الإنسان والكون

بقلم
نبيل غربال
الانسان والسماء - 9 سرعة الضوء
 وضع إذا «ماكسويل»، العام 1865، قوانين الكهربية والمغناطيسية في إطار نظري موحّد من خلال المعادلات التي أصبحت مشهورة باسمه وقدّم التّفسير العلمي لحقيقة الضّوء كتذبذبات لمجال كهربي ومغناطيسي. وقد ظهرت في معادلاته سرعة الضّوء التي يرمز لها بالحرف «c» . تمثل سرعة الضّوء ظاهرة طبيعيّة مراوغة باعتبار طبيعة الضّوء المراوغة في حدّ ذاتها، فهي تارة تموجيّة و تارة أخرى جسيميّة. 
عودة لابن الهيثم
سبق و أن تعرّضنا إلى سرعة الضّوء عند «ابن الهيثم» الذي قال بمحدوديتها. ونستدل هنا بما يقول في كتابه الشّهير (المناظر) :  «انّه طالما أنّ للضّوء وجودا في ذاته، و أنّ صورته يقبلها الجسم المشفّ قبول تأدية من مكان إلى آخر، فانّ انتقال الضّوء في الوسط المشف لا يكون آنيّا، أي دفعة واحدة وفي غير زمان، بل يستغرق زمانا محدودا بسرعة محدّدة، ويستدل على ذلك بوصول الضّوء من المنافذ والثّقوب التي يدخل منها إلى الأجسام المقابلة للمنافذ والثّقوب... إذا كان الثّقب مستترا، ثم رفع السّتار، فوصول الضّوء من الثّقب إلى الجسم المقابل، ليس يكون إلاّ في زمان، وإن كان خفيّا على الحسّ» ويضيف «إنّ مصدر الضّوء من الثّقب إلى الجسم المقابل ليس يخلو من أحد أمرين :  إمّا أن يكون الضّوء يحصل على الجزء من الهواء الذي يلي الثّقب قبل أن يحصل في الجزء الذي يليه، ثمّ في الجزء الذي يلي ذلك الجزء من الهواء إلى أن يصل إلى الجسم المقابل للثقب، وإمّا أن يكون الضّوء، يحصل في جميع الهواء المتوسّط بين الثّقب وبين الجسم المقابل للثقب، وعلى الجسم نفسه المقابل للثّقب دفعة واحدة، ويكون جميع الهواء يقبل الضّوء دفعة واحدة لا جزءا منه بعد جزء. فإذا كان الهواء يقبل الضّوء جزءا بعد جزء، فالضّوء إنّما يصل إلى الجسم المقابل بحركة، والحركة ليست تكون إلاّ في زمان. وإن كان الهواء يقبل الضّوء دفعة واحدة، فإنّ حصول الضّوء في الهواء بعد أن لم يكن فيه ضوء، ليس يكون إلاّ في زمان، وإن خفي عن الحسّ. ويقوم هذا الأمر الأخير على أساس أنّ رفع السّاتر عن الثّقب يستغرق زمانا، وأنّ السّاتر لا ينكشف عن شيء من الثّقب له مساحة إلاّ في زمان، وأنّه ليس يصير من الهواء الذي في خارج الثّقب إلى الهواء الذي في داخل الثّقب إلاّ في زمان» (1). و يستدل من هذه النّصوص على أنّ «ابن الهيثم» أثبت كيفيّا أنّ للضّوء زمانا و سرعة معيّنة إلاّ أنّه لم ينجح في تجاربه التي أجراها في نهاية الألفية الميلاديّة الأولى وبداية الثّانية من تحديد سرعة الضّوء باعتبار السّرعة الفائقة التي تميّزه.
