلك الحق في عدم الانتساب إلى ديانة والحق في عدم التمييز بسبب المعتقد الديني، وأهميّة احترام الاتفاقيّات الدوليّة حول حريّة الضمير والمعتقد، والاعتراف بمكانة الإسلام في الثقافة التونسيّة، وأهميّة حريّة الرأي والتعبير كحجر الزاوية في مشروع مجتمع ديمقراطي. 
كان هناك تنازلات من اليسار ومن النهضة التي يبدو أنّها بدأت تخطو ببطء في اتجاه التطوّر الإيديولوجي للإسلام السياسي الجديد من خلال التزامها الواضح بالحريّات الفرديّة. ورغم أنّ ذلك الائتلاف المعارض تفكّك منذ 2009، فإنّ النهضة نقلت الكثير من تعهّداته إلى برنامجها الانتخابي لسنة 2011. فقد تبنّى البرنامج بشكل صريح حريّة التعبير والاعتقاد والتفكير والإبداع... ونتيجة الاستقطاب السياسي استهدفت الأحزاب العلمانيّة النهضة واصفة إيّاها بالحركة الإيديولوجيّة التي تعمل خفية على إقامة نظام ثيوقراطي. وردّت النهضة بطريقة دفاعيّة، لكنها اتخذت بوضوح موقفا اجتماعيّا محافظا، آملة أن تضمّ إليها بعض الحلفاء. مثال ذلك ما حصل في 26 جوان 2011 فقد خرجت مظاهرة صغيرة أمام سينما أفريك آرت مندّدة بشريط وثائقي حول العلمانيّة في تونس عنوانه «لا ربي ولا سيدي» ni allah ni maitre ووصفت مخرجة الشريط «ناديا الفاني» نفسها بالملحدة خلال حوار تلفزي. وقد أدانت النهضة العنف المصاحب للمظاهرة غير أنّها وصفت الفاني بـ «الاستفزازيّة».. كما أنّ حمادي الجبالي أوّل رئيس حكومة من النهضة المعروف ببراغماتيّته واجه بشدّة عرض شريط الرّسوم المتحرّكة «برسيبوليس» الإيراني الذي تضمّن مشهدا مجسّما للذّات الإلهيّة . واعتبر ذلك اعتداءا سافرا على المقدّسات وتحريضا استفزازيّا ضدّ أسس الدّين. وأكّد على ضرورة التّمييز بين الحقّ في حريّة التعبير والإبداع وهي حقوق ناضلت من أجلها الحركة ولازالت وبين « التطاول على العقائد والمقدّسات» .
 ويبدو أنّ الحركة أملت أن يكون في تبني مثل هذه المقاربة كسب لتأييد المجموعات الإسلاميّة المحافظة بما في ذلك السلفيّين. وإذا كان السلفيّون قد اصطفّوا وراء النهضة في البداية فإنّهم سرعان ما بدؤوا يعتبرون الحركة غير إسلاميّة بما فيه الكفاية.(...) وبدأت الحركة تخسر بعض الشبّان الحركيّين الذين فضّلوا عليها التيّار السلفي بسبب خطابه العاطفي والأقلّ براغماتيّة والداعي بوضوح إلى دولة إسلاميّة تطبّق الشريعة. 
لقد واجهت النهضة تحدّيات من العلمانيّين ومن السلفيّين على حدّ سواء ممّا جعلها تلتجئ إلى صياغة خطاب أخلاقي محافظ يتّسم بالعموميّة والغموض.
ويبدو أنّ موقف النهضة من حريّة التعبير يعود أيضا إلى قرار توافقي داخل الحركة، فالخطاب العلني يخفي هامشا واسعا من الفوارق في المواقف الشّخصيّة. فحبيب اللّوز مثلا مثّل أكثر المواقف محافظة داخل الحركة. وقد صوّت داخل المجلس التأسيسي أكثر من مرّة ضدّ المواقف الرسميّة للحركة... وفي المقابل تبنّت أطراف أخرى من النهضة في الغالب أكثر شبابا مواقف أكثر مرونة. لقد صرّحت «جوهرة التيس» وهي نائبة عن النّهضة في المجلس التأسيسي في سن 28 أنّها تعارض عقوبة السّجن في قضايا حريّة التعبير، بما في ذلك قضايا مغنّي الرّاب «ولد 15» والمدوّن «جابر الماجري»...
ويمكن إرجاع الاختلاف إلى كون الذين مازالوا يعتبرون النّهضة حركة دعويّة هم أميل إلى اتخاذ المواقف الاجتماعيّة المحافظة في حين نجد الذين يعتبرون النّهضة حركة سياسيّة أكثر استعدادا للتّسويات الإيديولوجيّة.(...)
