وجهة نظر

بقلم
يسري بوعوينة
الرباعي الراعي للإرهاب (1)
 البحث في أسباب الإرهاب هو كالبحث في أسباب الفقر و أسباب التّخلف و أسباب الجريمة...لا يوجد سبب واحد ولا يوجد سبب أقوى من سبب إلاّ أنّ ذلك لا يعني أنّ الإرهاب ظاهرة مسقطة لا جذور لها في المجتمع أو أنّها بضاعة مستوردة أو هي مؤامرة حاكتها الماسونيّة والصهيونيّة والدّوائر الغربيّة والحكومات الإمبرياليّة والدّول الإستعماريّة والشّركات الكبيرة والعابرة للقارّات والقائمة تطول لأنّ الكلّ يتآمر على أمّة ضحكت من جهلها الأمم...إنّ تشريح ظاهرة الإرهاب ربّما لا يكشف لنا عن الأسباب العميقة التي تؤدّي إلى تغلغله في النّفوس والمجتمعات إلاّ أنّنا سنحاول في ما يلي أن نبيّن على الأقل «الرّباعي» الذي يرعى هذه الظّاهرة حتّى تنمو وتترعرع لتنتج الخراب والبؤس الذي ينذر بزوال العمران.
 الرّاعي الأول: الإستبداد
 كلّكم ديكتاتور و كلّكم مستبدّ على رعيته....
الإستبداد كلمة أثيرة عند العرب...لا نكاد نجد مجالا لم يطله طاعون الإستبداد في ربوعنا...من الإستبداد بالسّلطة والثّروة والجاه إلى الإستبداد في الحبّ...نعم الحبّ... حتّى في الحبّ يميل الشّرقي إلى الإستبداد، فإمّا أن يملك الرّجل زوجته كما يملك بعيرا أو حاسوبا وإلاّ فستجده قد ألقى كلّ قصائد الهجاء في هذه المرأة المسكينة...مع السّلطة الأمر يصبح أشدّ سوءا...إنّ الحاكم في بلاد العرب لا ينتقل من العرش إلاّ إلى النّعش، فلا سبيل لأن نسمع برئيس «سابق» إلاّ في حالة الوفاة الطبيعيّة أو بفعل فاعل (الاغتيال)...إنّ ملك الموت أصبح هو الفاعل السّياسي الوحيد في دولنا، فهو القادر على تغيير الجمود السّياسي وتحريك المياه الرّاكدة...ما يغيّر الأوضاع السّياسية ليست الإنتخابات بهيئتها وبهرجها وأصوات النّاخبين...ما يغيّر الأوضاع حقّا هو خبر «قد مات»...قد مات الذي نخافه ويرعبنا...لكن كما يقول المثل التّونسي البليغ «شدّ مشومك ليجيك ما أشوم»...القادم ليحكمنا هو أسوأ خلف لأسوأ سلف...إنّ التّوريث هو أبشع وأكثر حيلة تستعملها العرب....الرّئيس يورث إبنه الشّعب والأرض والجاه...والرّئيس المدير العام يورث إبنه الشّركات والديون والمظاهر....والفقير يورث ابنه الخصاصة والشّقاء والتّعاسة...لا شيء يتغيّر هنا...هذا الرّئيس هو ابن هذا الرّئيس وهذا المدير هو ابن هذا المدير وهذا الفقير هو ابن هذا الفقير...إنّ هذا ليس قدرا مقدورا ولكنّه نظام إستبداديّ مقدّس يحرسه العسس بعمائمهم وسلاحهم وبشيوخهم وجنودهم...كلّ شيء محسوم سلفا ومدننا صارت مقبرة الأحلام لمن مازلت له منّا الجرأة ليحلم....
إنّما العاجز من لا يستبد....
