في التنمية البشرية

بقلم
فضيلة الجبلاوي
التسامح المتكامل طريقك نحو الحب و العطاء
 «لاشك أن حياة الإنسان لا تستقيم ولا يكون هناك معنى بدون الحبّ، فبالحبّ خلق الله تعالى الخلق، وبالحبّ أمرهم سبحانه بعبادته وبالحبّ سيكافىء المولى تبارك وتعالى عباده الصالحين.»(1)
التسامح هو أن أكون مرتاح البال، صافي، أشعر بأنّني أحضن الكون وأشعر بمحبّة لكلّ مخلوقات الله فالتّسامح والأخوّة والمحبّة في الله هي من صفات أهل الجنّة وهي أيضا الاعتراف وتقبل ثقافة الآخر المختلف. وللتّسامح  قيمة كبيرة في منهج الإسلام وعقيدة الموحدين، فقد ورد في الحديث: « أَتَدْرُونَ عَلَى مَنْ حُرِّمَتِ النَّارُ ؟»، قَالُوا : اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ ، قَالَ : « عَلَى الَهَيِّنِ، اللِّيِّنِ، السَّهْلِ، الْقَرِيبِ»(2). وقد ثبت علمياً أنّ من أهم صفات الشّخصيّات المضطربة التي تعاني من القلق المزمن هو أنّها لا تعرف التّسامح ولم تجرّب لذّة العفو ونسيان الإساءة. فما هو مفهوم التّسامح ؟ وكيف نصل الى التّسامح المتكامل؟ وماهو تأثير التّسامح على حياتنا؟.
قوة التّسامح ؟؟
التّسامح هو منتهى القوّة وهو أقوى علاج على الإطلاق يمنحنا كلّ ما نبغي ويمكن لأجهزتنا المناعية أن تقوى عندما نتسامح ونصفح. والتسامح هو قرار بإنهاء المعاناة والتّخلي عن اعتقادنا بأنّنا ضحايا، وهو أوّل خطوة نحو الصّفح عن أنفسنا وهو عمليّة مستمّرة تصنع المعجزات وتجعلنا أقرب بكثير الى الله وفي علاقة مباشرة معه ولن ندخل الجنة حتى  نكتسب هذه الصّفة. 
البغضاء حالقة للدّين، مدمّرة للجسم، هادمة للأوطان
يقول صلى الله عليه وسلم : «دَبَّ إِلَيْكُمْ دَاءُ الأُمَمِ قَبْلَكُمْ الْحَسَدُ وَالْبَغْضَاءُ هِىَ الْحَالِقَةُ لاَ أَقُولُ تَحْلِقُ الشَّعْرَ وَلَكِنْ تَحْلِقُ الدِّينَ وَالَّذِى نَفْسِى بِيَدِهِ لاَ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ حَتَّى تُؤْمِنُوا وَلاَ تُؤْمِنُوا حَتَّى تَحَابُّوا أَفَلاَ أُنَبِّئُكُمْ بِمَا يُثَبِّتُ ذَاكُمْ لَكُمْ أَفْشُوا السَّلاَمَ بَيْنَكُمْ» (3)
 البغض طاقة سلبيّة متفجرة ومدمّرة،  تجذب للإنسان كلّ ما هو سلبي ليس فقط القطيعة والعزلة انّما الأمراض وكساد في التجارة ومشاكل في الأسرة وفي العمل... فكلّ طاقة تجذب مثيلاتها والانسان الحامل لمشاعر الكره والبغض لا يعرف الرّاحة ولا السّلام الدّاخلي، فهو في رحلة بحث محمومة كيف يأخذ بثأره ليؤذي الطّرف الآخر. وهنا يجب أن نفرّق بين التّسامح والعفو عن النّاس وبين عدم التّفريط في الحقوق الشّخصية والثوابت الفكريّة والعقائدية، لأنّ من يفرّط في حقوقه يصبح إنسانا سلبيا ولكن الحكمة في أن أسعى للدّفاع عمّا سبق ذكره وأنا في كامل هدوئي واتّزاني النّفسي وأن أسعى دائما للتّفريق والفصل بين الشّخص وسلوكه.وإذا غضبت من شخص ما فلا أهدر طاقتي في الغضب والضيق والحزن. 
لماذا نعجز عن التّسامح؟؟؟
من أهم الأسباب التي تجعل الإنسان عاجزا عن المسامحة هي إعطاء معنى سلبي للفعل الإيجابي عندما نربط سلوك التّسامح (فعل إيجابي) بمعنى سلبي ( التنازل، قلّة الحيلة...) « وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ» (4)  مثال:
-1 الضعف : يعتقد الكثير من النّاس أنّ التّسامح يعدّ ضعفاً، فمعنى أن أتسامح أن أتنازل عن حقوقى وهذا خطأ. 
-2 تقبّل الإهانة : يعتقد البعض أيضاَ أنّ التّسامح مرادف لتقبّل الإهانة من الآخرين والسّكوت على إسائتهم لنا.
-3 نسيان التّجربة : ويعتقد البعض أيضاً أنّ التّسامح يعنى نسيان التّجربة بكاملها وترك الفرصة سانحة أمام الآخرين للنّيل منّا، ولابدّ أن يتغيّر الآخرون ويبادروا بالصلح, وهذا خطأ أيضاً.