وقد سعت بعض قيادات النّهضة إلى التّفريق بين النقد الفكري (للدين) وهو عمل مشروع وبين الإساءة أو الثلب وهو ما يعتبر أمرا خطيرا واستفزازيّا. وقد أكّد «زياد العذاري» أحد أعضاء النّهضة في المجلس التأسيسي على ذلك الفارق : نحن نفرّق بين ما نعتبره خطوطا حمراء وما نعتبره نقدا وتأمّلات فكريّة وذلك ضروري جدّا لتحقيق الحريّة في أيّ مجتمع، فإذا تجوّلت في مكتبات تونس فستجد كتب «نيتشة» مثلا. فكلّما تعلّق الأمر بالأفكار الفلسفيّة وبالإنتاج الفكري فالحريّة متاحة. أمّا إذا تحوّل الأمر إلى ثلب النّاس والطعن في سمعتهم وفي حياتهم الشّخصيّة... عندما يُتجاوز نقد الدّين إلى الإساءة إلى معتنقي ذلك الدّين، عندها يجب التّفريق بين الأمرين. (من حوار معه في 01/07/2013) (...) 
حريّة التعبير في الدستور   
انقسم أعضاء المجلس التأسيسي إلى ستّ لجان لصياغة الدستور. ونوقشت مسألة حريّة التعبير في لجنة الحقوق والحريّات وفيها تسعة أعضاء من النهضة من بين 22 عضوا... وقد وقع التّضييق على حريّة التعبير بصفة أشدّ كلّما تقدّمت أشغال الصّياغة. فقد اقترحت الصّيغة الأولى للجنة بتاريخ 25/06/2012 : حريّة التّعبير والإعلام مضمونة ما لم تخلّ بالنّظام العام وبالأخلاق الحميدة (...)
 وفي نسخة أفريل 2013 صارت حريّة التعبير والإعلام مقيّدة بقانون يحمي حقوق الآخرين وسمعتهم وأمنهم وصحّتهم...
  وقد عرض ممثلو النّهضة داخل اللّجنة مواقفهم على واجهتين. الأولى أنّهم أطّروا حريّة التّعبير ضمن التّوجّهات العامّة للإسلام وخاصّة ضمن مقاصد الشّريعة. والثانية أنهم يعتبرون أنفسهم ملزمين باحترام نظرة توافقيّة للهويّة التونسيّة. « لكلّ مواطن الحقّ في التعبير عن أي شيء يفكّر فيه لكن على أن يكون ذلك في إطار توافق يقبله الجميع. فالحريّة يجب أن تكون بنّاءة ولا تخلق الفوضى» كما صرّحت بذلك «منية إبراهيم» ممثلة النّهضة في لجنة الحقوق والحريّات (حوار مع المؤلف في 02/07/2013). وهذا الإطار التّوافقي لم يكن مصدره القانون بل ثقافة المجتمع، حيث تشجّع التربية والإرث الدّيني المشترك على احترام النّاس لبعضهم البعض. كما أكّدت «فريدة العبيدي» رئيسة لجنة الحقوق والحريّات والقياديّة في النهضة والحقوقيّة على أهميّة الإطار التوافقي، وصرّحت أنّ الدستور يجب ألاّ يقتصر على الدفاع عن الحريّات بل عليه أيضا أن يحترم هويّة التونسيين التي حدّدتها بـ «الإسلام والعروبة مع الانفتاح على بقيّة الثقافات والتجارب» (حوار في 04/07/2013)...
  وفي النسخة النهائيّة للدّستور المصادق عليه في جانفي 2014 وقع التّضييق أكثر في الضوابط التي تحدّ من حريّة التّعبير، في صالح التوجّهات العامّة للنّهضة. فالفصل 31 يضمن حريّة الفكر والتعبير والإعلام والنّشر وينصّ على أنّ هذه الحريّات لا تخضع لرقابة مسبقة، غير أنّ الفصل 49 يسمح للقانون بتقييد تلك الحريّات لحماية حقوق الغير أو لمقتضيات النّظام العام أو الدّفاع الوطني أو الصّحة العامّة أو الآداب العامّة، ما دامت تلك الضوابط تراعي التّناسب مع موجباتها والضرورة الدّاعية إليها. وتتكفّل الهيئات القضائيّة بحماية تلك الحقوق والحريّات من أيّ انتهاك. وتتوافق الصيغة النهائيّة مع موقف النهضة، كما أنّها تتلاءم مع بعض وليس كلّ خصومها العلمانيّين.
