نقاط على الحروف

بقلم
يسري بن ساسي
تحرير المرأة ... تحرير الوطن
 «لا أفرّق بين تحرير المرأة و تحرير الوطن» هكذا لخّصت  الدّكتورة نوال السّعداوي ما قد نتناوله من بعض زوايا «قضيّة» المرأة في مجتمعاتنا. نعم لازالت المرأة «قضيّة» ونفرد لها المقالات وللأسف  بالخصوص في بلادنا العربيّة.. ولازال لها عيد ولازالت لها وزارة كأنّها جنس لوحده من دون البشر. وأنا لا أكتب احتفاء بهذا العيد بل طامحة آملة أن لا يعود له ذكر يوما ما..  فإذا كانت المرأة محور هاته الحياة ورحم هذا الكون من البشر فكيف يجوز أن تكون مناسبة أو عيدا نحتفل به إلاّ أن نكون اعتبرناها طفرة إنسانيّة حادثة فيما هي مخاض الإنسانيّة جمعاء. هل سمعتم عمّن يصلب البحر في إناء أو يضع الشّمس في موقد.. هذا العيد عبط وتلك الوزارة اعتباط أكبر ..كلاهما يكرّسان الاعتراف المشبوه والمضمّن بدونيّة المرأة ..وهي لا تطلب أيضا فوقيّة مصطنعة ..هي تطلب فقط منظورا إنسانيّا خالصا لا لفتة كريمة كأنّها تتوسّل الحسنات وتستجدي الإشادات بما وصلت إليه من مراتب...لقد «أنجزت المرأة» و«تطوّرت المرأة» و«حقّقت المرأة» ..إنّ المفاخر بما وصلت إليه المرأة في ميادين عدّة هو ذاته يحمل في جينات تفكيره التّقليدي النّظرة التّحقيريّة لإمكانياتها والمستصغرة لطاقاتها مع أنّ الله تعالى حبا البشر جميعهم عقولا ومقدرات وميزات لم يفرق فيها في ذلك بين نساء ورجال وكلّفنا نفس التّكليف عدا بعض الاختلافات الطّفيفة، فلماذا يدهشنا أن «تنجز المرأة» و«تحقّق المرأة» و«تتقدّم المرأة» و«تخترع المرأة» والغريب والعجيب ألاّ تفعل..الأدعى للاستغراب أن لا تناصف الرّجل ما ذهب إليه أشوطا في الفكر والعلوم والثّقافة  ..الأغرب أن لا تجد ذات الحظوظ ندّا لند معه والمسألة ليست مسألة تنافس ومباراة من السّباق والتّناطح ولكن متى يكون الحكم على المرأة حكما إنسانيّا بحتا وننسى أنّ لها تركيبة جسديّة وفيزيولوجية مختلفة ..هل هذا ضرب من المستحيل أم أنّ في هذا ظلما مستترا للمرأة في ذات الوقت باعتبار ما يفرضه عليها هذا الاختلاف في التّركيبة من  التزامات قد تغدو قيودا لا مفرّ منها.. أم أنّه بالإمكان فعلا أن تتحرّر المرأة ..ولا من يجيبني فيقول تحرّرت المرأة.. جرّدوها وتجرّدت من ملابسها، نعم..ألبسوها ولبست قمقما من سواد، نعم ..دخّنت السّيجار وارتادت الملاهي أو ذهبت للجهاد المزعوم، نعم ...تحمّل كاهلها أعباء العمل وأعباء الأطفال وأعباء  البيت نعم.. تجلس عند«الكوافير» ساعات و«المناكير» ساعات أخرى وتتبع آخر تقليعات الموضة وتركض عند المنحفين وشافطي الشّحوم وجراحي التّجميل لتصغر أنفا أو تصطنع شفاها أكبر وتتقفى التّجاعيد وتهلك وراء مواد التّجميل والمساحيق كي يرضى المجتمع عن خلقتها ويرضى صاحب السّمو قبل أن يفرّ إلى غيرها ونعم.. لكن أنّها قد تحرّرت، كانت قد أجابتكم الدكتورة نوال السعداوي.. هل رأيتم لنا أوطانا تتحرّر أم تزداد جهلا وتخلّفا وعبوديّة وعنفا..إذن فالجواب بيّن والحقيقة أظهر ..لم تتحرّر المرأة بل ازدادت عبوديّة ..كانت أمة..فأصبحت أمتين أو بالأحرى ثلاث.. زوج يستعبدها في البيت وربّ عمل يستعبدها ويستغلها في الخارج ومجتمع سلطوي مريض بالمظاهر يكبلها بالعادات البالية والتقاليد البائدة ويحدّد لها طريقها ومسارها.. ونحن هنا لسنا لنعدّد المكاسب ونشيد بالإنجازات.. إنّ على ذلك في عصر كهذا الذي نحيا أن يغدو حديثا من السّخافات وضربا من العبارات الفضفاضة ما أغنانا عنها في وقتنا الرّاهن ..إلاّ أن نكون من القائلين تسطيحا ناقصات عقل ودين ..لم تتحرّر المرأة..