الأولى

بقلم
فيصل العش
إصلاح التعليم، مسار خاطئ ومطبّات في الطريق
 بعد تسلّم الزعيم الحبيب بورقيبة مقاليد الحكم من المستعمر الفرنسي، أعلن عزم حكومته على إصلاح المنظومة التعليميّة باعتباره التحدّي الأكبر والرّهان الأساسي في بناء الدولة وتدعيم النّظام الجمهوري(1) وانطلق في تنفيذ مشروع لإصلاح التّعليم استمرّ نحو عشر سنوات وعرف اختصارا بإصلاح المسعدي نسبة إلى الأستاذ محمود المسعدي كاتب الدولة للتربية آنذاك، لكنّه في الحقيقة كان مشروعا أجنبيّا أعدّه الفرنسي «جان دوبياس» (2) لم ينبع من طبيعة المجتمع وقيمه ولم يأخذ بعين الاعتبار السياق الاجتماعي والثقافي الذي تنزّل فيه ولذلك ولدت المنظومة التّربويّة في تونس عرجاء، لكنّها حقّقت بعض الأهداف التي رسمها أصحابها كارتفاع نسبة التّمدرس وانخفاض نسبة الأميّة وتخريج جيل كفل تَوْنَسَة المؤسّسات والإدارات والمنشآت العموميّة. وبعد الانقلاب على بورقيبة في نوفمبر 1987، شهدت هذه المنظومة عمليات تدمير ممنهج على مدى 23 سنة كاملة تحت مسمّيات الإصلاح التّربوي الذي لم يكن في حقيقة الأمر سوى توظيفا لتصفية حسابات سياسيّة وأيديولوجيّة ومحاولة لتركيع الشّعب واستحماره. 
ولقد كشفت الثّورة التّونسيّة عن سوْءة نظام بن علي وفضحت جرائمه في حقّ المدرسة التّونسية التي تراجع مستواها إلى حدّ مفزع واهترأت منظومتها التربويّة، فانتشر الفساد في جلّ المؤسسات التربوية في البلاد وتعكّر مناخها وتفاقمت ظاهرة الانحطاط القيمي فيها، ممّا تسبّب في تراجع مكانة المربّي الاجتماعيّة وتفشّي مظاهر العنف واللاّمبالاة داخلها. كما تلاعب الدّكتاتور وعصابته، بأجيال من التّونسيّين سواء على مستوى التّكوين أو على مستوى تحقيق أحلام المتخرّجين منهم في الحصول على شغل شريف يتماشى مع الشّهائد العلميّة التي تحصلوا عليها.
ولم تولّ الحكومات المؤقتة بعد الثورة مسألة «إصلاح التعليم» الأهميّة التي تستحق ولم تجعلها في يوم من الأيام من أولويّاتها الأساسيّة بتعلّة أنّ المرحلة الانتقاليّة لها أولويّاتها ولا تتيح مراجعة جذريّة وإصلاحات عميقة للمنظومة التّربويّة ممّا زاد الوضع التعليمي سوءا وعمّق أزمته. وحتّى المحاولات المحتشمة التي قام بها آخر وزير مؤقت للتّربية الأستاذ « فتحي الجرّاي» فقد تمّ وأدها بمجرّد خروجه من مكتبه بالوزارة. 
الوزير الجديد الذي كُلّف في حكومة الصيد بملف التعليم والتّربية رفع شعار الإصلاح واعتبر أنّ أوضاع التعليم لا تسرّ وأنّ التّركة ثقيلة في مجال البنية التّحتية والتّجهيزات والموارد البشريّة، وأنّ المشاكل جمّة في مستوى التّكوين والتّقييم وفي مسالك التّوجيه وفي مخرجات التّربية والتّعليم على وجه العموم، وهو ما يستدعي وضع خطّة شاملة لإصلاح ما فسد(3). ولهذا دعى إلى حوار وطني من أجل إصلاح المنظومة التّربوية تحت قيادة لجنة وطنيّة ضمّت وزارة التّربية والاتحاد العام التونسي للشغل وبعض الجمعيات والمنظمات، مهمّتها الإعداد لإصلاح المنظومة وتيسير مراحل إنجازه وتوفير المجال للأطراف المعنية لتقديم تصوّراتها ومشاريعها ومقترحاتها. فهل سينجح من بيده مقاليد الأمور هذه المرّة في وضع الاستراتيجيّة الملائمة التي تفضي إلى تحقيق الهدف المنشود وهو إرساء منظومة تربويّة قادرة على بناء المواطن التّونسي المتشبّع بقيم العمل والإتقان والابتكار والتّضامن، المسؤول عن نهضة بلاده وتقدّمها؟ أمّ أنّ النتيجة ستكون كسابقاتها مخيبة للآمال، تعمّق الجرح وتعصف بما تبقّى من مكتسبات على قلّتها؟
مسار خاطئ
هناك إجماع يقرّ بوجود أزمة حادّة في المنظومة التربوية ويدعو إلى ضرورة الإصلاح، لكنّ هذا الإجماع لم يفض إلى مسار مشترك يساهم فيه الجميع، منفتح على كل القوى الحيّة في البلاد وقادر على استيعاب كل من يعبّر عن استعداده للمشاركة في هذه العملية الاصلاحيّة. فمنذ البداية طفت على السّطح بين العديد من الأطراف تجاذبات حادّة وظهرت للعيان مطبّات كبرى من شأنها أن تساهم في إفشال أيّة محاولة للإصلاح، سنكتفي في هذا المقال بالتّطرق إلى ثلاث منها:
