في العمق

بقلم
د.لطفي زكري
هل نحن اليوم في وضع تراجيدي؟
 حين نقلب صفحات الأحداث التي يشهدها النّاس في مختلف مناطق العالم، ينتابنا شعور يمتزج فيه اليأس بالأمل والخوف بالأمن بسبب المفارقات الغريبة في الفكر والممارسة. ففي عالم الوفرة تتزايد أعداد الجوعى والفقراء، وبتزايد وسائل الاتّصال وتطورها يزداد الانعزال وينقطع التّواصل حتّى داخل الأسرة الواحدة، وتحت راية الحقّ والقانون ترتكب أفظع الجرائم في الحياة البشرية، وفي سبيل الله يَقتل الإنسان ويُقتل... ولعلّ هذا ما يحملنا على العود إلى ذواتنا متسائلين: من نحن؟ وهل لنا الحقّ في طرح مثل هذا السّؤال؟ وهل بلغ بنا الشّعور بالضّياع حدّا يبرّر السّؤال عن ذواتنا وعن هوياتنا؟ ويبدو أنّ ما يعمّق لدينا الحاجة إلى هذا الاستغراق الاستفهامي هو كثافة الخلط والغموض في توصيف الوضع الذي نعيشه، فهل يكفي أن نعيش أحداثا مأساويّة وكارثيّة حتى نقول أنّنا نعيش عصرا تراجيديّا؟ وهل كان الإغريق الذين أبدعوا التّراجيديا في مثل وضعنا المفارقي؟
إنّنا نبدو في الواقع مائعي الذّات والهويّة بفعل فكر الحداثة الزائفة التي أحاطتنا بظروف مروعة ولا مرئيّة. فهي وضعتنا في ظروف لا مرئية، لأن المقاربة التّقنية والعلميّة التي تكرّسها تقوم عائقا أمام مواجهة المخاطر بدل النّظر في إمكانيّة تحليلها الواقعي، وهي ظروف مروعة لأنّها تجرّد الأشياء من طبيعتها من خلال اختراع أدوات أكثر ترويعا. وهكذا مثلا صارت الحرب مجرّدة من طبيعتها باختراع أسلحة الدّمار الشامل. لذلك نتساءل عن صورة ومعنى التّراجيدي الذي يمكننا أن نتحدث عنه في مثل هذه الحال؟ 
أصل التّراجيديا لدى الإغريق هو «تراغوس» (Tragos) ويعني الأضحية التي كانت تقدّم للإله «ديونيزوس». لكن في واقع الحال لا يتعلق الأمر يقينا بالتّراجيدي الإغريقي القديم، حيث كان الإنسان خاضعا لقهر القدر، بل يتعلّق بتراجيدي تاريخي خالص عبر عنه إنشتاين بقوله: «إنّ قدر رجل العلم اليوم أن يعيش وضعا تراجيديّا، لقد صنع بجهد يكاد يفوق الطّاقة البشريّة أسلحة استعبدته اجتماعيّا ومحقت شخصيته» . ذلك أنّ ما كان يبدو بالأمس مستحيلا صار اليوم ممكنا إن لم نقل ضروريّا. ويمكننا أن نلاحظ إلى أي مدى يمكن لعبارة تراجيدي أن تأتي بصورة عفويّة على ألسنة النّاس في أيامنا حين تواجهنا الكوارث والمآسي. فنحن نتحدث بسهولة عن أحداث تراجيديّة أو حتّى عن تراجيديا أو عن تراجيديّات زماننا لتوصيف أحداث القرن العشرين أو القرن الواحد والعشرين، مثل حروب القرن العشرين أو النظم الكليانية اليمينيّة واليساريّة، والأزمـــــــات الإنسانيــــة الراجعة للعوامل المناخيّة والعوامل الاجتماعيّـــــــــة أو الاقتصادية مثل الفقر وحالات الحرب. ونعتقد أنّنا أجدتنا التّوصيف حين نعتبر تراجيديا ما يسود حياتنا المعاصرة من عنف ودمار وتطهير عرقي تحت عناوين مختلفة (حرب مقدّسة، جهاد، استشهاد، دفاع عن النّفس،...). حتى لكأن التّراجيدي صنوا للمأساوي الباعث على الاستكانة والاستسلام والخنوع وليس شرفا أو استحقاقا يناله البشر الواعي بتناهيه أمام الحضور اللامتناهي للإله.
قد يعدّ تراجيديّا ما أنجز بعنف وسبّب الموت. بيد أنّ هذا الفهم لا يستوفي حقيقة التّراجيدي التي تمتد نحو بعد آخر، ونعني به البعد الذي يجري فيه شيء غير متوقـــع أو لا يمكننا توقعه ويخـــرج عن السّيطرة البشريّة. ولعلّ هذا ما حمل البنيوي الفرنـــسي «رولان بارث» على القول: «عصرنا مثلا مأساوي ومثير للغاية ولكن لا شيء فيه يجعلنا نصفه بالتّراجيدي. إنّ المأساة والإثارة تعاش أمّا التراجيديا تمنح كما هو حال كلّ شأن عظيم». 