إنّ أسّ الإستبداد مغروس فينا...نحن لم نترب على الحريّة والديمقراطية واحترام الرّأي المخالف...لقد تربّينا على الإستبداد حتّى صار جزءا من شخصيتنا وتكويننا...في العائلة الأب هو الرّب....رب العائلة الذي يعزّ من يشاء و يذلّ من يشاء ويعطي من يشاء ويمنع من يشاء....الزّوجة مجرّد خادمة وعاملة تنظيف، بل إنّه لو كان البشر مأمورين بالسّجود لأحد لأمرت هي أن تسجد لزوجها الذي يقترب من مرتبة الإله...الأبناء مطالبون بالطّاعة مقابل الطّعام وبالتفوّق في الدّراسة مقابل السّكن.....في المدرسة والمعهد الأستاذ مستبدّ مع تلاميذه والويل والثّبور لتلميذ نابه أحرج أستاذه بسؤال فأعجزه...المدرسة أصبحت مكانا لتربية الببغاوات وللمفارقة وبكل أسف صارت المعاهد مقابر جماعيّة للعقول لا مكانا لتنميتها ورعايتها كما ترعى الأزهار والورود....إنّ التّلاميذ يعاملون أستاذتهم (الذين لا يزعجهم ذلك بتاتا) كالإلهة التي لا تخطأ فتغدو مناقشتهم ضربا من التّهور وقلّة الاحترام...ما يزيد هذا الوضع تردّيا البرامج الدراسيّة البالية التي تنفّر من المدرسة وتجعل من بضع ساعات من الدّراسة أشبه بسنوات من الملل والضّجر....لطالما استغربت منذ كنت تلميذا وإلى الآن، لماذا ندرس الحضارة القرطاجنيّة في مادّة التّاريخ فنحفظ الأسماء والأماكن عن ظهر قلب ولا تكلّف وزارة التّربية (عن طريق إدارة المعهد) نفسها عناء تنظيم رحلة إلى مدينة قرطاج الموجودة في ضواحي العاصمة وليس في المكسيك لنرى بأعيننا شواهد التّاريخ وليس من رأى كمن درس وسمع؟ لماذا لا يزور التّلاميذ متاحف باردو وشمتو وسوسة؟ لماذا هم في قطيعة مع المسارح والمتاحف والمعارض الفنيّة؟ لماذا لا نمكّنهم من الحضور مجانا في المهرجانات الصيفية بشرط الدّخول برفقة الوليّ وهو ما سيساهم في خلق حركيّة ثقافيّة وعودة الرّوح إلى عروض فنّية يحضرها أحيانا المنظّمون فقط؟ لماذا نحيل أكثر من مليوني تلميذ على البطالة الإجباريّة خلال فترة مطوّلة وهي شهرين ونصف، أي عطلة الصّيف دون تفكير في الإستفادة منهم وإفادتهم؟ كان من الأحرى إجبارهم (نعم إجبارهم) على العمل التّطوعي لمدّة أقلّها شهر في الجمعيّات ( بشرط تعاقدها مع وزارة التّربية) لأنّ غرس العمل التّطوعي في نفوس الشّباب لا يكون فقط عن طريق الشّعارات... يمكن مثلا عوض تعليق ألف لافتة تحثّ على النّظافة لا تتفاعل معها سوى الأعين وتعمى القلوب التي في الصّدور...كان يمكن تنظيم يوم للنّظافة يساهم فيه التّلاميذ إجباريا ليشعروا بقيمة النّظافة و أنّ المدن النّظيفة لا تصنعها الشّعارات و لكن العقول...إنّ الإستبداد الإداري (من بيروقراطية وجمود وصراع على المناصب الإدارية وغير ذلك) هو من يقف عائقا أمام كل دعوات الإصلاح و يمنع مجتمعنا من التّقدم.....لقد تركنا بناة مستقبلنا يهيمون في الشّوارع ويسبحون في البحار وفي الفايس بوك...لا تلوموا أحدا إذا غدا خاب الحصاد....
في الشغل يستبد ربّ العمل بمستخدميه فلمجرد كونه صاحب العمل فهو يعتبر نفسه الأقدر والأذكى والأكثر كفاءة وحرصا على تطوير الإنتاج وهلم جرّا...نادرا ما يسمح للعامل في بلادنا بالتطوير والإبتكار والمشاركة الفاعلة في بناء المؤسّسة؟ إنّ العامل يشعر فعلا بالإغتراب في عمله وساعات العمل تصبح أشبه بسجن اضطراري يتكرّر كل يوم. إنّ كل دقيقة يضيّعها العامل من وقت الإنتاج تعتبر في نظره مكسبا وغنيمة فهو يريد الانتقام من مؤجّره الذي تحوّل إلى سجّانه. كيف لا يشعر هذا العامل بالحقد والإحباط والثّروات تتراكم عند مؤجّره أمّا هو فيزداد فقرا وخصاصة...كيف لا يشعر بالمهانة والزيادة في راتبه تستلزم مفاوضات شاقّة أعقد من المفاوضات الفلسطينية الإسرائيلية وحجج المؤجّرين في رفض الزّيادة دائما حاضرة وموجودة وهي ضعف الإنتاج وتراجع المبيعات وانخفاض الطّلب وكثرة المصاريف والظرف الإقتصادي الخانق  في تونس وفي العالم....إنّ الجميع يهتم بالدّورة الإقتصادية و تطوير طرق الإنتاج والبيع وتحسين القدرات الفنية للشركات وتنظيم طرق المنافسة وغير ذلك ولكن لا أحد يتطرّق إلى العلاقة الإستبداديّة التي تربط بين المؤجّر وأجيره وهي الحلقة المفقودة في الدورة الإقتصادية والتي يؤدّي إهمالها إلى الوضع الكارثي الذي نعيشه في مؤسساتنا الإقتصادية التي تشبه المعتقلات...إنّ تحسين العلاقة بين الأجير ومؤجره وتحويلها من علاقة عدائية وإنتقامية إلى علاقة شراكة وتفاعل من أجل خدمة المؤسسة هو اللّبنة الأولى في كل صرح إقتصادي نريد بنائه...
 حيث ما تولي وجهك هناك إستبداد.... هناك خنق للحرّية.... هناك ضجر وقلق لا يخفى في وجوه النّاس...نحن لا ولم نعرف معنى الحرّية...لم نستمتع بالحياة...يستعجل بعضنا الموت فيذهب إلى حتفه منتحرا ويختار البعض الآخر أن يموت قاتلا (مفجّرا ومفخّخا وانغماسيا)...في كلتا الحالتين نحن إمّا قاتل أو مقتول...لقد انتصرت ثقافة الموت على ثقافة الحياة...الحياة التي حرمنا منها الإستبداد....
------
- طالب مرحلة ثالثة في العلوم السياسية
yosri.bouaouina@gmail.com