قبل الوداع

بقلم
لطفي الدهواثي
أمي
(1)
في الذاكرة صور متعددة لأم واحدة  هي أمي وفي القلب صورة واحدة لا تفارقني ولم تفارقني منذ أشرقت في ذاكرتي إلى يومنا هذا رغم مرور ثمانية عشر عاما هي عمر الوفاة.
(2)
أما الصورة التي في القلب فتلك التي انغرزت في ذاكرتي وأنا أحملها في المستشفي من طابق إلى آخر ومن طبيب إلى طبيب وهي تكاد تذوي من شدّة ما بها من ضمور، عينان متوهّجتان ووجه يمتلئ حيرة ومعاناة وأسئلة. كانت صورة لامرأة شرعت في المغادرة من دون ضجيج ومن دون أيّ إشارة إلى أنّ الرحلة قاربت الانتهاء وأنّ السّفينة سترسو على ساحل الذكريات. 
لم يكن في الوسع قراءة الصّورة تلك علي النّحو الذي قرأته بها في ما أعقب ذلك من أيام لأنّ الأمل كان أكثر إغراء من الألم ولكنّي تألّمت من كوني أخفقت في القبض على لحظة تاريخيّة كان بالإمكان استغلالها كما يجب في صحبة هي أقرب ما تكون إلى الوداع والرفقة لعلّ وعسى أن يقول المرء لأمّه في النّهاية ما لم يقله في فسحة العمر الطّويل أو أن يفعل شيئا لم يفعله في سنوات الدّعة والشّدة  أو أن يعتذر عن شئ نسي الاعتذار عنه ولكن تأخرالإدراك فغاب الفعل وتلك قمّة المأساة والموت داهم.
(3)
جاء جدّي لأمّي زائرا لوالدي في منامه ليطلب منه استرجاع حقيبة أعطاه إيّاها من قبل فلم يتردّد والدي في ردّها وسرعان ما أفاق فزعا لاهثا نادما على ردّ الحقيبة لجدّي لائما نفسه على العجلة وغياب البديهة وما كان تأويل الحلم ممكنا بغير الصّورة التي أوّله بها والدي وما كانت الحقيبة سوى أمّي التي جاء جدّي يستردّها من والدي بعد رحلة عمر طويل من الرّفقة والحبّ والعروة الوثقى. 
لا تختزل صورة الحلم على النّحو الذي ورد به، ومستخلص التّأويل السّريع، فكرة العبور من الحياة إلى الموت، بقدر ما تختزل حكمة الأوّلين وصفاء عقيدتهم وروحهم، فكأنّ والدي أؤتمن على صاحب في السفر الطويل، وكأنّ والدتي كانت منارة لوالدي إليها يعود في كلّ شئ، وقد عشت في صحبتهم سويّا زمنا ليس باليسير وما رأيتهما إلاّ أقرب إلى الصّورة التي وردت في الحلم كيانين تجمعهما كلمة الدّين وعروته التي لا انفصام لها وتوثق مودّتهما قرابة دمويّة وثيقة. لا تمضي والدتي إلاّ حيث يمضي والدي ولا يرى والدي سكنا له من دونها.
(4)
تلك الصّورة التي امتدت في القلب تحلّ معي حيثما حللت، ولكن غيرها من الصّور كثير وقد كانت والدتي كيانا ينبض بالحياة والمعاناة. 
(5)
في الصّبا كما في الطّفولة لا شئ من أسباب الحياة كان متوفّرا وبالكاد كان المرء يتدبّر أكل أطفاله وشربهم، ففي زمن الاستعمار كانت الحياة لا تحتمل من شدّة الفاقة، ولعلّ ذلك ما أورث والدتي حزمة من الأمراض كانت تظهر في حياتها تباعا حتّى نشأت مريضة وماتت كذلك. ففي الطّفولة والصبا لم يكن بوسع أحد أن يتداوى وحين جاء الاستقلال وصار بالإمكان الذّهاب إلي طبيب كان الأوان قد فات.
(6) 
فتحت المدرسة أبوابها وكان لزاما علي قطع مسافة طويلة مشيا على القدمين فكانت أمّي تأخذ بيدي وأنا صبيّ وتجري بي إلى أقرب حيّ به أطفال يرتادون المدرسة حتى لا أذهب وحدي. وحين الجري كان قلبها يخفق بقوة وكان جريها متقطّعا بفعل مرض القلب، وهو المرض الذي رافقها منذ طفولتها حتى الغياب ولم ينفع معه العلاج. تزوّجت وأنجبت ورحلت وعادت وربّت وكابدت زمنا طويلا وهي لا تكاد تقوى على الوقوف أحيانا من شدّة الألم. وقد كانت صورة الألم تلك أكثر الصّور إيلاما لها ولنا جميعا والأدهى من الألم ما عانيناه وعانته من عجز أمام المرض.
(7)
كانت والدتي من هؤلاء اللذين حباهم الله بذكاء فطري شديد فلم تلبث مع تقدّم العمر وارتحالها الى المدينة أن أسقطت المرض من حسابها لتقبل على الحياة إقبال القادر لا إقبال العاجز، فجمعت إلى فطرة أهل الرّيف وعاداتهم حنكة أهل المدينة وكياستهم وحبّهم للعمران. نفضت والدتي عن كتفيها كل المعيقات التي جاءت بها من زمن الطفولة والصبا وأقبلت على الحياة بقوّة وزاد تعلّقها بها حين استطاعت أن تنحت كيانها من جديد وأن تتعلّم من حياة المدينة ما لم يكن تعلّمه ممكنا في الريف. 
وتلك صورة أخرى لأمّي علقت في ذاكرتي أتذكّرها كلّما كثر الحديث عن المــرأة في زمن النّفاق هذا، إذ لم تلتفت أمّي لحديث المترفين من هؤلاء يوما وكان لها مذهبها في تحصيل الحقوق وفي خوض الحياة بكلمة الله وحده من دون الغوص في التّأويل الذي لا يفيد.
(8)
لم تكن والدتي إلاّ نموذجا من نماذج لا تحصى لبشر مرّوا على هذه الحياة فلم يحدثوا ضجيجا ولكّنهم تركوا لنا معنى قريبا منّا وتركوا فينا صورا للحياة أقرب ما تكون للفطرة بعيدا عن التّشويه والمغالاة. 
كلما تذكرتها أحسست بشئ داخلي يبكي.
 .------
- مستشار في الخدمة الإجتماعيّة
lotfidahwathi2@gmail.com