شخصيات

بقلم
التحرير الإصلاح
عبد الحميد بن باديس
 ضيفنا في هذا العدد هو أحد أبرز روّاد الحركة الإصلاحية في الجزائر،انبرى لمهمة الإصلاح - بما تتضمّنه من اجتهادات وتضحيات وإنجازات - منذ بداية شبابه وكرس بقية حياته من أجلها، بعد أن وقف على ما صنعه الاستعمار بالمجتمع الجزائري وبالشخصية الوطنية. عمل على تحقيق هدفين رئيسيين متكاملين: إصلاح الأوضاع جراء ما فعله الاستعمار والمساهمة في بعث نهضة وطنية قوامها العلم والأخلاق. وبالرغم من أن حياته لم تتجاوز واحد وخمسين سنة، فإنّها كانت زاخرة بالمحطات التي تؤشّر بحقّ لعظمة هذه الشّخصية وعظمة القضيّة التي عاش من أجلها. إنّه الشّيخ الإمام «عبدالحميد بن باديس».
ولد «بن باديس» بمدينة قسنطينة في الحادي عشر من ربيع الثاني من سنة 1307هـ الموافق ليلة الجمعة 4 ديسمبر 1889، ونشأ في أحضان أسرة عريقة في الدّين والعلم والجاه، حيث ترعرع في رحاب القرآن الكريم، فحفظه وهو في الثالثة عشرة من عمره، وتعلّم مبادئ اللّغة العربيّة والعلوم الإسلاميّة في مسقط رأسه ثم شدّ الرّحال مرّتين، الأولى إلى جامع الزّيتونة المعمور ليأخذ العلم عن مشائخه الشيخ محمد الطاهر بن عاشور ومحمد النخلي والقيراوني والبشير صفر والثانية إلى المشرق لتعرّف على بلاد الحجاز والشّام ومصر ويحتكّ برجال الفكر والإصلاح فيها وقد انعكس تأثّره بالمنهج الفكري للشيخ رشيد رضا ونظراته الإصلاحية في مفهومه للإصلاح الذي تحدّد لديه في إرجاع الشيء إلى حالة اعتداله بإزالة ما طرأ عليه من فساد.
آمن «ابن باديس» بأنّ طريق مقاومة المستعمر يبدأ بالتعليم، فعمل على نشر العلم ومحاربة الخرافة ومقاومة الفرق الصّوفية الضالّة التي تعاونت مع المستعمر الفرنسي. فشرع في العمل التّربوي في المساجد والمدارس وقام بتأسيس الكثير من دور العلم والمدارس التي ساهمت بقسط وافر في إيقاظ الهمم وحماية هويّة المجتمع وتكوين رجالات العلم والإصلاح من الذين دشّنوا المسيرة أو الذين استكملوها. وعند وضعه لمناهج التعليم لم يكن مذهبه ينحو نحو نزعة مثاليّة مبنيّة على تصورات نظريّة فحسب، بل كان واقعيا أملته متطلّبات وأوضاع المجتمع حيث يقول في هذا الشأن:«إن أبناءنا هم رجال المستقبل وإهمالهم قضاء على الأمّة إذ يسوسها أمثالهم ويحكم في مصائرها أشباههم، ونحن ينبغي منّا أن نربّي أبناءنا كما علّمنا الإسلام، فإن قصّرنا فلا نلومنّ إلا أنفسنا ولنكن واثقين أنّنا نبني على الماء ما لم نعدّ الأبناء بعدّة الخلق الفاضل والأدب الدّيني الصّحيح».
وكان الإمام «ابن باديس» يحرص في التّعليم على الكيف أكثر من حرصه على الكمّ ويرى التّركيز على الفهم وأعمال الذّهن وتشغيل قوى المخيّلة أفضل من الحرص على شحن الذّاكرة.
وحثّ ابن باديس على تعليم المرأة وإنقاذها ممّا هي فيه من جهل، وفي هذا الشأن يقول:«إذا أردنا أن نكون رجالا فعلينا أن نكون أمّهات، ولا سبيل إلى ذلك إلاّ بتعليم البنات تعليما إسلاميّا وتربيتهنّ تربية إسلاميّة، وإذا تركناهنّ على ما هنّ عليه من الجهل بالدّين فمحال أن نرجو منهنّ أن يكون لنا عظماء الرّجال».
أسّس في 05 ماي 1931م جمعيّة «العلماء المسلمين الجزائريين» التي عمل من خلالها على توحيد الصّفوف لمحاربة المستعمر وحشد الجزائرييّن ضدّها وبثّ الروح الإسلاميّة في النفوس ونشر العلم بين النّاس.
 شخصيّة «ابن باديس» ثرية ومن الصّعوبة الإلمام بكلّ أبعادها وآثارها في حيّز ضيّق من الكتابة، فهو مجدّد ومصلح دعا إلى نهضة المسلمين، وهو عالم فسّر القرآن الكريم كلّه خلال خمس وعشرين سنة في دروسه اليوميّة، كما شرح موطأ مالك خلال هذه الفترة، وهو سياسيّ كتب في المجلاّت والجرائد التي أصدرها عن واقع المسلمين وخاصّة في الجزائر وأهمّها مجلّة «المنتقد» و«الشّهاب» وهاجم فرنسا وأساليبها الاستعماريّة ودعا إلى مؤتمر إسلامي يضمّ التنظيمات السّياسية كافّة من أجل دراسة قضية الجزائر، فاستجابت أكثر التنظيمات لدعوته ونتيجة لهذا المؤتمر تشكّل وفد من العلماء ورجال السياسة سافر إلى فرنسا لعرض مطالب الجزائريين والفاع عن حقوقهم.
إن آثار «ابن باديس» آثار عمليّة قبل أن تكون نظريّة في كتاب أو مؤلَّف، والأجيال التي ربّاها كانت وقود معركة تحرير الجزائر، وقليل من المصلحين في العصر الحديث من أتيحت لهم فرص التّطبيق العملي لمبادئهم كما أتيحت لابن باديس.
انتقل رحمة الله عليه إلى الرّفيق الأعلى ليلة الثّلاثاء الثامن من ربيع الأول سنة 1359 هـ الموافق لـ 16 أبريل 1940 م في مسقط رأسه بمدينة قسنطينة، التي اتخذها في حياته مركزا لنشاطه التّربوي، والإصلاحي، والسّياسي، والصّحافي. وفي يوم تشييعه إلى مثواه الأخير، خرجت مدينة قسنطينة على بكرة أبيها تودّعه الوداع الأخير، كما حضرت وفود عديدة من مختلف جهات القطر الجزائري للمشاركة في تشيع الجنازة، ودفن «ابن باديس» في مقبرة آل باديس الخاصّة في مدينة قسنطينة.