رسائل أدبية

بقلم
د.ناجي حجلاوي
عزّوز الجملي: ابتسامة على فم الموت
 ما من شكّ في أنّ التّصدّي إلى معالجة القصيدة الحداثيّة، سواء كانت شعرا موزونا أو قصيدة النّثر يستوجب اتّساعا في الرّؤية الثّقافيّة حيث تتعدّد المداخل لأنّ هذا النّوع من القصائد صعب المراس لا يهب نفسه إلى المتلقّي بسهولة بما تضمّنه من تشظّ في المعنى وتقطّع في أوصال السّهولة اللّغويّة المعتادة إذ تنهض القصيدة الحداثيّة على نموذج غير مسبوق، متوسّلة بالتّعبير لغاية التّصوير. وتوظّف التّعبير والتّصوير لغاية التّأثير. فماهي خيوط القول الشّعري النّاظمة لقصائد «عزّوز الجملي» وإن كانت خفيّة في مجموعته البكر ألعاب المجروح؟
إذا انطلقنا من أولى العتبات المضيئة لهذا العالم وهو العنوان، تسنّى لنا ملاحظة التّركيب الإضافي المعبّر في اللّغة عن أقوى درجات التّعلّق والالتصاق بين المضاف والمضاف إليه. وإذا كان المضاف في هذا التّركيب الجزئي البادي في العنوان قد ورد في صيغة الجمع فإنّ المضاف إليه ورد في صيغة المفرد ومنه بدا اختلال التّوازن البادي في مستوى العدد وقد عدل الشّاعر على صيغة الصّفة المشبّهة المتمثّلة في كلمة الجريح إلى استعمال صيغة اسم المفعول «مجروح» لأنّ الصّيغة الأولى تدلّ على الثّبات على الصّفة والدّيمومة في حين أنّ صيغة اسم المفعول تدلّ على عدم الثّبات وبيان المظلوميّة المسلّطة على الذّات الشّاعرة الّتي جنحت إلى استعمال المفعوليّة، فالمفعول به اليوم قد يكون فاعلا في زمن آت بمقتضى مادّة لعب، الّذي هو لعب فنّي بصفة عامّة وشعري بصفة خاصّة، فللشّعر آلاعيبه القوليّة انزياحا وتشبيها واستعارة ومجازا وإشارة وتلميحا وتخييلا، فما مستويات هذا الجرح الّذي يعانيه الشّاعر من خلال إشارته وعباراته؟ وما النّتائج المنجرّة عن هذا الجرح بمختلف درجاته؟
يبدو أنّ أوّل جرح تعانيه الذّات الشّاعرة هو الجرح النّفسي الّذي يتعاظم بمجرّد الوقوف أمام المرآة حيث تصابع الأصابع وتُزرّر الأزرار فيستحضر الشّاعر حقيقة ماثلة أمام المرآة تتجلّى في ثوب عدوّ خياليّ يصارع في صفحة المرآة هذه الحقيقة من أجل تبديد كلّ حقيقة «حسنًا وحدك الآن تُعانق عدوّك» (ألعاب المجروح، ص1). ويزداد الجرح النّفسي اتّساعا حين يحتدّ الوعي بصاحبه ويشتدّ فيُلقي به هذا الوعي في عوالم التّمزّق والجنون والرّصاص « مزّقني يا شاعرا مجنونْ» (ص2). علما بأنّ المسافة المعنويّة الفاصلة بين الشّعريّة والجنون تكاد تمّحي في أقصى لحظات التّوتّر والانكشاف والجمال والتّجلّي.
والمستوى النّفسي، المشار إليه، علاقة وطيدة بالجرح الثّقافي الذّي يكابده كلّ شاعر باشر هذا العالم بوجدان صادق وعاطفة شفّافة. وقد رمز الشّاعر إلى هذه القضيّة بقصيدة أسماها بالورقة حيث تعكّرت العلاقة معها إلى حدّ الصّراع والانتقام بقول الورقة «سأكون لك قتيلا وقاتلة»(ص2). وإن أحال هذا القتل على القتل المعنوي الّذي يتلذّذ به الصّوفي فناءً يُحقّق فيه حقيقة حياته.
إنّ ضبابيّة الرّؤية الثّقافيّة الجارحة لكيان الشّاعر ووجدانه جعلته يستجير بالسّمكة ويتوسّل إليها عساها تعيره عينا يُبصر بها وهل رأيت عينا تُعار. إنّها العبارة الدّالّة على مأساة الفكر والثّقافة حين يستحيلان إلى شعارات غير خلاّقة لا تُغني روحا ولا تُسمن من جوع الجهل. يقول: «هبيني أيّتها السّمكة مآقيك لأرى العالم جيّدا»(ص3). ودون ذلك يظلّ الشّاعر باردا برود الشّاهدة لأنّ الحياة المُثلى لديه هي حياة المعنى والقيمة الدّاليْن على إنسانيّة الإنسان وفاعليّته في هذا الوجود. ولا أدلّ على ذلك من صرخة الشّاعر المدوّية الثّائرة ضدّ ضيق الثّقافة السّائدة القائمة على التّقليد والاجترار والتّزلّف والمباركة إذ ظلّ يبحث في دأب عن ثقافة أخرى من خلال بحثه عن لغة أخرى «لابُدّ من لغة خارج اللّغة» (ص4).
