قول على عجل

بقلم
محمود جاء بالله
هجرة وبعد...
 تتتالى السّنوات وتمضي الأزمنة وحالنا نحن الشّعوب العربيّة من نكسة الى نكسة ومن دمار الى دمار. أوضاعنا تزداد تعقيدا، فصرنا ننتظر الضّربات من كلّ موضع ومكان وفي كلّ لحظة وآن، تارة من الدّاخل وطورا من الخارج. مواقفنا تراوح بين مصفّق ومهلّل وبين مستنكر وشاجب وزمرة أخرى تناضل، ومن الغريب والمفحم أن تجدنا نتبادل الأدوار من موضع الى موضع ومن بلد الى آخر، فمن تجده مستنكرا هنا تلقاه مناصرا هناك. اختلطت الأوراق وزاد الإبهام والغموض، فلم نعد ندرك الحقيقة ومواطنها واستعصت علينا الخيارات واستشكلت علينا الطّرق وضاعت عنّا منارات المسالك وصدق فينا حديث الرّسول صلى الله عليه وسلم: « يوشك أن تداعى عليكم الأمم من كلّ أفق كما تداعى الأكلة الى قصعتها، قيل يا رسول الله فمن قلّة يومئذ ؟ قال لا ولكنّكم غثاء كغثاء السّيل يجعل الوهن في قلوبكم وينزع الرّعب من قلوب عدوكم  لحبكم الدّنيا وكراهيتكم الموت» (الرّاوي : ثوبان مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم، المحدث الالباني وخلاصة المحدث: صحيح). 
أصبحنا غثاءا كغثاء السّيل ، تجرّنا السّيول الوافدة من كل حدب الى حيث لا نعلم. هل الى حتف معلوم أم الى مآل مجهول؟
نحن اليوم في مفترق سنتين للهجرة واحدة ماضية واُخرى وافدة، وجب علينا التّوقف عند هذه اللّحظة الزّمنية لنستوعب ما يحدث لنا وما يجري حولنا وعن أيّ معاني للهجرة يمكن الحديث ؟ 
كانت الهجرة لحظة فارقة في تاريخ الأمّة ونقلة نوعيّة لها، وبحادثة الهجرة خرج الرّسول صلى الله عليه وسلم قائدا للأمّة من تغيير الذّات الى تأثيث الواقع، من تكوين الفرد الى بناء المجتمع، من طور التّفكير والتّنظير الى طور التّفعيل والتّشييد. كانت الهجرة نقطة تحوّل في تاريخ الأمّة حيث انتقل الرّسول صلى الله عليه وسلم هو وأصحابه من مكة الى المدينة ولم يتجاوز عدد المسلمين الذين هاجروا في مجملهم ثمانين شخصا . انتقلوا ومعهم الأحلام والرّؤية. انتقلوا من أجل استكمال  مشروع حضاري، بقيادة محمد بن عبدالله، تاركين الأهل والأحباب مفارقين الدّور والأموال ، تحرّكهم إرادة التّغيير وعزيمة البناء وصدق العهد، لنشرالخير للبشريّة جمعاء . كانت هجرة أسّس إثرها الرّسول الكريم عليه السّلام مجتمعا مدنيّا يقوم على قيم العدل والتآخي يدرأ الفتنة ويجمع الجهود والطّاقات لبناء مجتمع السّلم والنماء. إنّ أوّل ما فعل عليه الصّلاة والسلام أن بنى مسجدا جامعا مكانا للقّاء ومؤسّسة لإدارة الشّؤون العامّة والخاصّة لأهل المدينة ثم أصدر عهد المدينة وهو أوّل دستور عرفته البشريّة نظّم بمقتضاه العلاقات بين مختلف الفرقاء وضمن لكلّ حقّه عدلا وإنصافا. 
لقد أدرك الرّسول عليه الصّلاة والسّلام أنّ بناء مجتمع على اختلاف أعراقه وطوائفه لا يمكن أن يكون الاّ بتوافق واع واندماج تامّ في المجتمع المدني للوافدين الجدد والقادمين من مكة، فلم يشعر أهل يثرِب بضيق أو حرج في تقاسم الفضاء مع المهاجرين، فلقد فهموا معنى النّصرة فكان الآخاء خير رابط بينهم. لقد أيقن الرّسول عليه السّلام طبيعة المجتمع المدني وما يتطلّبه من متغيّرات فعمد الى وضع أسس هذه المتغيّرات بغية تحقيقها وبذلك وضع دعامة الدّولة وركّز مبادئ  الحكم الرّشيد ونجمل أهم المتغيّرات التي انتهجها الرّسول الكريم عليه الصلاة والسلام  فيما يلي : 
- المتغير الاجتماعي: حيث آخ بين المهاجرين والأنصار. 
- المتغير الاقتصادي: تم إدماج المهاجرين في النشاط الاقتصادي الموجود بالمدينة. 
- المتغير التكليفي: المهاجرين والأنصار على حدّ سواء كان لهم دور في بناء الدّولة. 
- المتغير الحقوقي: كان إصدار وثيقة المدينة بمثابة الدّستور الذي نظم الحياة المدنية وأعطى كل مكونات مجتمع المدينة حقوقهم. 
تلك هي الخطوات الراقية والحركة التّغييرية التي قادها الرّسول صلى الله عليه في بناء مجتمع الدّولة المدنية . 
اليوم ونحن نودع سنة هجرية ونستقبل أخرى نتساءل عن المحصلة وعن المعاني التي يمكن أن نستقيها من هاته النّقلة الرّاقية والمضيئة في تاريخ الأمة ؟ خاصّة بعد التأكد من أنّه لا هجرة بعد الفتح لقول الحبيب المصطفى. وبالتالي فهجرة الأوطان والفرار منها في زماننا هذا وتركها للناهبين والمستعمرين الجدد يعدّ خيانة ووهن وليس لهاته الهجرة ما يبررها.
إن المتغيرات التي اعتمدها الرسول الكريم عليه السلام في بناء مجتمع متماسك كان اللّبنة الأولى في انتشار دولة الإسلام وتمدّدها وبلوغها أقاصي البلدان وانتشار دين الإسلام بين مختلف الشعوب، لا زالت صالحة وممكن اعتمادها اليوم لرأب الصدع وتجاوز خيبات وتشرذم مجتمعاتنا. نحن اليوم بحاجة الى دعم النّسيج المجتمعي وبحث سبل ترابط وتواصل الشّعوب الإسلامية. 
إن الهجرة الحقيقية المطلوبة اليوم هي هجران مواضع التّردي والتّشرذم وهجران الأفكار المحبطة والتآمرية عَلى الأوطان والشعوب. الهجرة هي إحداث نقلة نوعيّة نحن بحاجة اليها وهي تغيير جوهري في التّفكير والتّخطيط والتّشييد . نحن بحاجة الى هجرة تنقلنا من هاته الأوضاع المزرية ومن وضع الغثاء الى مرتبة الشّعوب الفاعلة والقادرة على تقرير مصيرها وبالتأكيد لدينا كل المقدرات البشريّة والمادية حتى ننجز هاته النقلة.
------
- مهندس وماستير في التصرف
Jabmoda@gmail.com