الإنسان والكون

بقلم
نبيل غربال
الإنسان و السماء - ج11 - تضاريس الفضاء
 المفهوم العلمي للكون (Univers)
حملت كلمتا «كون» و«عالم» المعارف الفلكيّة المعروفة في كل فترة من فترات التّاريخ البشري والمشتركة في موضوع واحد وهو «كلّ ما هو موجود وخاضع للتّصور والإدراك». ولكن وجب توضيح معنى كلمة «كون» أو بالأحرى تتبّع تطوّر المعنى الذي تحمله. لقد تطوّر فعلا مدلول كلمة «كون» إلى أن أخذ المعنى الحديث بمصطلح Univers. 
تدين مقدمات المقاربة العلمية الحديثة للظواهر الطبيعية لابن الهيثم الذي أسّس لمنهجية تقوم على الملاحظة الدّقيقة للظّاهرة المعنيّة بالبحث ومحاولة توفير الظروف الملائمة لإجراء بعض التّجارب لتفسيرها متجاوزا الطّريقة المكتفية بالمنطق العقلي المجرّد والتي اتّبعت منذ الإغريق . تبنّى «جاليلاي» تلك المنهجية وطبقّها على السّماء والأرض منطلقا من فرضيّة أنّ الكون يتكوّن من صنف من مادّة محكومة بقوانين «كونيّة» ثابتة وواحدة في كلّ مكان، (على الأرض وفي السماء) وكل زمان (اليوم و أمس وغد) ويمكن التّعبير عنها بلغة الرّياضيات. 
تحيل هذه الفكرة مباشرة على مفهومين جوهرييّن للتّصور المستحدث عند «غاليلاي» للكون وهما الوحدة والقانون. لكنّ تعريف «جاليلاي» للكون باعتباره وعاءا ليس كافيا لجعله موضوعا للمقاربة العلميّة التي تعتمد على الملاحظة والتجربة ووضع القانون العلمي. فوعاء كلّ الأشياء الفيزيائيّة (الأجرام السّماوية) أي الكون لا يعني بأنّه شيء فيزيائي بالضّرورة من ناحية واعتبار الكون كلّ شيء يجعل القيام بالتّجربة من ضروب المستحيل. صحيح أنّ أرصاد «جاليلاي» جمعت السّماء والأرض بعدما كانتا متمايزتين منذ «أرسطو» وصحيح أن «جاليلاي» قال بأنّ الكون قابل للفهم ويكفي لذلك معرفة لغته والتي حدّدها بالرياضيات، لكن هل يعني ذلك بالضّرورة أنّ الكون بحدّ ذاته شيء فيزيائي قابل للصّياغة الرياضياتيّة مثل الأشياء التي يحتويها؟ فالرّياضيات التي رأى فيها «جاليلاي» اللّغة التي يجب استعمالها لفهم الكون لها القدرة على التّعبير من خلال معادلات على العلاقات بين مجموعة من العناصر الممثلة لظاهرة ما.
تمثّل تلك المعادلة القانون الفيزيائي الذي يمكن إخضاعه للتّجربة والتأكّد من مصداقيته و بالتّالي إمّا قبوله أو رفضه.  ذلك ما قام به «نيوتن» ومعه بدأ يشقّ مفهوم الكون طريقه بثبات أكثر. لم يسلم المفهوم الذي دافع عنه «جاليلاي» عن الكون والذي عمل في إطاره «نيوتن» من انتقادات فلاسفة القرنين 18 و19 إذ اعتبروه ضبابيّا وإشكاليّا، فاعتبار الكون بالنسبة لهؤلاء هو الكلّ الذي يشمل الحقيقة الفيزيائيّة هو اعتبار كاف ليجعله عصيّا عن كلّ مقاربة علميّة ممكنة إذ كيف يمكن مثلا و ضع الكون موضوعا لتجربة؟ إنّ مواصلة تتبّع تطوّر المعارف الفلكيّة والنظريات المتعلّقة بالمادّة والفضاء كفيل بأن يوضّح لنا كيف تطوّر مفهوم الكون، أي كلّ ما هو موجود وقابل للإدراك.