التسرّع والإرتجال
ما يميّز الخطوة التي قامت بها وزارة التّربية المتمثّلة في الحوار الوطني من أجل إصلاح المنظومة التربويّة، التسرّع والارتجال. فالمدّة التي خصّصت لهذا الحوار قصيرة جدّا (شهران فقط) وهي فترة لا تكفي حتّى لجمع الأطراف التي لها علاقة بهذا الملف. فهل يعقل أن يُنجز حوار يخصّ التّربية والتّعليم في شهرين؟ وهل الهدف منه هو إصدار كتاب مهما كان لونه؟(4) كتاب شكّك الكثير في كونه خلاصة للحوار الوطني لأنّه في تقديرهم جاهز من قبل وسيقع تقديمه لا غير وسيكون لا محالة على مقاس وزير التربية الحالي حاملا في طيّاته خلفيات أيديولوجية واضحة(5). ويتساءل البعض الآخر عن أيّة علاقة تربط هذا الكتاب بنظيره المغربي الذي يحمل نفس الإسم؟ (6) 
الاصطفاف الايديولوجي وإقصاء الخصوم
النقطة الثّانية السّلبية التي ميّزت الحوار الوطني لإصلاح المنظومة التّربوية هي عدم الانفتاح الواسع على مختلف الأطراف التي عبّرت عن رغبتها في المشاركة في الحوار من أجل تقديم مقترحات جدّية لإصلاح المنظومة التعليميّة، فقد تمّ استبعاد العديد من الجمعيات التّربويّة والمنظمات التي لها علاقة بموضوع التّربية والتّعليم (7) وقد شكّلت وزارة التربية هيئة لإدارة الحوار الوطني في مختلف مراحله يرى البعض أنّها «لجنة بلون واحد» تفوح منها رائحة انتماء إيديولوجي معروف (8) وهذا ما جعل العديد من الأطراف تطعن في هذا الحوار باعتباره لم يشمل مختلف التّيارات الفكريّة في البلاد(9).
غياب السند المادّي
يفترض أن يفضي الحوار الوطني إلى وضع خطط عمليّة واضحة لتطبيق التصورات الجديدة للمنظومة التربويّة في جميع جوانبها مثل الفضاءات المدرسيّة والتّجهيزات التّعليميّة والتّنظيمات الإداريّة وطرق التّصرّف في الموارد البشريّة والماليّة، كما يشمل البرامج في مضامينها ووسائلها وطرق تنفيذها وتقييمها، وكيفية الرّفع من منزلة الإطار التّربوي المادّية والمعنويّة. 
إن إصلاحا مثل هذا يفترض تخصيص ميزانيّة معتبرة قادرة على تلبية متطلّباته وهو ما يعني بالنّسبة للمجموعة الوطنيّة تضحيات جسام وتأجيلِ بعض المطالب وتغيير الأولويّات من أجل الاستثمار في الأجيال القادمة. لكن المؤشرات لا توحي بأنّ أصحاب القرار يتّجهون نحو تخصيص الاعتمادات المطلوبة أو حتّى الرفع من ميزانيّة وزارة التربية التي لا تتجاوز 13 % من الميزانية العامّة للدولة (10)  
الخاتمة
إن إصلاح المنظومة التّربويّة يجب أن يكون إصلاحا جذريًّا شاملا لا يعتمد الترقيع ولا التخصيص، ولن يتحقّق هذا الإصلاح إلاّ عبر قرارٍ تشاركيٍ يكون نتاج حوارٍ وطنيٍّ عميق يجمع مختلف الأطراف المتداخلة والمؤثرة في المنظومة التّربويّة من دون إقصاء (الخبراء والمربّين والمشرفين البيداغوجييّن والإداريّين والعملة وأولياء التّلاميذ والتّلاميذ أنفسهم، ومختلف مؤسسات المجتمع المدني...) وينطلق من قراءة سليمة موضوعيّة للمنظومة الحاليّة تحدّد نقاط قوّتها ونقاط ضعفها وترتكز على مناهج علميّة في البحث والتّدقيق من دون عنتريّات بعيدا عن أجواء الشّحن الإيديولوجيّ والتّوظيف السّياسي الحزبيّ. هذا الحوار الوطني لا تشرف عليه وزارة التربية كما هو الحال عندنا اليوم وإنّما «مجلس أعلى للتربية» يتمتع بالاستقلالية الإدارية والمالية عن السّلطة التنفيذيّة، يقع تركيزه ضمن المؤسسات الدستورية ويكون هو المصدر الوطني الرئيسي لمقترحات الإصلاح والتطوير التربوي(11). إنّ إنشاء هذا المجلس لن يحلّ مشكلة المنظومة التربوية في البلاد لكنّ من شأنه أن ينير بداية الطريق نحو إصلاح حقيقي للتربية والتعليم، تتجسّد نتائجه في منظومة تربويّة متكاملة ومتوازنة تغرس في التونسي إرادةَ المعرفة وحبَّ العمل والإبداع وتؤصّل في وجدانه الوعيَ بالمثل العليا للإنسانيّة والمواطنة وتجلّ رجل التعليم والتربية وتبوّءه المكانة التي يستحق. أمّا عدا ذلك فالنتائج معلومة ولن نحصل إلاّ على بعض العمليات التجميليّة والتّرقيعيّة التي لا تسمن ولا تغني من جوع. 