إنّ التّراجيدي يحصل من توازن عسير بين الإنساني والإلهي، أو بين السّياسي والدّيني، أي بين الحتميّة التّاريخية للحرّية والمقدّس اللامتزمّن الذي يسجد له البشر. إن الترجيديا تنشأ من هذا التوازن بين حرية الإنسان والسّلطة الدّينية. وإذا كان العصر التّراجيدي عصرا نادرا، فلأنّه يفترض دوما توازنا هشّا بين تأكيد إرادة الفرد البشري والقانون الإلهي الذي يقتضي من هذه الإرادة خضوعا كاملا. ففي عالم ديني لن يكون ثمّة مكان للثّورة، لأنّ الجميع خاضع لسلطة القانون الإلهي. ومن ثمّ لا مكان فيه للتّراجيديا. لكن ينبغي القول عكسيّا أيضا أنّه في عالم يستبعد منه الإله ويحكم بقوانين العقل وحرية الإنسان لن تكون التّراجيديا ممكنة. إنّ التراجيديا الملحدة والعقلانية مستحيلة إذن. ذلك أنه حين يكون كل شيء غامضا، فلا مكان فيه للتّراجيديا، وحين يكون كل شيء عقلانيا فلا مكان فيه للتّراجيديا أيضا. إنّ التراجيديا تنشأ بين الظلّ والنّور وبتقابلهما، على حدّ تعبير الفرنسي ألبار كامو.
يبدو إذن، أنه مشروع لنا أن نتساءل عن شروط إمكان العصر التراجيدي؟ وعما إذا كانت تلك الشروط متحقّقة في عصرنا المفعـــم بالأحداث المأساويّـــة؟ عن هذا التّساؤل يجيبنا المجري الماركسي «جورج لوكــاتش» بأنّه ينبغي على الإله أن يبارح مسرح الحياة البشريّة ليصير مشاهدا. ذاك هو شرط الإمكان التّاريخــي للعصر التّراجيدي. وهو شرط لا يزيح الإله من حياة البشـــر ولا يترك البشــر لإرادتهم المتناهية. ذلك أن الواجب المقدّس والطّموح الديمقراطـــي أو الإلهي والإنسانــي، يمكنهما الدّخول في صراع ومن هذه الصّدمة يمكن للتّراجيديا أن تنشــأ. إنّ المحدّد للوضع التّراجيدي هو الموقع الذي يحتلّه الإله في حياة البشر وباختلاف هذا الموقع يختلف الوضع. ويشدد «لوكاتـــش» على رفعة التّراجيدي مقارنة بالملحمــي والكوميـــدي في علاقة البشر بالإلـــه. فإذا كان  الإله في الوضع التّراجيــدي مشاهدا للفعل البشـــري، فإنّه في الوضع الملحمي يكون مشاركا للبشر في معاركهم، أمّا في الوضع الكوميــدي، فإنه يتركهم لإراداتهم المتناهية.
في المقابل يعترض الفكر الحديث عن كل تقييم للأحداث بعبارات التّراجيدي أو التّراجيديا. إنّ العالم الحديث، أو بالأحرى الفكر الحديث يستبعد أن يكون مخطط الاختبار التّراجيدي هو ذاك الذي يدخله الناس ليتدربوا على معرفة ذواتهم من خلال تجربة الحرّية. فحسب الفكر الحديث، هذا المخطط  يعود إلى التاريخ.
لكن إذا كان التّراجيدي يبدو بعيد المنال عن عصرنا، وإذا كنا نبدو غير جديرين بالاستحقاق التّراجيدي فأيّ وضع نعيشه يا ترى؟ إن استبعاد الإله من حياة البشر لا يترك مكانا للتّراجيديا كما أنّ إشراكه فيها لا يترك للتّراجيديا مكانا. إنّ الوضع التّراجيدي هو الوضع الذي يأتي فيه البشر فعلا جليلا يليق بالحضور الإلهي الشاهد عليه. لذلك يكون البشر في الوضع التراجيدي فوق الركح لتقديم عرض في حضرة الإله المشاهد. أما إقحام الإله في العلاقات بين البشر أو استبعاده منها فليس تراجيديا في شيء. 
إن الاستحقاق التراجيدي لا يعاش بل يمنح، وهو استحقاق لا يمنح إلا لحياة بشرية قادرة على الاضطلاع بالتوازن الضروري بين البشري والإلهي وعلى اجتياز عتبتي تأليه البشر وأنسنة الإله. إن البشر المتأله لا يمكنه تقديم عرض تراجيدي كما أن الإله المؤنسن لا يستحق التضحية التراجيدية. ولا يكون البشر بطلا تراجيديا حين يكف عن الامتعاض والتذمر من المآسي والكوارث، بل يكون كذلك حين يباشرها بكامل الفرح والوعي بحتمية وجوده المتناهي. إن التراجيديا فرحة وشعور بالعظمة والتحرر من قهر التناهي دون السقوط في غرور السيادة الزائفة أو الألوهية المصطنعة. 
-----
- أستاذ تعليم ثانوي
zekri.lotfi@planet.tn