مراحل التّسامح المتكامل
التسامح مع الله :
«قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ» (5)
أولى مراحل التّسامح هو طلب السّماح من الله سبحانه وتعالى وذلك عبر التّسامح مع نفسي ومع الآخرين. يقول صلى الله عليه وسلم « من لا يغفر لا يُغفر له» (6) واجتهد أن تصلح علاقتك بالله لأنّ ذلك له تأثير بالغ على مجريات حياتك.
التّسامح مع النّفس :
التّسامح مع النّفس هو أن يتصالح الإنسان مع نفسه ويزيل عن عاتقه آلام الماضي واحباطاته ويبدأ من جديد في رسم خطوات حياته بكل حبّ وعطاء وطلب العون من الله سبحانه ويقول لماضيه «لقد سامحتك وتعلّمت منك..شكرا» ثم يبدأ من جديد مستفيدا من التّجربة، حاملا  ما يكفي من الخبرات والتّجارب المهمّة « كَلا إِنَّ مَعِي رَبِّي سَيَهْدِينِي»(7).
التّسامح مع الوالدين:
التّسامح مع الوالدين مصاحبتهما في الدّنيا بالمعروف والتّقرب الى الله بطاعتهما والبرّ والدعاء لهما وطلب الرحمة والمغفرة لهما، فربّما يكونا قد أخطآ في حقك عن غير قصد، فالعفو والتّسامح ومن ثم الحبّ يعيدنا الى الفطرة السّوية، وفي هذا يقول عليه الصّلاة والسلام: «رغم أنف من أدرك أبويه عند الكبر أحدهما أو كليهما فلم يدخل الجنّة» (8).
التّسامح مع أفراد الأسرة: 
وهنا أذكر قصّة أخوين كانا على الشّاطئ فحدث بينهما موقف جعل الأخ الأكبر يضرب أخاه، فكتب الأخ على الرّمال «لقد ضربتني» ثم بعد فترة تعرّض الأخ الأصغر للغرق، فأسرع إليه أخوه الأكبر وأنقذه، فكتب الأخ الأصغر على الصّخر «لقد أنقذني أخي» وعندما سأله عن سرّ ذلك ردّ عليه قائلا : «لقد كتبت على الرّمال أنّك ضربتني حتّى تجئ الرّياح فتزيلها فأنساها، وكتبت على الصّخر أنّك أنقذتني حتّى لا تمحى أبدا ولا أنساها».
التسامح مع الناس:
لا يستطيع الإنسان أن يعيش بمفرده، لذلك عليه أن يسامح ويغفر لمن أساء اليه. تقبّل غيرك حتى يتقبّلك الآخرون وأعلم أنّ لكلّ شخص عيوبه وتذكّر أن ما تفعله سيعود إليك من نفس النّوع «وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلَا تُحِبُّونَ أَن يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ»(9) فالعفو مظهر من مظاهر حسن الخلق ودليل كمال الإيمان.
التسامح المتكامل طريقك نحو الحب و العطاء
الاتّزان الدّاخلي وراحة البال شيء يطمح إليه الجميع لأنّه يجعل صاحبه يتقبّل نفسه كما هي، فيبلغ الإنسان مرحلة الحكمة والسّعادة التي ستجعله يعيش في الحاضر لا في الماضي وتمكّنه من الوصول والتّعرف على  الذّات الحقيقيّة (الايجابيّة) أي الذّات العليا التي تتميّز بالتّسامح والحبّ الذي يشعّ بكلّ أنواع الخيرات ويمكنّنا من الاستمتاع بالحياة عبر التّواضع وتعلّم الصّبر والعطاء والصّدق والثّقة بالنّفس وحسن التّعامل وبناء علاقات فعّالة تقودنا الى النّجاح والتّميز.
خطوات التسامح
(1) الادراك : يجب أن يعي الانسان أنه يجب أن يكون متسامحا فالادراك يمثل 55 %  
(2) الاستفادة من التجربة: اسأل نفسك بعد كل تجربة ماذا استفدت؟
(3) الاحتفاظ بالمهارات: الدّرس أو القيمة التي خرجت بها من تجربة الخصام.
(4) التخلّص من الأحاسيس السّلبية وبناء مشاعر ايجابية
(5) الفعـــــــل : وهو القرار بالتغيير واكتساب سلوك المسامحة والعفو.
الخاتمة
يحكى أنّ رجلا ذهب الى «سقراط» و قال له : «إنّني أريد أن أسكن معكم في هذه البلدة فما حال النّاس هنا؟» فقال له سقراط : «ماذا عن حال أهل بلدتك التي كنت فيها؟» قال الرّجل : كانوا قوم سوء..فلم أرَ فيهم أحدا يحبّني»، فقال له سقراط : «وأهل هذه القرية مثل أهل قريتك تماما لا يختلفون عنهم في شئ، فارجع الى قريتك أو اذهب الى قرية أخرى غير قريتنا»...
الهوامش
(1)  ابراهيم الفقي
(2)  المعجم الأوسط للطبراني - الحديث عدد 8674
(3)  رواه الترمذي في الجامع - تحفة 3648 - 2510
(4)  سورة الأنعام - الآية 43
(5)  سورة الزمر - الآية 53
(6) رواه البخاري في الأدب المفرد
(7)  سورة الشعراء - الآية 62
(8) صحيح مسلم - الحديث عدد 2551.
(9) سورة النور - الآية 22
-----
- خبيرة التنمية البشرية 
fadhilatounsi30@gmail.com