ومن شأن الثّقافة المُداوية للجراح المحاصرة لقلب الشّاعر أنّها لا توفّر معنى ولا تحقّق إجابة ولا تُغذّي حُلما ولا تشدّ الأجيال إلى المستقبل يقول:«طفل كئيب بلا خُرافة»(ص5). وانظر إلى تمرّد الشّاعر على الأرواح الغبيّة الرّاكنة إلى الجمود والتّقليد عبر الاكتفاء بترديد ما قيل وما عفا عنه الزّمن بأجيال عديدة. يقول: «نُدرِّسُ أولادَنا الشّاعر الميّتْ». (ص13) وكأنّ لا شاعرا من الأحياء يستحقّ أن يكون درسا تجربة تنبض بالحياة وتتدفّق بالينوعة ممّا يكرّس الاحتفال بثقافة الأموات الّتي تنسجم مع أرضيّة ثقافيّة متقادمة.
وفي خضمّ الجُرح الثّقافي يتراءى للدّارس مستوى من الجراح لصيق بالمعاناة الشّعريّة فيتجلّى الجرح داخل الجرح فيكون التّداوي بالتّي كانت هي الدّاء. فلا يدري الشّاعر هل يقول الشّعر ليخفّف من معاناته أم يقوله ليكثّف صدأ القول منذ أن قال الشّعر باكرا فإذا بنا أمام مأساة القطّ آكل لسانه متوهّما أنّ المبرد هو الّذي يجود بالدّسم. 
«الطّفل والشّعر
باكرا
يا بدء الكلامْ
أصدأتَ صدرهْ
باكرا
يا ألظى مقامْ
أطفأتَ جمْرَهْ
باكرا
لماذا باكرا 
يا أوّل الأرحامْ
هيّأتَ قبْرَهْ !»(ص7).
ويتّسع الخرق أكثر فأكثر ليتّسع الجُرح أكثر بتعدّد مستوياته إذ بنا أمام الجرح الكبير الماثل في استبداد دروب ظنّها الشّعر موصلة إلى البلاد وإلى الوطن: 
«يا الجريحُ الجليل
سواء
تمضي أو تقفْ
لا درب يُودِي لأيّ بلدْ
هي ذي ريحُ اللّيل
ثمرةً
ثمرةً
تسلُب الجسدْ
يا النّاعق النّبيلْ
خفِّتْ صوتَكَ
عمقُ الأشياءِ زبدْ» (ص9).
ولقد رمز الشّاعر إلى الوطن الكبير المجروح هو الآخر بالخيمة الّتي من المفروض أن تأوي الجرحى تحتضنهم وتخفّف من آلامهم. أمّا وقد كانت هذه الخيمة تعاني الجراح، فنحن إزاء جريح يشتكي لجريح. «صدر الخيمةِ مازال مجروحا ومفتوحا للرّيع»(ص44). وتُختم مستويات الجرح بآخر هو الأعنف في المكابدة والمعاناة وهو الألم العاطفي البادي في الجوع الأبدي إلى المحبّة والجمال. حيث يمتزج الحبّ بالحرب والفرس بالفريسة والتّعلّق بالجنون كعادة الحبّ العربي منذ نشأته في عرصات الصّحراء. وانظر إلى الشّاعر كيف استقدم القديم وأذابه في أتون الحداثة ولم يستطع الحبّ لديه أن يتخلّص من صروف العذاب والألم.
«فرس فريسة
تسرجك للمقبرهْ،
ذات مساء
من بين كلّ النّساءْ 
تضحك من قبرك امرأهْ» (ص30).
إنّ الشّاعر يعيش في خضمّ هذا البحر حالة من الفوت والضّياع والتّيه الأبدي: «كيف تخلّفتَ يا حُبّي فضيّعتَ الدَّرب». ولقد اتّسم هذا العالم لديه بالصّدود والانغلاق فلا مجال للولوج إليه لأنّ الأبواب في القلب موصودة إلى الأبد بدلا من أبواب السّجن المفتوحة على كلّ الاّتجاهات: « وافتحت أبوابُ السّجن وانغلقت أبواب القلب». وبعد الوقوف على مستويات الجرح في التّجربة الشّعريّة لدى عزّوز الجولي يعنّ للدّارس أن يتساءل عن مستتبعات هذه المستويات؟
إنّ اللاّفت في التّجربة الشّعريّة المريرة المفعمة بضروب الجراح قد أفضت بالشّاعر إلى عبثيّة هي أقرب إلى المغامرة الوجوديّة بدءا بالشّعور الحادّ بضياع المعنى « يستند لساعة بلا حائط بلا... فقط عقارب تشير للزّوال.» (ص10). وكأنّ الحقيقة الّتي بدأت تنبش في وجدان الشّاعر هي حقيقة الموت الّتي ظلّت لغزا محيّرا وإن تعدّدت محاولات الوقوف على أسرارها. ولا غرابة حينئذ أن تتعمّق العبثيّة تدريجيّا لتنفي الفارق بين الأضداد يقول « ستعرف يوما أنّ الحرب والسّلام سواء» (ص11). ومن تجليّات العبثيّة أيضا درجة منها على خطورة بادية في عنوان شديد الإيحاء هو لا جدوى .