 وقد تعرّض موقف النّهضة خلال صياغة الدستور إلى إكراهات عديدة أثّرت فيه. فقد كان بعض النواب من خصوم النّهضة يعملون أحيانا على إدراج توافقات وفرض تنازلات تحدّ من تطلّعات النّهضة، بالاعتماد خصوصا على توسيع الضغط الشّعبي لوضع حدّ للمسار الطّويل في صياغة الدستور. 
  ومن الإكراهات التي واجهتها النهضة ردود الفعل الشعبيّة الحادّة ضدّ محاولة إدراج أحكام الشريعة كمصدر من مصادر التشريع والتراخي في التعامل مع مظاهر العنف  الصّادرة عن السّلفيّين.
  يضاف إلى ذلك الخلافات الدّاخليّة صلب النّهضة والتي تتخفّى وراء تصريحات عامّة غامضة، ممّا أجبر الحركة على التقدّم بحذر حفاظا على وحدتها. وفي بعض الأحيان تخرج تلك الخلافات إلى العموم. ومثال ذلك إعداد 16 نائبا في المجلس لتعديل يجرّم الاعتداء على المقدّسات مع تحديد تلك المقدّسات في الله والقرآن والرسول وذلك خلال مناقشة المجلس لفصل حماية حريّة التعبير في الدستور. وقد سحب التعديل قبل التصويت غير أنّ من مسانديه 10 نوّاب من النهضة من بينهم الحبيب اللوز ونجيب مراد أحد أعضاء لجنة الحقوق والحريّات. ومن ناحية أخرى صوّت 17 ممثلا عن النهضة لصالح تعديل لم يحض بالقبول ويدعو إلى إلغاء حماية الدّولة لحريّة الضمير. فالحركة ليست موحّدة بالقدر الذي تدّعيه.
  و تبقى مسألة حماية المقدّسات التي تؤثّر في الحدود المرسومة حول حريّة التعبير. فقد أسندت النّسخة الأولى من الدستور الصادرة في منتصف 2012 دورا للدّولة في حماية الدين ومكّنت الدولة من تجريم كلّ اعتداء على المقدّسات الدينيّة. وأثار ذلك جدلا كبيرا ونقدا انتهى بسحب الصياغة في تنازل مبكّر للنهضة. ومع ذلك فإنّ ممثلي النهضة اعتبروا أنّ المقدّسات مازالت في حاجة إلى الحماية...
  لقد تلقّى هؤلاء نصائح من خبراء أجانب في حقوق الإنسان وفي صياغة الدساتير وجّهوا خطابهم للمجلس وأوضحوا أنّه ليس من اللائق إدراج فصول حول التجريم داخل الدستور، وأنّ ذلك يجب أن يناقش لاحقا ومنفصلا كعقوبات قانونيّة في إطار المجلّة الجزائيّة. وفي الأثناء وجدت صياغة مشابهة سبيلها بالتدريج إلى الوثيقة النهائيّة وإن كانت هذه المرّة تخلو من عنصر التجريم.  ففي أفريل 2013 أعطت نسخة الدستور الحقّ للدولة في «حماية» المقدّسات وفي جانفي 2014 كان حقّ الدولة في منع النّيل من المقدّسات صريحا في الباب الأوّل للدستور (المبادئ العامّة)  قبل الفصل المخصّص للحقوق والحريّات. وقد أدرج ذلك في الفصل السادس المطوّل والملتبس الذي كان موضوعا لتحويرات عدّة وخضع لأكثر من تصويت... وقبل الفصل بـ 152 صوتا بالموافقة منها 69 صوتا لممثلي النهضة. 
وهكذا تطوّرت مواقف النهضة تحت تأثير الضغط الشعبي وعبر المفاوضات مع الخصوم السياسيّين خلال فترة إعداد الدستور. ويبيّن ذلك أنّ مسار تطوّر الإسلام السياسي الجديد لم يحدّده تطوّره الإيديولوجي الداخلي فقط، بل ساهمت فيه التسويات التي اضطرّ إليها من خلال وجوده في الحكومة واضطراره للتفاوض مع الخصم والإجابة عن انتقادات الإعلام... وقد نتج عن تلك التسويات على سبيل المثال الفصل السادس المتّسم بالتعميم والتناقض. فهو يدافع عن حريّة الضمير التي تعني الحق في تغيير القناعات الدينيّة والتعبير عنها بكلّ حريّة، غير أنّه في الأثناء يعطي الدولة نفوذا واسعا لمنع أذى غير محدّد « للمقدّسات» . وهي صياغة من شأنها أن تعطي القضاة والسياسيّين مجالا أوسع عند صياغة الأحكام والقوانين لتقييد التأويلات المتنافسة للدين أو الانتقادات الموجّهة للمعتقد الديني.
-----
- أستاذ وكاتب تونسي
med.echi15@gmail.com