الهوامش
(1) من خطاب الحبيب بورقيبة في حفل اختتام السنة الدراسية 57-1958 بتاريخ 25 جوان 1958 في المدرسة الصادقيّة.
(2) انظر كتاب دراسات في تاريخ التعليم بالبلاد التونسية في الفترة المعاصرة للدكتور علي الزيدي- منشورات منتدى الفارابي للدراسات والبدائل صفاقس 2014.
(3) حوار صحيفة الشروق التونسية مع ناجي جلول في عددها الصادر 17 أفريل 2015.
(4)  أعلن وزير التربية الحالي بأن هناك لجان صلب الوزارة ستعمل على صياغة الكتاب الأبيض الذي سيصدر قريبا ليقدم رؤية لإصلاح المنظومة التربوية - لدى إشرافه على الندوة العلمية حول الإصلاح التربوي التي نظمتها يوم الاحد 30 أوت 2015، جمعية حلول ذكية للتخطيط التنموي والتوازن الاجتماعي بمعتمدية السبالة تحت شعار « نحو مدرسة المواطنة مدرسة النجاح »
(5) انظر على سبيل المثال ما قاله غازي الشواشي، القيادي بالتيار الديمقراطي، في تصريح لـ «آخر خبر أونلاين بتاريخ 28 أفريل 2015) 
(6) http://www.men.gov.ma/curricula/Lists/Pages/livreblanc.aspx
(7) نذكر على سبيل المثال لا الحصر منتدى الفارابي للدراسات والبدائل الذي لديه ما يقدّم في هذا الملف الشائك وهو الذي بادر من قبل بتنظيم ندوة وطنيّة حول الموضوع تحت عنوان «الثورة و المسألة التربوية: إشكاليات وبدائل» وأصدر كتابين في الموضوع، والائتلاف المدني لإصلاح المنظومة التربويّة الذي يضمّ عددا لابأس به من الجمعيات والإطارات التربوية الكفأة
(8) يرأس اللجنة مدير البرامج في وزارة الطيب البكوش (حكومة الغنوشي الأولى) وفي الوزارة الحالية عادل حداد  وضمّت الاتحاد العام التونسي للشغل والمعهد العربي لحقوق الإنسان والهيئة الوطنية للمحامين والرابطة التونسية للدفاع عن حقوق الإنسان والنقابة الوطنية للصحفيين التونسيين والجمعية التونسية للنساء الديمقراطيات وفرع تونس لمنظمة العفو الدولية وجمعية القضاة التونسيين والشبكة الأوروبية المتوسطية لحقوق الإنسان، وهي منظمات تقودها شخصيات لا يشكّ إثنان في الطبيعة اليسارية لانتمائها الايديولوجي
(9) انظر على سبيل المثال ما صرّح به الوزير السابق فتحي الجراي خلال مشاركته في الندوة الاقليمية حول اصلاح المنظومة التربوية بعنوان « اصلاح المنظومة التربوية شان مجتمعي» يوم 17 ماي 2015 والتي نظمتها جمعية المربين بالاشتراك مع مجموعة جمعيات من المجتمع المدني       http://www.jawharafm.net/ar/article/105//28934
(10) تمّ تخصيص نسبة 0.14 % فقط من الميزانية التكميليّة لسنة 2015 لفائدة التربية أي ما يعادل 40 مليون دينار رصدت لصيانة وتجهيز المؤسسات التربوية في حين خصصت اعتمادات إضافيّة قدّرت بـ 306 مليون دينار للمؤسستين الأمنية والعسكرية والديوانة أي بزيادة تقدّر بـ 35% من الميزانيّة الأصليّة لهتين المؤسستين وهذاالرقم يعطي فكرة واضحة عن خيارات الحكومة وأولوياتها. http://www.finances.gov.tn
(11) أنظر على سبيل المثال مقال الدكتور مصدّق الجليدي بعنوان «المجلس الوطني الأعلى للتربية تصور وظيفي وهيكلي»، العدد 18 من مجلّة الإصلاح  بتاريخ 30/11/2012
-------
    - مدير المجلّة
faycalelleuch@gmail.com