«بلا جدوى
سوّدت الوجه واليدين بلا جدوى 
والورقهْ.
الطّريق دوما أخرى
ولا شيء يخيطُ أيّ شيءْ.
اللّحظة الّتي لن تعودَ . لن تعودْ.
في ليل اللّيل
واحدةً واحدةً
بلا صمتٍ أو دويّ
وكما في بئرٍ عميقهْ
تسّاقطُ الإجّاصّة في ممرّ الحديقهْ.» (ص12)
وقد لخّص الشّاعر ملحمة الحياة الآيلة إلى أقصى درجات البرودة موتا وعبثيّة في قصيدة حنّبعل رمز البطولة والانتصار إلاّ أنّه أضحى كما لم يكن. ولا شكّ في أنّه يرى ذاته في مرآة هذا البطل وإلاّ فما جدوى استحضاره والتّمثّل ببطولاته. يقول حنّبعل:
«كم أنارا وجبالا عبرتْ كم ليال على كتفيك 
كم قتلت 
كم هربت الموت
والآن
أخيرا، في أبرد رملْ
يدكْ/ السّيف رغيف النّملْ
كم أنهارا وجبالا
ونهارا
خسرتْ !»(ص17)
ثمّ إنّ الشّاعر الثّائر المكابد للتّناقض البادي في الثّنائيّات حياة/موت، انتصار/هزيمة، شعر/جنون، تمرّد/هزيمة، يؤكّد أنّ الأضدادَ أندادٌ وأنّ الموتَ حياةٌ وأنّ الحياةَ موتٌ يقول:«قوسنا رمسنا»(ص24). ومع ذلك يتعمّق الشّعور بالعبثيّة ويستبدّ اللاّمعنى بالذّات الشّاعرة فتنهال على المتلقّي بالأوامر الّتي تدلّ صيغتها على الاستعلاء والقوّة وتغني دلالتها الهزيمة والانكسار الفأس. يقول:
«كسِّر كأسك واسكُن ... 
صمتَ الأشياءْ
كسّر رمسكَ... 
واسفُر 
في رياح الطّرقات
كَ.سِّـ.رْ.  رَ.أْ.سـَ.كـَ
يا رجلْ،
ما يُجْدي طبْخُ الكلماتْ»(ص26).
ولمّا كان الشّاعر صادقا مع ذاته فإنّ الفارق بين القول والعمل قد اضمحلّ تماما لأنّه يكابد شعره يكتب ما تحسّ ويحسّ ما يكتب، فقد عبّر عن هذه الحقيقة بإحراق هذه المجموعة حرقا مادّيّا يُذكّر بما فعله التّوحيدي إن صحّت القصّة، وهكذا تعانق العبثيّة أقصى درجاتها إذ يتلذّذ الشّاعر بإحراق مشاعره وإنّه ما كان يبخل بضحكاته وهو يروي قصّة الإحراق هذه لأنّه مقتنع سلفا أّنّ» الحياة قصيرة فعلا»(ص27).
إن كان ذلك طوعا كما قصّ حياة كلماته أو كرها كما فارقنا في صمت ودون استئذان معلنا ابتسامة على فم الموت كما صرّح بذلك في قصيدته : من قصيدة جمادى
«أين يمرّ العمرْ ... الابتسامةُ على فم الموت»(ص33).
في زمن استوى فيه اللّقاء بالفراق ... وفي وطن استوت فيه القصيد بالكفن (ص41).
وقد أعلنتَ أيّها الشّاعر متنبّئا بهذا الرّحيل حين صدعتَ بالقول: « خائفا لا لست خائفا...مالي وهذا الكتاب الجميل حين نهار تشتاقني الدّنيا وأشتاق الرّحيل.» (ص55).
وبالفعل فقد رحلتَ وما رحلتَ لأنّك تركت إبداعا وفكرا يشهدان لك بالحياة كما لم يمت المعرّي من قبل وكذلك بشّار والتّوحيدي وطه حسين والشّابي والحدّاد والحليوي والقائمة تطول. فهل من مدّكر؟
  ----------
 -  شاعر وأديب تونسي
hajlaoui.neji@gmail.com