الاستنجاد بالظواهر الفلكية
وتعتبر تجربة «أوول رومر» (1644 – 1710) لتحديد تلك السّرعة رائدة باعتبار اعتمادها على ظاهرة فلكيّة. راقب «رومر» خسوف القمر «أيو» أقرب التوابع لكوكب المشتري ولاحظ أن زمن دورته حول المشتري تبدو أقصر أثناء اقتراب الأرض من المشتري وتبدو أطول أثناء الابتعاد. فالفترة الزمنيّة بين رؤية خسوفين متتاليين لايو ليست ثابتة، وبربط ذلك بالمسافة المتغيّرة بين الأرض والمشتري استطاع أن يبيّن أن سرعة الضّوء محدودة و توصّل إلى القيمة 220000 كلم/ث وذلك عام 1676 م. أصبح للإنسان منذ ذلك الوقت دليلا فلكيّا على أنّ الضّوء الصّادر عن الشّمس أو أيّ جرم آخر لا يصل إلى أعيننا آنيّا بل يتحرّك بسرعة محدّدة.  
تجربة مايكلسن التاريخية
تعتبر التجارب المخبرية لتحديد مقدار تلك السّرعة أعمالا جبّارة لصعوبة تمثّل الضّوء وما ينجرّ عن ذلك من صعوبة لإنجاز التّجربة القادرة على  حلّ المسالة. وقد تعدّدت التجارب في القرن التّاسع عشر لتقرّر الحقيقة العلميّة بأنّ للضّوء سرعة محدّدة مهما كانت طبيعة مصدره. ومن أهمّها تلك التي استطاع بواسطتها العالم «البارت مايكلسن» (1852 – 1931) في بداية الثّمانينات من القرن 19 التّوصل إلى مقدار دقيق وهو 940 299  كم/ث قريب جدّا من السّرعة التي لدينا الآن وهي  792 299  كم/ث. انطلق «مايكلسن» من قناعة يشاركه فيها أغلب علماء عصره وهي وجود مادّة تملأ الكون وذات طبيعة مجهولة تسمّى «الأثير» بفضلها يستطيع الضّوء أن ينتشر وأنّ الضّوء بحكم طبيعته التّموجيّة يخضع لظاهرة التّداخل. فعندما تتحرّك الأرض في الأثير في اتّجاه معيّن فإنّها سـ «تحسّ» بـ «ريح أثيريّة» كتلك الرّيح التي نحسّ بها عند امتطائنا درّاجة أو عربة و يكون اتّجاه الرّيح تلك معاكسا لاتّجاه حركة الأرض. ونتيجة لذلك ينتظر أن يكون هناك فارق في السّرعة بين شعاع ضوئي آت للأرض في اتّجاه حركتها حيث سيكبح قليلا بالأثير وآخر في الاتّجاه العمودي عليه ولم يعطل حركته شيئا. ابتكر «مايكلسن» جهازا دقيقا، مازال يستعمل ليومنا هذا، قادر على قياس ذلك الفارق في السّرعة من خلال تسجيل التّداخل المنتظر بين أمواج الأشعّة الضوئيّة التي تسقط على الأرض في اتّجاهين متعامدين. ظهرت ظاهرة التّداخل التي وقع التّنبؤ بها مسبقا ولكن ليس بالقدر الذي كان منتظرا. فهل كانت سرعة «الرّيح الأثيرية» منعدمة في المكان الذي أُجري فيه الاختبار؟ لم يكن العلماء مستعدين بعد للتّنازل عن الاعتقاد بوجود الأثير وحاولوا جاهدين فهم ما وقع. قال البعض بأنّ الأرض تحمل حولها كرة عملاقة من الأثير وهو افتراض من شأنه أن يفسّر غياب الرّيح الأثيرية على الأرض وبالتالي تفسير نتائج «مايكلسن». ولكن كيف يمكن تفسير انزياغ النجوم أي تلك الظّاهرة الطبيعية التي تؤثّر في النّظر فتجعله يشاهد الأجرام السّماوية في غير مواضعها. 
انفتاح نافذة على نور ثورة مفاهيمة قادمة
 قام الفيزيائي «هندريك لورنتز» (1853 – 1928) بمجهود نظري جبّار وصاغ معادلات حسابيّة مبنيّة على تصوّر أنّ الفضاء والزّمن يتقلّصان. وهي مفاهيم غريبة عن المفاهيم السّائدة عن الزّمان والمكان في ذلك الوقت. فالزّمان يسيل بوتيرة ثابتة والفضاء مطلق لا يتغير. وباعتماد تلك المفاهيم الجديدة، فإنّ تأثير الأثير سينعدم بحكم تقلص المسافات في اتّجاه حركته أي وبمعنى آخر فإنّ تحرّك أيّ جسم باتّجــاه الأثير يقلّــص من طوله. 