الأرصاد تؤكد الأبعاد الكبيرة للكون
وفعلا، فقد أدى التراكم الكبير للمعلومات عن الأجرام السّماوية إلى المزيد من الصعوبات في تحديد المصطلح القادر على استيعابها في منظومة واحدة. وقد أخذ الإشكال بعدا جديدا عندما دخل المنظار الفلكي كأداة جديدة تعضد بصر الإنسان في بداية القرن 17 مع «غاليلاي». أخذت المناظير الفلكية البصريّة هيأتها النّهائية منذ بداية القرن 19 وذلك بتجهيزها بعدسة قطرها 16 صم في مقدمة المقراب لتجمع الضّوء وتركّزه في بؤرة العينية. قاس «فريدريك  باسل» (1784 – 1846) عام 1838 بُعد النّجم Cygnus  61 في كوكبة الدّجاجة (الكوكبة هي مجموعة من النّجوم تبدو وكأنها مرتبطة ببعضها وتوجد على نفس المسافة وتظهر شكلا مميّزا أسقطت عليه الشّعوب تصوراتها ومعتقداتها ومن تلك التّصورات والمعتقدات استمدت تلك الكوكبات أسماءها مثل كوكبة الدجاجة وكوكبة الدب وكوكبة المرأة المسلسلة غيرها) لأوّل مرة وقدرت المسافة بـ 10 سنوات ضوئية (س.ض.) أي المسافة التي يقطعها الضّوء في عشر سنين بسرعة 300000 كم في الثانية وتقدّر بحوالي مائة ألف مليار كيلومترا وهي نتيجة أكّدت البعد الثّالث الكبير للكون.
يعتبر «باسل» أول من أجرى قياسات دقيقة لمسافة نجم عن الأرض. لم تكن تلك القياسات ممكنة لو لم تتوفر له نظرية عن الضّوء تمكّنه من فكّ شفرة البيانات التّرصدية التي توفّرت لديه . يعتبر الضّوء كما بيّنا سابقا اللّغة الوحيدة التي بإمكان الإنسان التّخاطب بها مع مكونات الكون التي بينت المشاهدات أنّها نجوم بالأساس و أنها بعيدة جدّا. كما لاحظ العلماء أنّ سرعة الضّوء لا تتغيّر مع الاتجاه الذي تأتي منه في الفضاء. وهذا يعني أن الفضاء متجانس الخصائص الفيزيائية.  Isotrope . 
النسبية العامة:
تمثّل نظريّة النّسبية العامّة التي صاغها «اينشتين» عام 1915 تصوّرا جديدا لقوّة الجذب ألثقالي وللمادة والفضاء. فقبل «اينشتين» كان الاعتقاد السّائد أنّه لو تنعدم الأرض والشمس  الكواكب والنجوم وكل أشكال المادّة فلن يبقى من الكون إلاّ فضاء خال من أي جسم. إلاّ أنّ النّسبية تقول أنّ الفضاء والأجرام السّماوية يكوّنان وحدة متكاملة وأنّه لا وجود لفضاء بدون مادّة ولا لمادة بدون فضاء. كما تفترض أن لا وجود لمكان في الكون متميّز عن آخر من حيث الموقع. فمهما كان موقع المشاهد فانّه يرى نفس ما يراه بقية المشاهدين من أي مكان آخر في الفضاء. وهذا يعني أن ليس للفضاء الكوني مركزا اذ يمكن اعتبار كل نقطة فيه مركزا.
الجاذبية عند نيوتن و اينشتين
كما تعتبر النّسبية أنّ الحركة التي تسبّبها الجاذبيّة الثقاليّة لأيّ جسم غير مرتبطة بطبيعته ولا بكتلته كما تقول معادلات «نيوتن». فلو أخذنا مثلا حبّة رمل أو كوكبا مثل الأرض ووضعناهما في موقع ما في الفضاء ليسا بعيدا عن الشّمس وأعطينا لكلّ منهما نفس سرعة الانطلاق فإنّهما سيتحرّكان في المدار نفسه حول الشّمس. لذلك و في إطار المفاهيم الجديدة المؤسّسة للنّسبية العامّة، فإنّ الحركة التي تحدثها الجاذبية لها خاصّية مطلقة أي ليست مرتبطة بكتلة الجسم ويمكن وصفها بطريقة هندسيّة بحتة.