لأنّ الحرّية هي ما منحنا الله إيّاه من حريّة الإرادة والاختيار.. وكان الله من عدله ورحمته أن حرّر كلّ البشر دون استثناء وكان الانسان من ضيق نظره وقصر أفقه أن عاد إلى الأصفاد يكبّل نفسه بها .. والمرأة لا زالت تتعثّر في أخذ زمام أمرها بنفسها وترتطم في كثير من الأحيان بجدران من الإسمنت الفكري والجهل المقنّع.. ولازالت الأوطان تنتهك وتغتصب ولازال جسد المرأة هو الجرم المشهور والشّرف المهدور والذّنب الذي لم تقترفه ..إذا أردت أن تشيد بموقف امرأة قلت امرأة ولا ألف رجل، فالنّساء خلقن لنصف العقول ونصف المواقف وخلق الرّجل ليكتمل موقفه.. ولم نر موقفا أكبر اكتمالا من «حملته أمّه وهنا على وهن وفصاله في عامين» كما تقول الآية الكريمة....إنّ أحسنت المرأة القيادة شبّهت بالرّجل وإن أساءت فلأنّها امرأة وهذا نسمعه في أحاديثنا اليوميّة ونعاينه في جلّ مناحي المعيشة.. بالضّبط كما تقول «كلير بوث لوس» الكاتبة الأمريكية «لأنّني امرأة يجب عليّ أن أقوم بجهود غير عاديّة للنّجاح، وإذا فشلت لن يقول أحد فشلت لأنّها لا تمتلك القدرة على ذلك العمل بل سيقولون النّساء لا يمتلكن القدرة» فللرّجال حسن المناقب وللنّساء شين العيوب..
 لم نسمع كثيرا في بلادنا عن امرأة فيلسوفة أو امرأة تقود حزبا أو امرأة رئيسة وزراء فهناك مجالات تظلّ حكرا على الرّجل لا لعجز مدركات النّساء في الحقيقة ولا للعاطفة الغالبة على عقولهن، فهناك من فقن الرّجال في حزمهن وشدّتهن في العمل ولكن لفرط ما تتطلّبه هاته المجالات من تفرّغ قد ينوب منه الرّجل تقصير المرأة في شؤون أسرتها.. الغريب أنّه لم يتخلّص من عقدة ضرورة  توفيق المرأة  بين عملها وأسرتها ومسألة ترتيب الأولويّات وضرورة تقديم بيتها وأطفالها لأنّها اختصاصات نسويّة بحتة .. ولسنا ننكر أحيانا ونحن نرى بعض الأطفال يحرمون باكرا من هذا الحنان ولا يكاد الواحد منهم يتمّ شهرا أو شهرين حتى تتلقفه المحاضن وعلب الحليب المصنّع أننا نشفق على هؤلاء، فلا نعود نستغرب فضاضة هاته الأجيال وغلظة قلوبها، فهي لم تتشرّب حنانا ولم تتذوّق رأفة ..ولكن هل هي فعلا ضريبة خروجها للعمل أم هناك مجاديف أخرى للمسألة.. 
الجليّ أنّنا في مجتمعاتنا الشّرقية وبالخصوص نحذو حذو من يريد أن يتشفّى في المرأة لقاء ما يمنحه لها العمل من استقلاليّة لا حذو من يريد أن يساندهـا ويآزرهــا ويساعدهـا بل وإن لزم الأمر أن يشجّعها إن وجد منها تمرّسا في مجال ما أو موهبة في نطاق آخر.. بل يخيل لي أحيانا أنّ الرّجل الشّرقي يبدو كالشّامت في غريمه الذي أراد الحريّة فصارت له لجاما من نار وطوقا من سعير وهو ذاته يبدو لا مخيّرا في هاته المسألة لأنّ لا طاقة له بعد بتحمّل الأعباء الماليّة وحده في ظلّ الصّعوبات المادّية ولو كان بيده وسايرته المرأة لما وجد لها مكانا أفضل من البيت خادمة راعية في معقول النّظر ملكة معزّزة في نظر الرّجل ..وعمق المشكلة مكمنها في هاته العقليّة التي تدّعي أنّها تخشى على ضياع الأسرة وشتاتها ولكن لا قوانيننا الوضعيّة ولا قيمنا المجتمعية  تألو جهودا لصون هاته العائلة التي صار يسيرا انفراطها وتكاد تكون معدومة لحمتها والحجة الواهية خروج المرأة للعمل.. ليس لأنّ المجتمعات الغربيّة هي المثال الأجدى الذي علينا ضرورة أن نتّبعه كما هو بحذافيره ولكن أذكر ذلك لأنّ العديد منها أوجد قوانين وآليات تساير طبيعة المرأة عوض أن تربكها وتعطّل مسيرتها في العمل وتضعها بين المطرقة والسندان كما هو الحال عندنا، فالهدف ليس تخيّيرها بين أمرين أحلاهما مرّ ولكن دعمها وفتح السّبل أمامها بما يضمن أيضا عدم المساس بتماسك الأسرة ووحدتها وبرغم أنّنا نزعم حرصنا على العلاقات الأسريّة ولكن هاته الأخيرة صارت أكثر هشاشة ممّا قد تعرفه مجتمعات أخرى مع أنّها أيضا قد لا تخلو من أشكال التّمييز ضدّ المرأة التي قد تصطبغ بصبغات  مختلفة أو قد  تبدو  أكثر تنميقا وأخفى ظهورا وأكسى جاذبية.
