قبل الوداع

بقلم
لطفي الدهواثي
أي إصلاح نريد؟
 من يريد إصلاح شيء لا بدّ له من سابق معرفة بالشيء المراد إصلاحه، كأن يكون مختصّا كامل الاختصاص لا شكّ في معارفه أو أن يعتمد في عملية الإصلاح علي صاحب خبرة، هذا مفهوم بالبداهة .
نحن الآن في خضم سجال دائر منذ مدّة وسيتواصل على المدى القريب، ومدار السّجال إصلاح المنظومة التّربوية إصلاحا آخر بعد محاولات إصلاح سابقة، ولقد أخذت وزارة التّربية على عاتقها القيام بهذه المهمّة الصّعبة وعلى نحو عاجل مستعينة في ذلك بالمعهد العربي لحقوق الإنسان والاتحاد العام التونسي للشّغل، وممّا لا شكّ فيه أنّ هذا الإصلاح يجب أن يتمّ على نحو عاجل بعد وصول أزمة التّعليم إلى ذروتها وتراكم المشاكل ووصول الوضع داخل مؤسّسات التّعليم خاصّة والمناخ التربوي بصورة عامّة إلي حالة تنذر بالخطر وتدعو بإلحاح إلى الذّهاب بسرعة نحو خطّة إنقاذيّة قبل فوات الأوان، غير أنّ الاستعجال لا يجب أن يحول بيننا وبين طرح العديد من الأسئلة ذات العلاقة بعمليّة الإصلاح هذه.
(2)
إنّ مسألة الاختصاص لا بدّ أن تطرح بداهة قبل التّصدي لأيّ عمليّة إصلاح، فهل وزارة التّربية وحدها من يملك اختصاص الإصلاح والإشراف عليه أم إنّ هناك أطرافا أخرى يمكن أن تتدخّل بحكم العلاقة بالشّأن التّربوي أو من منطلق الحرص على هذا الشّأن أو حتي بحكم أنّ هذا الشّأن يهمّ الجميع وأنّ التّعليم موكول له تخريج الأجيال القادمة التي ستشرف على تسيير الدّولة في السّنوات القادمة؟
هل أنّ المجتمع المدني بجميع أطيافه ومشاربه وحساسياته يمكن له المشاركة في هذا الإصلاح عبر هياكل واضحة تتولي إتاحة الفرصة لجميع المهتمين بالشّأن التّربوي والتّنسيق بينهم وتجميع مساهماتهم وصياغتها بشكل توافقيّ يتيح لعمليّة الإصلاح أن تكون أقرب ما يمكن للرّأي العام الممثّل في قوى المجتمع المدني عامّة، كما تتيح للمشرفين على عمليّة الإصلاح الوصول الى أكبر قدر من التّوافق المجتمعي حول مضامين الإصلاح وأهدافه ومواجهة ما يمكن أن ينتج عن هذا الإصلاح من إخلالات بروح المسؤوليّة النّاجمة عن الإجماع بدل الدّخول في مواجهة الرّافضين لمخرجات هذا الإصلاح ممّن وقع استثناؤهم أو الحيف عليهم؟ وهل نحتاج للاستفادة من تجارب الآخرين ومن عثرات الماضي لتصويب المعوج أم أنّنا سنواصل ذات النهج في إسقاط الإصلاحات التّربوية على المناهج والهياكل التّربوية إسقاطا؟ وهل يمكننا الحديث عن إصلاح منظومة مهترئة بمثل ما أصلحناها سابقا وبذات العجلة في المقاربة وفي الأهداف؟
(3)
تشكو مدارسنا ومعاهدنا عامة من اشكالات عديدة ومتراكمة في بنيتها التّحتية ومن تفاوت ملحوظ بين الرّيف والمدينة، وهي بنية منها ما يعود بعضه إلى الاستعمار وإلى سنوات الاستقلال الأولى، ولعلّ اهتراء هذه البنية أحد الدّلائل التي لا تقبل المزايدة على القيمة الحقيقيّة التي كان النّظام السّابق يولّيها للتّعليم وأهله .