سقوط فرضية الأثير و ثورة «اينشتين» المفاهيميّة
ومع «ألبرت اينشتين» (1879 – 1955) حدثت الثّورة العلميّة. فالأثير فرضيّـة لا فائدة منها لأنّه غير موجود أصلا. و«لورنتز» كان صائبا جزئيّا لأنّ المسافات والزّمن مفاهيم لا معنى لها إذا لم نحدّد خصائص المشاهد الحركيّة، إنّها مقادير فيزيائيّة نسبيّة وغير مطلقة كما اعتقد «نيوتن» وغيره وتتغيّر بتغيّر حركة المراقب. أمّا الضّوء فهو موجة، وهذا صحيح، ولكنّه يتألّف أيضا من حبيبات من الطّاقة تسمّى «فوتونات» وهي ليست في حاجة إلى وسط حامل لها لكي تنتقل في شكل موجة وهو ما أزال الغموض الذي أحاط  بنتائج تجربة «مايكلسن» الشهيرة. أمّا سرعة الضّوء فهي ثابتة وليست نسبيّة مع حركة المراقب. وتعتبر سرعة الضّوء أحد الثّوابت الفيزيائيّة الشّهيرة التي سيبنى عليها كلّ تصور للكون يمكن افتراضه. نشرت كلّ تلك الحقائق الجديدة عام 1905 في إطار نظريّة النّسبية الخاصّة وهي تصوّر نظري متكامل للزّمان والمكان والكتلة والطاقة حيث تبيّن معادلاتها الرّياضياتية العلاقات الأساسيّة بينها جميعا. فالكتلة والطّاقة وجهان لعملة واحدة، أمّا الزّمان والمكان فلا مجال للفصل بينهما. إنّ العام 1905 هو عام ولادة مفهوم الزّمكان ومفهوم المادّة-الطاقة وهي مفاهيم سنجدها مثل سرعة الضوء في كل النظريّات التي تحاول وصف الكون و تفسيره.   
الطيف المرئي
لم تعد طبيعة الّضوء سرّا بعد كل تلك الانجازات المتراكمة عبر التّاريخ على المستوى النّظري (ابن الهيثم ، مكسوال، اينشتين..) والعملي (ابن الهيثم، رومر، مايكلسن...). وصار بمقدور العلماء تفسير العديد من الظواهر المرتبطة به. ولو نعد قليلا إلى تجربة «نيوتن» فنذكر بأن هذا الأخير تمكن من إحداث قوس قزح في مختبره بأن أمر شعاعا ضوئيا عبر منشور زجاجي وتحصل على مجموعة من الألوان المتدرّجة من البنفسجي إلى الأحمر مرورا بالأزرق والأخضر والأصفر وهي الألوان الخمسة التي باستطاعة عين الإنسان تمييزها، فيما أصبح يعرف «بالطّيف المرئي» للضّوء. و قد كان «نيوتن مدفوعا» برغبة في وضع اكتشافه في تناغم مع الموسيقى التي كانت تمثل الكمال في عهده وهو ما جعله يرى سبعة ألوان على عدد الأصوات (العلامات) الموسيقية وهي البنفسجي ثم النيلي ثم الأزرق ثم الأخضر ثم الأصفر ثم البرتقالي ثم الأحمر.  يفسّر تلك الطّيف باعتماد الطبيعة التموجيّة للضّوء. فالشعاع الأبيض القادم من الشّمس هو في الحقيقة مجموعة متداخلة من الأمواج لكلّ واحدة منها طول موجي محدّد تمثل الألوان السّبعة للطّيف. وعند الانتقال من الهواء إلى الزّجاج  قبل الخروج ثانية إلى الفضاء تغيّر كل موجة منحى حركتها بزاوية مختلفة عن الأخرى ممّا يجعلها تغادر المنشور متفرقة.
الهوامش
 (1) د. احمد فؤاد باشا، الحسن بن الهيثم ومآثره العلمية -  كتاب المجلة العربية -
      العدد  218
    ----------
           -  دكتور  بالجامعة التونسية
          ghorbel_nabil@yahoo.fr