والرّجل الشّرقي أيضا متى خشي أن يحرمه استمتاع المرأة بما يستمتع به في مجالات الفنون والفكر والثقافة والعلم راحته واستجمامه في بيته، انقلب إلى المتّهمة مدعيا عاما ووكيلا عن مصلحة الأسرة يكيل لها التقصير وسوء التصرف وبدل «فسيري بقربي كفا بكف» فالعاقبة سيري ورائي لسنا كفأ بكفأ لأنّ الأولى تقايض الرّجل الكثير من أنانيته وهنائه والثانية مدعاة لنعيم الخلود والانفراد بجنّة تفرغه لاهتمامته وإذا كانت بعض الأمور لا يقدر عليها الرّجل فإنّ معظمها ما جاء في ذكر أو قاموس أنّها خلقت للمرأة من طبخ ونفخ وغسيل وتنظيف وليس عسيرا أمرها ولكن كما آنفت ذكرا يخشى الرّجل تقاسم ذلك مع المرأة لأنّه يريد الانفراد بوقت الفراغ أو غيره للأمور التي يهواها ولا يحقّ للمرأة هواها .. وحتّى صورة المرأة المناضلة والثوريّة في ذهنيته وبالذات المثقّف منه لم تتغيّر ولم تتحرّر من نمطيتها فهي لابد «يسارية» الهوى وإن لم تفصح.. متحرّرة في عدد السّجائر التي تدخنها وقوارير الخمرة التي تحتسيها والعلاقات التي تنسجها تكاد تكون فوضويّة عبثيّة برغم كل الفكر لديها والثّقافة التي تمتلكها ولا هي تصلح للقيادة السّياسية ولا هي تصلح للبيت والأسرة وهذا ما أطّلع عليه مؤخرا ضمن إحدى شخصيّات الرّوايات النّاجحة.. 
ولا يأخذن منّي هذا تحاملا على الرّجل العربي مطلقا فالعكس واقع والتّعميم قصور في الرّؤية وعدم في التّفكير ولكنّنا متى لامسنا مواطن الدّاء استطعنا أن نحتكم علاجا والحقيقة إذا كان الرّجل الشّرقي قد يبدو معيقا في مسيرة المرأة ومطلق حياتها أحيانا وكثيرا فهذا ليس أوّلا وأساسا ذنبه وعيبه بل هو في عمق النّظر وغوص الحقيقة عقدة المرأة داخلها لأنّها هي من شاءت أن ينشأ هذا الأخير ذاته مقدرا صائنا بل وأحيانا مقدّسا لها أو من شاءت أن تربّي محقرا مستصغرا متعاليا عليها .. لن تتحرّر المرأة إلاّ متى حرّرت نفسها بنفسها لا متى حرّرها الرّجل ولهذا لازلنا لا نستطعم تحريرا حقيقيّا ..هذا الرّجل هو من يحتاج أن تحرّره امرأة.. وطالما ظلّت المسألة معكوسة بأنّه هو من يبدأ فيحاول أن يساعدها.. فالمرأة تراوح مكانها وينشطر قرارها وتجزء حرّيتها والحال أنّ المولود الصّغير رجل والأم امرأة والأم أمّة ومدرسة .. وسأختم كما بدأت بما قالته الدكتورة نوال السعداوي «على الكتابة أن تكون ثورة» وأزيد فأقول على المرأة أن تكون كاتبة الثّورة.. ثورة الفكر وعقل الثّورة .. لكي تحدث فعلا ثورة وتحرّر أوطاننا من كافّة أشكال الاستعمار والاستحمار..
-----
- طبيبة وكاتبة تونسية
docyosra@hotmail.fr