تحتاج الكثير من مدارسنا ومعاهدنا إلى تعهّد وإصلاح بصورة عاجلة، كما تحتاج أن تدخل كلّها ضمن المعايير الدّولية المعتمدة في تحديد مواصفات المدرسة العصريّة من ناحيتي الجودة والرفاه اللّتان تتيحان للطّالب الدّراسة في ظروف طيّبة وأن يشعر بآدميتة وهذا أقلّ ما يمكن أن نرجوه من دولة ما انفكت تدّعي احترامها لحقوق الانسان، فهل يعقل مثلا أن تكون القاعات بلا بلّور والسّاحات بلا ظلال؟ وكيف يمكن السّماح مجدّدا بوجود مدارس لا تتوفّر فيها امكانية لقضاء الحاجة البشريّة بيسر ودون خطر التّعرض للأمراض؟
إنّ معيار الجودة سوف يكون شديد الأهميّة في تحديد ماهية أي إصلاح وجدواه ومن ثمّ فلا سبيل للقبول بأيّ مبرّرات تسمح مجدّدا ببقاء هذا التّفاوت البغيض بين الرّيف والمدينة أو تسمح ببقاء الاكتظاظ سمة غالبة على فصول مدارسنا، أو الدّفع بمبرّرات واهية للالتفاف على مجانية التّعليم وجعل الجودة حكرا على القادر مادّيا دون غيره من الفقراء وهم الأغلبية من السّكان المتشبّثين بالتّعليم أملا وحيدا في الخروج بواسطته من ربقة الاستغلال والفقر.
(4)
لا يختلف اثنان في ضرورة الإصلاح ولكن يختلف الجميع في سبل هذا الاصلاح ووسائله وأهدافه وفي القائمين عليه، ويظلّ الاختلاف الأهمّ متعلّقا بالأرضيّة الفكريّة والايديولوجية التي يتنزل ضمنها هذا الإصلاح .
إن الأمر الأهمّ يتعلّق بالمرجعيّة الفكريّة للإصلاح، وهذه الأهميّة لا تأتي من اختلاف المرجعيّات فحسب، فهذا أمر عادي لا تخلو منه المجتمعات الأخرى وإنّما تأتينا من إصرار البعض على جعل الصّراع السّياسي والاديولوجي الفاقد لكلّ معنى والمستهتر بكلّ القيم أساسا لأيّ مقاربة تهمّ شأن المجتمع ما بعد الثّورة، سواء كان هذا الشّأن سياسيّا أو ثقافيّا أو تربويّا. وليس مهمّا عند البعض على قلّتهم ما قد ينجم عن إقصاء فئة من المجتمع وإن تكن أكثر عددا وأصوب حجّة، أو تحميل أمر ما أكثر ممّا يحتمل من التّلبيس والهرطقة التي هي أقرب إلى الزّبد الذي يذهب جفاء، إذ المهم عندهم فقط هو بلوغ أوهام أيديولوجيّة أو تحقيق غايات سياسيّة ولا مشكلة في الوسائل وإن تعلّق الأمر بأعظم شأن وهو الشّأن التّربوي.
إن هؤلاء المهوسين بأوهام الحداثة وهم أبعد ما يكونون عنها، إنّما يريدون تفجير المجتمع من داخله عبر الإيغال به أكثر في دهاليز الصّراع والاغتراب والعدميّة عوض تمكينه من اغتنام الفرصة التّاريخية التي أتاحتها له الثّورة للتصالح مع ذاته ومع الدّولة والحداثة والتّنمية التي تمنح فرصة الإبداع والفعل للجميع.
 .------
- مستشار في الخدمة الإجتماعيّة
lotfidahwathi2@gmail.com