الفضاء محدب
تصف النّسبية العامّة الجاذبيّة الثّقالية على مستوى الأجسام العالية الكتلة كالنّجوم والمجرات وحركاتها السّريعة. تقول النّسبية العامة أنّه لا يمكن لأيّ جسم أن يتحرك كما يشاء في الفضاء. فالفوتونات الضوئية مثلا وهي صاحبة السّرعة القصوى لا يمكن أن تحيد عن المسارات التي تحدّدها كتل الأجرام السّماوية. فعند مرورها بالقرب من جسم ثقيل فإنّها تغيّر اتجاه حركتها. لذلك تقول النّسبية العامّة أنّ الفضاء محدب وتحدبه المادّة التي يحتويها. فالجاذبيّة مظهر من مظاهر بنيّة الفضاء وليست قوّة كما يعرّفها «نيوتن» إنّها توصف باعتبارها تشوّها للزّمكان الذي يتحدّب بتأثير من المادّة التي يحتويها والتي لا تنفصل عنه.
 إنّ المسارات التي تتّبعها الفوتونات الضّوئية هي التي تشي بهندسة الفضاء الخفيّة. فمساراتها تحدّد شبكة من الطرقات المحبوكة بدقّة ونظام يحبسان الأنفاس. فالفضاء الذي يبدو وكأنه فراغ مطلق بين النّجوم هو في حقيقته شبكة غير مرئيّة التّضاريس شبيهة بتضاريس سطح الأرض فهناك «منبسطات» وهناك «مرتفعات» و«منخفضات» ومن المنخفضات ما يكون عمقها كبيرا وأخرى لا قاع لها لو اقتربت منها الفوتونات لابتلعتها و قد سميت لذلك ثقوبا سوداء. 
اينشتين «محافظ»
بينت الحسابات التي أجريت في السنوات 1922-1924 في إطار نظريّة النّسبية العامّة لاينشتين أنّ الكون (ذلك الفضاء-النسيج الذي تحدّد المادّة-الطاقة تضاريسه وهندسته) لا يمكن أن يكون في حالة ثبات كما يقول الاعتقاد السّائد. فهو إمّا في حالة توسّع بفضل قوّة مضادّة للجاذبيّة أو تقلّص تحت تأثير ثقالته. كان «اينشتين» يعتقد في ثبات الكون وقد حرّف معادلاته التي أخرسها عندما أرادت أن تنطق بالحقيقة. لقد أضاف ثابتا كونيّا يعاكس الثّقالة ليحصل على كون سكوني.
نعم «اينشتين» الذي قام بثورة مفهوميّة أصبح معها الفضاء والزمان وحدة موحّدة تسمى الزّمكان وأصبحت المادّة والطاقة شيئا واحدا وغاب بها الفضاء المطلق والزمن المطلق إلى غير رجعة ليحلّ مفهوم الفضاء الذي يمكن أن يتمدّد أو أن يتقلّص مثله مثل الزّمن. نعم «اينشتين» صاحب كلّ تلك المفاهيم يرفض ما تنبؤه به معادلاته الرّياضياتية المعبّرة عن كلّ تلك المفاهيم الثّورية بأنّ الكون لا يمكن أن يكون ثابتا كما بدا للإنسان منذ آدم عليه السّلام، بل يجب أن يكون إمّا في حالة تمدّد أو انهيار على نفسه. إنّه مثال على مقدار تأثير ما استقرّ في أعماق النّفس الإنسانيّة من اعتقادات رسّختها المظاهر الخدّاعة على امتداد آلاف السنين.  
- أستاذ بالجامعة التونسية
ghorbel_nabil@yahoo.fr